المقال رقم 4 من 12 في سلسلة تكوين التوراة

بعد انقسام مملكة داود وسليمان إلى مملكتين: في الشمال، و في الجنوب، كانت أورشليم عاصمة مملكة يهوذا، وكان فيها الهيكل، ومن ثمّ كانت مكانًا للصلاة وتقديم الذبائح لله، وطاعة الملك. أما بالنسبة لمملكة إسرائيل، فكان الوضع عسيرًا.

كون أورشليم مركزًا دينيًا للعبرانيين سواء من الشمال أو الجنوب، وبكون كِلتا المملكتين المنقسمتين تتشاركان نفس الدين ونفس العبادات والشعائر المقامة والمقدمة في أورشليم وحدها، فهذا يعني احتياج شعب إسرائيل للذهاب إلى أورشليم [في مملكة يهوذا] لتقديم التقدمات والنذور والعشور والبكور، على الأقل للاستيفاء السنوي أو في الأعياد. ومن يذهب من مملكة إسرائيل سيرى بن سليمان، ملك يهوذا، وهو جالس على كُرسيّ المُلك، يتلقى التقدمات وينظم، عبر كهنته، تحركات الشعب وشعائره.

لم يكن الحج إلى أورشليم سهلًا على ، ملك إسرائيل، الذي لم يستطع في كل الأحوال منع شعبه من الخروج لتقديم الذبائح في مملكة أخرى. هو لا يستطيع أن يوعز للشعب بالتخلي عن الدين اليهودي الذي يعتنقه الإسرائيليون، ولا يستطيع أيضًا ابتداع دين جديد بالكلية يخالف دين أبيهم يعقوب [إسرائيل]. لكن الممكن فعلًا هو تجديد التصور الديني القديم عبر آليات العصرنة والإصلاح الديني. تأويل جديد وشعائر جديدة لتحقيق مقاصد الدين القديم. لذا، ظلت مملكة إسرائيل تعبد نفس إله مملكة يهوذا، لكنها كانت تعبده بطريقة مختلفة، وفي أماكن مختلفة عن أورشليم، وبكهنة مختلفة عن كهنة مملكة يهوذا، وبالتالي خطاب ورؤية ورموزًا دينية مختلفة عن اليهودية الأرثوذكسية في مملكة يهوذا.

استطاع يربعام إحلال أورشليم، العاصمة الدينية المستحيلة، ببدائل ممكنة. كانت الأماكن الدينية التي حلت محل أورشليم مدينتين: “دان” و”بيت إيل”. كانت مدينة “دان” [نسبة إلى سبط “دان”] في أقصى شمال إسرائيل، بينما كانت مدينة “بيت إيل” في أقصى جنوب إسرائيل، على مقربة من شمال أورشليم، العاصمة الدينية القديمة. وبهذه الطريقة، فإن كل من كان يخرج من إسرائيل للتعبّد في أورشليم كان سيمر في طريقه على “بيت إيل” ويصلي ويقدم الذبائح هناك لنفس الإله. ومع تفريغ الشعائر والتقدمات والطلبات، تفرغت معها نوايا استكمال الذهاب إلى أورشليم. لذلك كانت “بيت إيل” هي الأهم من “دان” في الإحلال محل أورشليم.

خريطة المملكتين: يهوذا وإسرائيل

للمعتقدات الدينية قوتها الوجدانية الخاصة بها وتأثيرها المعنوي على النفوس. ولا تزال أورشليم تمتلك ما لا تملكه بيت إيل: “”، أو بشكل أدق، الذي يرقد في حراسة اليم الذهبي داخل قدس أقداس المعبد. ولمعالجة ذلك، استبدل يربعام زوجي الشيروبيم الذهبي الذين في أورشليم بزوجين من العجول الذهبية [الكلمة الأدق هي “ثور مجنح” -- من الذهب].

لاستكمال قوة الأسطورة، كان على يربعام أن يضفي على العجول الذهبية شيئًا وجدانيًا يخلق للأسطورة توظيفًا ومعنى. زوجا الشيروبيم الذهبيين كانا يحيطان تابوت العهد في “قدس الأقداس”، باعتباره عرش ملك ، بينما عجول اللاماسو الذهبيين كان أحدهما في “دان” أقصى الشمال، والآخر في “بيت إيل” أقصى الجنوب. إنهما يحيطان بمملكة إسرائيل إذن. وعلى هذا، إن اعتليت جبل جرزيم ونظرت إلى هندسة البناء الديني لمملكة إسرائيل الجديدة، ستراها تحوي تصويرًا فنيًا مناظرًا لهيكل معبد سليمان، تكون فيه أرض “مملكة إسرائيل” مكان تابوت العهد بين الحارسين الذهبيين. والمعنى الوجداني هنا أن عرش ملك يهوه قد اتسع ليحتوي مملكة إسرائيل، بين زوجي اللاماسو، كما كان تابوت العهد بين زوجي الشيروبيم.

وعلى هذا النحو والوصف والمعنى: لم تصنع إسرائيل بديلاً مستحيلاً لتابوت العهد، بل أعادت تقديم ذاتها على أنها هي العهد..
وتلك صورة أقوى، وأعمق تأثيرًا في النفوس، ولم تكلف سوى زوج من عجول لاماسو ذهبية.

ولنا هنا كلمة..
إضافة من الناشر: عجول اللاماسو، مثلها مثل الشيروبيم، لم تكن أصنامًا ولا تُقدَّم لها العبادة، وإنما وظيفتها استخدام الفن كوسيلة وجدانية للتعبير عن الحراسة وتقديم الامتنان للوديعة الدينية. وكما كان الشيروب تأثيرًا فنيًا بالثور المجنح في بابل، كان اللاماسو تأثيرًا بإله الكنعانيين: إيل (El)، الذي كان يُصوَّر بثور. كان هذا التشويش والتداخل في الرمز الديني مفيدًا سياسيًا. فكرة أن إله العبرانيين في الشمال [] و"إيل" [إله الكنعانيين] متداخلان أو متشابهان أو هما نفس الإله، ونفس لاماسو الثور، ساعدت بشكل كبير في تأقلم العبرانيين في مملكة إسرائيل مع جيرانهم الكنعانيين. وفكرة أن شعبًا ما يقدم آلهته باعتبارها نفس آلهة الشعوب المجاورة، بشكل عام، هي فكرة تعكس سعيًا للاندماج والتكامل مع الشعوب المجاورة. وربما تكون هذه النظرة أكثر وضوحًا مع الحضارات والثقافات الأكبر والأضخم، مثل علاقة اليونان بالرومان، والتي تحوي بالضرورة أفكارًا دينية بأن كل رمز أو إله له نظير عند الشعب الآخر، مثل  ونظيره ، وغيرهما. تساعد أفكار الآلهة المتناظرة أو المتماثلة، أو حتى الأفكار الأعمق مثل توحيد الإله الواحد في أديان مختلفة [مثل "الله" في الأديان الإبراهيمية، والإسلام بالأخص]، على تعزيز الثقة بصحة العقيدة الذاتية (لزيادة مساحة معتنقيها ولو بالشبه وبالخطأ وبالتحريف)، وأيضًا تعزيز مسألة قبول الآخر (فالآخرون الذين يعبدون نفس آلهتنا هم شبهنا، هم مثلنا، هم: "نحن"). ووفقًا لنظرية "نُسق المُعتقد" لعالم الاجتماع  (1960): إنّ التناظر أو التماثل أو التطابق بين المعتقدات يحدد مواقف الجماعة من الجماعات الأخرى بشكل كبير، فكل من يشاركنا المعتقد هم: "نحن"، وكل من يخالف معتقداتنا هم: "الآخرون"، المعادون أو الخصوم. (باسم الجنوبي)
كهنوت مملكة يهوذا، وكهنوت مملكة إسرائيل

في عهد ال، كانت العاصمة أورشليم تجمع رئيسين للكهنة: أبيثار الكاهن، من شيلوه [نسل موسى] رئيس كهنة الشمال. و، من حبرون [نسل هارون] رئيس كهنة الجنوب.

في بداية عهد ال، قام بنفي أبيثار الكاهن وطرده من أورشليم بسبب تأييده لأخيه “” في سعيه للعرش.

في وقت الاختلاف بين رحبعام بن سليمان ويربعام بن نباط على العرش الذي أدى إلى التقسيم، ظهر كاهن ونبي اسمه “أحيّا” [أخيا الشيلوني – النبي الكفيف] من شيلوه [مسقط رأس ] لدعم يربعام. وكان كهنة شيلوه مكروهين من مملكة يهوذا لسخطهم على التمييز الذي كان يقوم به سليمان ورحبعام. لذلك، لم يولِ يربعام كهنة من شيلوه بما فيهم أحيّا الذي دعمه. وعلى عكس الفطنة السياسية، لم يخدم أحد من شيلوه مطلقًا في “بيت إيل”، وقام يربعام بتعيين كهنة من عامة الشعب وليس من سبط لاوي كما يتبع. ولربما صاغ قراراته بشكل إصلاحيّ مثلما فعل الذي ألغى الكهنوت بجعل الكل على رتبة كاهن وجعلهم يخدمون في “بيت إيل”.

كنتيجة لذلك، لم يكن لكهنة شيلوه [الذين يُعتقد أنهم من نسل موسى]، أي دور في التصوّر الديني المتحرك في إسرائيل. وبحكم أن سبط لاوي ليس له أرض يمتلكها مثل بقية الأسباط، ساء حال كهنة شيلوه، الذين لم يكن أمامهم إلا الذهاب إلى مملكة يهوذا التي تنبذهم، أو البقاء في مملكة إسرائيل بدون رتبة كهنوتية، ومحاولة التأقلم والحياة متسولين على نفقة الأسباط الأخرى بصورة أقرب إلى كونهم لاجئين.

السياسة الخارجية وقوة كل مملكة

لم تعد قوة المملكتين على حالها إبان عصر مملكة داود الموحدة وجيشه الجرار. كانت سوريا وفينيقيا قد انفصلتا في زمن سليمان. أما بعد الانقسام إلى مملكتين، انفصلت آدوم عن مملكة يهوذا، وانفصلت موآب عن مملكة إسرائيل. وأصبحت المملكتان صغيرتين وضعيفتين في مواجهة شعبين من أقوى شعوب الأرض: شعب آشور، وشعب مصر.

وكان الملك أكثر استقرارًا في مملكة يهوذا مقارنة بمملكة إسرائيل، التي لم تستطع أي عائلة الاحتفاظ بالحكم فيها لأكثر من بضعة أجيال من دون أن تأتي عائلة أخرى وتحكم إسرائيل، إلى أن انهارت مملكة إسرائيل تمامًا أمام قوة آشور التي قضت عليها، ومن عاش منها حاول الهرب جنوبًا إلى مملكة يهوذا الأكثر استقرارًا، والتي ظل نظام الحكم فيها من نفس العائلة التي يُعتقد أنها من نسل داود من سبط يهوذا. هذه الطريقة في تداول السلطة بالتوارث حفظت أوضاع الحكم بشكل أكثر استقرارًا لقرن إضافي بعد انهيار مملكة إسرائيل.

على مدار القرنين الذين كانت خلالهما المملكتان: يهوذا وإسرائيل، متجاورتين ومنقسمتين، كُتب التقليدين: اليهوي (J) والإيلوهي (E)، المعبران عن مملكتين ومصدرين وتصوّرين مختلفين لكتبة العهد القديم.

ولهذا نُفرد حلقة أخرى..

كيف تقيّم هذا المقال؟

← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←

المتوسط الحالي حسب تقييمات من القراء

كن أوّل من يقيّم هذا المقال

بما أن المقال أعجبك..

ربما اﻷفضل مشاركته مع دوائرك كي يحظى بانتشار أوسع

من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا

دعنا نعمل على تحسين ذلك

أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟

جزء من سلسلة: تكوين التوراة[الجزء السابق] 🠼 [٣] مملكة داود وهيكل سليمان[الجزء التالي] 🠼 [٥] التقليدان: اليهوي والإيلوهي
مايكل لويس
[ + مقالات ]