المقال رقم 11 من 12 في سلسلة تكوين التوراة

بعدما قُتل ال وانهارت ، اضطر أحد الكتّاب لتعديل ما تمت كتابته في التأريخ التثنوي لكي يسجل الأحداث التي حدثت، وفي نفس الوقت، حاول أن يعيد تأويل التأريخ التثنوي للأحداث لإن الإصدار الأول من التأريخ التثنوي تأويله متفائل جدًا وبدأ في الانفصال عن الواقع الذي صار اليهود إليه بعد انهيار مملكة يهوذا.

هناك معايير معينة حتى يتمكن الباحثين من تمييز النصوص المضافة على متزن أقدم، على سبيل المثال ﻻ الحصر، إن حدث تغيّر حاد في الصيغة النَحْوِيّة للجملة، كأن يكون السرد منسجمًا بضمير المفرد ثم فجأة تتغير الضمائر إلى ضمير الجمع بدل المفرد أو ما شابه، أو أن النص مثار الفحص والتدقيق ظهر فيه ألفاظ أو مفردات أو تعبيرات معينة لم يتم استخدامها مع نصوص أخرى، أو أن يتم كسر الموضوع فجأة، كأن تكون السردية عن موضوع ثم تقفز لموضوع آخر، أو أن يتم الالتفات لنقطة ليست ذات صلة، أيضا طريقة بناء الجملة والبناء الأدبي للنص.

كل هذه المعايير توضح للباحث المدقق إن كان النص مثار الفحص أصليًا أم مضافًا، وهي نفس الأدلة المُتبعة في بداية حلقاتنا لتقييم النصوص إذا ما كانت من أم الإيلوهي أم الكهنوتي. لكن في حالة التمييز بين الإصدار التثنوي الأول [Dtr1] والثاني [Dtr2]، فالأمر أصعب، ففي الأمثلة الأولى كان كل تقليد يكتب نصًا مستقلًا خاصًا به، ثم تم دمج النصين في مرحلة لاحقة. تذكَر عندما فصلنا بين قصة الطوفان في التقليد اليهوَي و على سبيل المثال، كانت كل قصة منفردة تقف متماسكة ومتناسقة، لأن كل نص كُتب هكذا منفردًا بالأصل، لكن ليس هذا هو الحال مع الثاني، والذي أخد التقليد التثنوي الأول وأضاف بضعة عبارات بين السطور، ومقطع في النهاية وهذا هو كل شيء.

لذلك، فصل الإصداران عن بعضهما في هذه الحالة سيكون أصعب لأنه ﻻ وجود للثُنائيات التي كانت في حالة التقليد اليهوي والكهنوتي والإيلوهي، ولكي يقال على نص أنه مُضاف من الإصدار التثنوي الثاني، فلابد من اقتران أكثر من دليل ومعيار يعضد بعضهم بعضا في نفس الاتجاه.

خريطة الشرق الأدنى القديم 1500-1300ق.مكمثال على ما نقول، ولو افترضنا أن النص يتحدث مثلا عن سبي اليهود أو تشتتهم في الأرض، فهذا ليس بدليلٍ كافٍ أن النص كُتب بعد السبي في الإصدار التثنوي الثاني، لأن مسألة الخوف من السبي والتبدد في الأرض هو خوف طبيعي بالنسبة للشعب العبراني في هذا الزمن، خصوصًا أن مملكتيّ يهوذا وإسرائيل تعتبران ممالكًا صغيرة إذا ما تمت المقارنة بالممالك القوية المُحيطة مثل مصر وآشور وبابل.

وعلى هذا، فمسألة الخوف من الشتات، أو التهديد به للشعب إن لم يتمسّكوا بالشريعة، لا تُعد دليلًا كافيًا بمفردها على أنّ النص مُضافٌ بعد انهيار المملكة وحدوث السبي، لكن، إن حدث هذا وكان النص مقحمًا، أو قاطعًا لسردية السياق، أو مقترنًا بكسر في البنية النَحْوِيّة، أو حدث الالتفات المفاجئ في ضمير المتكلم، فعندها يمكن أن تتضافر هذه الأدلة لترجيح أن النص مثار الفحص قد تمت إضافته في الإصدار التثنوي الثاني فعلًا.

بعض النصوص التي بهذا الشكل، هي النصوص التالية: (تثنية 4: 26، 27 – يشوع 23: 16 – تثنية 28: 36، 63، 64 – تثنية 30: 18 – ملوك أول 9: 7)، وكلها مكتوبة تقريبًا بنفس الطريقة ونفس التعبيرات. وبهذا الشكل يمكننا القول أن الخوف من الشتات هو موضوع وفكر طبيعي، ومتأصل داخل التأريخ التثنوي، وليس هذا وحسب، فالكاتب يوضح أيضًا السبب الذي قد يؤدي للشتات والتبدد في الأرض، وهو عبادة آلهة غير يهوَه:

وقال يهوَه لموسى: «ها أنت ترقد مع آبائك، فيقوم هذا الشعب ويزني خلف آلهة الأجنبيين في الأرض التي هو داخل إليها في ما بينهم، ويتركني وينكث عهدي الذي قطعته معه. فيشتعل غضبي عليه في ذلك اليوم، وأتركه وأحجب وجهي عنه، فيكون مأكلة، وتصيبه شرور كثيرة وشدائد حتى يقول في ذلك اليوم: أما لأن إلهي ليس في وسطي أصابتني هذه الشرور! وأنا أحجب وجهي في ذلك اليوم لأجل جميع الشر الذي عمله، إذ التفت إلى آلهة أخرى.

(سفر تثنية الإشتراع، الإصحاح 31: 16-18)

وبعد ذلك، يحاول الكاتب أن يجد شخصًا ليلقي عليه اللوم لحدوث هذا العقاب الجماعي بهذا الشكل في تاريخ المملكة، وفي حالتنا هنا، فهذا الشخص كان الملك منسَّى، الملك الذي شروره كانت عظيمة جدًا حتّى إن التطهير الذي قام به الملك يوشيا لم يكن كافيًا لتغطيتها:

ولكن يهوَه لم يرجع عن حمو غضبه العظيم، لأن غضبه حمي على يهوذا من أجل جميع الإغاظات التي أغاظه إياها منسى. فقال يهوَه: «إني أنزع يهوذا أيضا من أمامي كما نزعت إسرائيل، وأرفض هذه المدينة التي اخترتها أورشليم والبيت الذي قلت يكون اسمي فيه».

(سفر الملوك الثاني، الإصحاح 23: 26-27)

فيما بعد، أضاف المؤرخ التثنوي تاريخ الأربعة ملوك الذين حكموا بعد الملك يوشيا، وعلى نفس نهج الإصدار التثنوي الأول، يوضح أن كل واحد فيهم: صنع الشر في عيني الرب.

مازال شيئًا متبقيًا، وهو أنّ العهد الذي بين يهوَه وداود، كان عهدًا أبديًا غير مشروطًا. ولذلك يقوم الكاتب في الإصدار الثاني للتأريخ التثنوي بلفت النظر لعهدٍ أقدم من العهد مع داود، وهو العهد مع موسى، والذي كان عهدًا مشروطًا بالتزام الشعب بالشريعة.

وعلى هذا، تكون المحصّلة أن الكاتب أضاف فكرة السبي والشتات بين السطور باعتبارها نتيجة أيضًا لعصيان الشعب وتركه للشريعة، يبدو هذا واضحًا في سفر الملوك في الإصدار التثنوي الأول حيث يظهر يهوَه لل، ويتم التأكيد على عهد داود، وأن الهيكل سيظل موجودًا للأبد:

أن يهوَه تراءى لسليمان ثانية كما تراءى له في جبعون. وقال له يهوَه: «قد سمعت صلاتك وتضرعك الذي تضرعت به أمامي. قدست هذا البيت الذي بنيته لأجل وضع اسمي فيه إلى الأبد، وتكون عيناي وقلبي هناك كل الأيام.

(سفر الملوك الأول، الإصحاح 9: 2-3)

لكن في النصوص التي تلي هذا، أو التابعة للمصدر التثنوي الثاني، يعود الكاتب ويرسم تصوّر العهد الذي حدث مع موسى وشعب بني إسرائيل في البرية، وفي هذا التصورّ، فالعهد مشروطًا بالتوحيد الخالص ليهوَه، وأن الشعب لو عبد آلهة أخرى فستكون العقوبة هي الشتات وتدمير الهيكل.

هذه الصورة أيضاّ تجعل العهد الذي حدث مع موسى هو عهد الشعب، وتلقي عليه بالمسؤولية، فالشعب لو احتكم بالشريعة سيكون على ما يرام وبأحسن حال، لكن إن لم ينفذ حدود يهوَه سيعاقب بالتشتت والضعف والهزيمة والمرض ويصبح الحال سيئًا. العهد الذي مع داود هو عهد لشخص داود، وﻻ يعني ديمومة المُلك من نسله إلا من خلال تحقيق العهد مع موسى في الصورة، فالعهد الثاني يكون بلا معنى دون شعب يَحكمه الملك.

وعلى هذه الصورة الجديدة، أصبح تفسير العهد مع داود يعني أن العرش سيكون دائمًا وأبدًا مُتاحًا لأن يجلس عليه أحد من نسل داود، إن طبّق الشعب الشريعة. وهذه الصورة الأخيرة المكتملة كان لها أثرًا عظيمًا جدًا على تصورات اليهودية [والمسيحية] فيما بعد، وأنه: من نسل داود، سيأتي ملك مُخلّص [مسيّا] يحكم الشعب بالعدل بحسب شريعة موسى.

آخر لعنة في فصل اللعنات في سفر تثنية الاشتراع من الإصدار الثاني، هي عقوبة العودة لمصر، البلد الذي تم استعباد العبرانيين فيها بحسب تقليدهم:

ويردك يهوَه إلى مصر في سُفنٍ، في الطريق التي قلت لك لا تعد تراها، فتباعون هناك لأعدائك عبيدا وإماء، وليس من يشتري.

(سفر تثنية الإشتراع، الإصحاح 28: 68)

وهو ما تحقق بالفعل في زمن انهيار مملكة يهوذا:

فقام جميع الشعب من الصغير إلى الكبير ورؤساء الجيوش وجاءوا إلى مصر، لأنهم خافوا من الكلدانيين.

(سفر الملوك الثاني، الإصحاح 25: 26)

 

لكن، لحظة..

من الذي كتب الإصدار التثنوي الثاني؟

هناك ملاحظتان ينبغي وضعهما نصب الأعين:

1- التشابه في أسلوب الكتابة بين الإصدارين قوي جدًا ويصل لمرحلة التطابق. تقريبًا ﻻ يوجد اختلاف.

2- الفترة الزمنية بين الإصدار الأول والثاني هي 22 سنة فقط. أي من نفس الجيل في فترة حياة كاتب الإصدار الأوّل.

وهذا يعني الإمكانية لنفس الشخص الذي أنتج الإصدار الأول، أن ينتج أيضًا الإصدار الثاني، ولهذا قرائنه القوية مثل لماذا أكمل وعدّل أمور بسيطة لكن لم يُعد التأريخ من نقطة الصفر بشكل موازً من أوّل ال إلى انهيار مملكة يهوذا. الإصدار التثنوي الثاني في النهاية ﻻ يشكّل أكثر من 5% فقط من التأريخ التثنوي.

هناك أيضًا مؤشرات أن الكاتب قد عاش بعد السبيّ ولم يقتل أو يؤخذ أسيرًا، بل ارتحل إلى مصر مع المرتحلين عقب قتل جدليا بسبب النصوص المُقتبسة بالأعلى.

في الواقع، هناك نبيٌّ مُهم يُقال أنه عايش هذه الفترة، وتنطبق عليه كل السمات التي بينّا أن كاتب التقليد التثنوي يفضلها، وهذا الشخص هو: ال.

النبي إرميا كان من كهنة شيلوه. النبي إرميا كان يحب الملك يوشيا وكتب مرثيّته عندما مات [المرثية التي كتبها إرميا مفقودة، وسفر المراثي المنسوب لإرميا مكتوب في زمن مُتأخر عن زمن إرميا]، النبي إرميا لم يكن يحب الملوك الذين حكموا بعد يوشيا من نسله. النبي إرميا كان ابن كاهن اسمه حلقيا [ربما يكون هو نفسه ، الذي اكتشف الشريعة في الهيكل]، سفر إرميا أسلوبه مشابه جدًا لنصوص كثير من التقليد التثنوي الأول والثاني. ليس كل هذا وحسب، بل حتّى في ال تم نسب سفر الملوك لإرميا.

في سفر إرميا، كتب إرميا نبوءاته بشكل شِعري، وكتب عن حياته وأعماله بشكل نثري، البعض يُرجح أن الشعر ألفه النبي إرميا، وأنّ تلميذه، باروخ بن نيريا، والذي ارتحل معه لمصر أيضا، هو من كتب النثر، وهذا مذكور في سفر إرميا نفسه، وأن باروك [باروخ] كان يكتب الكلام الذي يسمع عن إرميا من يهوَه، في سفر إرميا.

وعلى هذا، فمن الوارد جدًا أن يكون كاتب التقليد التثنوي وكُتب التأريخ التثنوي في إصداراتها الأولى والثانية هو نفسه إرميا، أو تلميذه باروخ ابن نيريا، أو قد يكونا كتباها بشكل مُشترك بينهما، بحيث أن باروك كتب التأريخ التثنوي وتأويله في ضوء تعاليم ورؤى مُعلمه إرميا.

نحن، حتى اﻵن، قد عرفنا مصدر وموقف كتابة كل تقليد، والفترة التي تم فيها كتابة التقليد التثنوي. يُصبح أمامنا الآن 5 تقاليد مختلفة:
1- التقليد اليهوي، المصدر J
2- ، المصدر E
3- التقليد اليهوي-إيلوهي، المصدر JE
4- التقليد الكهنوتي، المصدر P
5- التقليد التثنوي، المصدر D

السؤال الأهم على الإطلاق: كيف في النهاية اجتمعت كل هذه التقاليد في كتاب واحد، رغم أن كل تقليد منها يتشاجر ويتعارك ويختلف ويتصارع مع التقليد الذي سبقه؟ كل تقليد من هذه التقاليد، كيف تم تحريرها ودمجها في الكتاب المقدّس بالشكل الذي بين أيدينا اﻵن؟ ولماذا تم ضمهم؟ ما الظروف التي دعت لهذا؟ ومن هو هذا المُحرر الأخير وفي أي عصر عاش؟

للإجابة على كل هذه الأسئلة، نفرد الحلقة القادمة، والأخيرة..

كيف تقيّم هذا المقال؟

← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←

المتوسط الحالي حسب تقييمات من القراء

كن أوّل من يقيّم هذا المقال

بما أن المقال أعجبك..

ربما اﻷفضل مشاركته مع دوائرك كي يحظى بانتشار أوسع

من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا

دعنا نعمل على تحسين ذلك

أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟

جزء من سلسلة: تكوين التوراة[الجزء السابق] 🠼 [١٠] الإصدار التثنوي الأول [Dtr1][الجزء التالي] 🠼 [١٢] المفارقة الكبرى والمحرر الأخير
مايكل لويس
[ + مقالات ]