المقال رقم 10 من 12 في سلسلة تكوين التوراة

من الممكن تسمية الإصحاحات من 12 إلى 26 في سفر تثنية الاشتراع، باسم: “أحكام التثنية”، وهذه الأحكام تمثل معظم متن السفر تقريبًا، والأرجح أن هذا هو النص الذي عثر عليه في هيكل أورشليم بجوار في زمن ال. نلاحظ عدة ملاحظات حول هذه الأحكام:

1- أوّل ما تتكلم عنه أحكام التثنية هي مكان العبادة، وأنه من الضروري أن يكون مكان الذبح مكان واحد فقط هو المكان اللي اختاره يهوَه، وكل أماكن العبادة الأخرى يجب هدمها. الاستثناء الوحيد لعدم تقديم الذبيحة في المكان الذي اختاره يهوَه هو أن يكون الشخص بعيد جدًا عن مكان الذبح وﻻ يستطيع الذبح فيه، ففي هذه الحالة بإمكانه الذبح في بيته بشرط إراقة دم الذبيحة على الأرض.

2- تحدد الأحكام مجموعة معايير معينة لاختيار الملوك، مثل ضرورة كونه من بني إسرائيل وليس “جير” [أجنبي – أممي]، أيضًا للملوك عدة شروط عليهم إتباعها، مثل عدم امتلاك كثير من الخيول، ولا كثير من الذهب والفضة، ولا كثير من النساء، وأنه عند تنصيبه ملكًا على العرش فوجب عليه نَسخ هذه الشريعة من الكهنة واللاويين.

3- ﻻ نجد تمييزًا بين الكهنة اللي من نسل وبين بقية سبط لاوي، كل الكهنة واللاويين يتعاملون بنفس الطريقة، والأحكام توضح أن سبط لاوي ليس له نصيب ولا ميراث مع إسرائيل، بل يعيش على الدعم المقدم له من باقي الأسباط، وتوضح الأحكام أن الكهنة لهم دائمًا أنصبة من الذبيحة، وبواكير القمح والنبيذ والزيت والماشية.

4- تتعامل الأحكام مع موقف الجيش والحرب بنفس تعامل فترة ما قبل ال، بمعنى، أﻻ جيش خاص أو أممي للملك بالشكل الذي نفذه الملك داود، لكن ما يحدث في هذه الأحكام أن يجمع الكاهن الشعب ومنه يتكون الجيش، من يحارب يجب أن يكون من أسباط بني إسرائيل، ومن العوام لكن ليس جيشًا إمبراطوريًا مُحترفًا كالذي أسسه الملك داود.

5- لا يوجد ذكر في أحكام التثنية لهارون الكاهن، وكما أوضحنا فلا تمييز بين الكهنة المنحدرين من نسله وباقي سبط لاوي. ﻻ يوجد ذكر لتابوت العهد ولا لليم ولا أيًا مما وُضع في هيكل أورشليم.

وهذه الملاحظات يمكن أن توضح لنا من الذي يمكن أن يكون الكاتب لأحكام التثنية. فمن الواضح أن الكاتب ليس من الملوك أو العائلة الملكية، إذ بالنهاية فالأحكام تضع كثيرًا من القيود على الملك، وعلى الجانب الآخر، الأحكام تعطي مميزات للكهنة واللاويين، الكاتب هنا من الكهنة. لكن، أيّ مجموعة من الكهنة؟

تعرفنا حتى اﻵن على مجموعات متعددة من الكهنة. كهنة بيت إيل الذين عينهم في إسرائيل، لكنهم لم يكونوا من سبط لاوي، في حين أن الأحكام تتكلم عن كهنة سبط لاوي تحديدًا. هناك أيضًا مجموعة كهنة أورشليم، الذين يُعتقد أنهم من نسل هارون الكاهن، لكن أحكام التثنية ﻻ تفضّلهم في شيء، ولا تذكر هارون إطلاقًا، ولا تذكر تابوت العهد، ولو كانوا كهنة أورشليم لذُكر بعضٌ من هذا.

الكهنة الذين تتوافق الأحكام مع موقفهم هم كهنة شيلوه الذين يُعتقد أنهم من نسل ال، وهم نفس مجموعة الكهنة الذين يُعتقد كتابة عندهم. هؤلاء الكهنة يميلون دائمًا لفكرة مركزية مكان العبادة لأن هناك فترة في تاريخهم كان مكان العبادة في شيلوه زمن ال، لكن بعدما أهمل ال مكانتهم، ومن بعده الملك يربعام، الذي عيّن بدلًا منهم كهنة من خارج سبط لاوي. أيضا الأحكام تحدد معايير وقيود على الملك، وتؤسس لجيش قائم على التطوع من داخل الأسباط لأن هذا هو الذي يعطيهم أهمية في الوساطة، ويجعل وجود الملك مهددًا دون دعم من الكهنة. ولأن هذا كله قد ذهب على يد الملك داود عندما أسس جيشًا أمميًا مستقلًا عن الأسباط، فالأحكام هنا تمنع ذلك.

أيضًا الأحكام لا تميّز ولا تعطي أفضلية لكهنة نسل هارون، وﻻ ذكر لتابوت العهد أو أيًا مما كان في الهيكل لأنه ولفترة كبيرة جدًا عاش هؤلاء الكهنة مقطوعي الصلة بالهيكل وما بداخله، الأحكام تتوافق مع مواصفات كهنة شيلوه، وفي أيّ زمنٍ بعد انفصال عن إسرائيل، وقبل انهيار .

الشخص الذي أنهى كتب التأريخ التثنوي [المؤرخ التثنوي]، أخذ أحكام التثنية ووضع قبلها مقدمة بها خطابين لموسى، ثم تصوّر موسى وهو يعطي للشعب أحكام التثنية، ويوضح لهم بركات ولعنات طاعة هذه الأحكام في الإصحاحات 27 و28، وفي النهاية كتب كلمات موسى الأخيرة وتشجيعه للشعب، ثم يتمم كتابة ال ويعطيها للاويين من أجل وضعها في جانب من تابوت العهد، ثم يموت.

نلاحظ أن المؤرخ التثنوي له نفس اهتمامات كهنة شيلوه، مثلا في الجزء الذي كتبه المؤرخ التثنوي في سفر التثنية، في المقدمة، ﻻ يتم ذكر هارون سوى مرتين، واحدة لكي يذكر غضب يهوَه عليه بسبب العجل الذهبي [1]، والمرة الأخيرة يذكر موت هارون [2]. وهي أحداث لم يتم ذكرها سوى في التقليد الإيلوهي الذي كتبه أحد كهنة شيلوه. أيضًا كلًا من التقليد الإيلوهي والتثنوي يشير لجبل موسى باسم: جبل حوريب، وذلك على عكس التقليد اليهوَي و، اللذان يسميانه: جبل سيناء.

التقليدان الإيلوهي والتثنوي يعظمان من شأن موسى، على عكس التقليدين اليهوَي والكهنوتي، وكلاهما يهتم بالأنبياء، على عكس التقليد اليهوَي حيث ﻻ يوجد ذكر لكلمة نبي إطلاقًا بينما التقليد الكهنوتي ﻻ يذكرها إلا مرة واحدة في الإشارة لهارون، كل من التقليدين الإيلوهي والتثنوي يهتم باللاويين بشكل عام، على عكس التقليد اليهوَي الذي يلعن سبط لاوي بسبب قتل لاوي لسكان مدينة شكيم كما سبق وذكرنا، أما التقليد الكهنوتي فهو يعظّم من الكهنة الذين من نسل هارون على حساب بقية كهنة سبط لاوي، والذين يعتبرهم مجرد مساعدين لكهنة هارون، وكلاهما يتعامل مع هارون على أنه شخص سيء ويذكرون أحداثًا مثل قصة العجل الذهبي أو إصابة مريم بالبرص لتشاورها مع أخوها هارون على زوجة موسى، وهاتين القصتين ﻻ يتم ذكرهما لا في التقليد اليهوَي ولا في التقليد الكهنوتي.

ينتهي سفر التثنية بموت موسى ويبدأ سفر يشوع من حيث انتهى سفر التثنية، وهكذا، ويتم إضافة بعض النصوص في متن السفر لوصل الأحداث وتصاعد التاريخ حتى وصوله لحكم الملك يوشيا. ثم يأتي عند سفر صموئيل ويضع إضافة مهمة، وهي العهد الذي بين يهوَه وداود، وكما عرفنا فهو عهد أبدي غير مشروط، وبالأغلب لم يضع هذا العهد من عنده بالكليّة، لكن من تقاليد تقول بأن هناك عهد بهذا الشكل بين يهوَه وداود [كما في مثلًا] وهذا العهد يعطي نظرة متفائلة للتاريخ وكان من المنطقي أن يتم كتابته في زمن الملك يوشيا.

ثم نصل في النهاية لسفر الملوك، الذي كانت مُهمة المؤرخ التثنوي فيه أكثر تعقيدًا من الأسفار التي مضت، لأنه ههنا ﻻ يحكي تاريخ شعبًا واحدًا بل تاريخ شعبين، فيذكر ملك من مملكة يهوذا ثم يتكلم عن ملك من مملكة إسرائيل ثم يرجع للكتابة عن مملكة يهوذا. وعند كل ملك، نجده يبدأ باسمه، وسنه جلوسه على العرش، ويوضح إذا كان خيرًا أم شريرًا بعبارة: وصنع القويم في عيني الرب أو وصنع الشر في عيني الرب، والغالبية كانت تقيّم كشريرة لكن ﻻ يفقد أحدهم مُلكه على العرش بسبب العهد مع داود، والأخيار منهم ﻻ نجدهم يهدمون كل المعابد والمشارف اللي بناها سليمان ويربعام، ولا يوجد ملك خيّر لهذه الدرجة المثالية سوى الملك يوشيا في نهاية سفر الملوك [3].

أيضًا يوضح المؤرخ التثنوي أن مكان العبادة الواحد أصبح فيما بعد هو أورشليم، واستعمل نفس تعبيرات سفر التثنية عن كون هذا المكان هو الذي يسكن فيه اسم يهوَه، وبهذا الشكل، أعطى المؤرخ التثنوي تأويلًا متفائلًا للتاريخ، تم تحقيقه بشكل قوي وكامل في زمن يوشيا الملك، الملك الصالح الذي جعل من هيكل أورشليم مركزًا للعبادة، ودمر مشارف الآلهة الأخرى والمعابد التي في خارج أورشليم، ووصل تطهيره الديني إلى المعابد في الشمال في إسرائيل [وهكذا يكون أعاد لكهنة شيلوه مركزهم]، والذي صنع القويم بحسب شريعة موسى بكل قلبه وفكره وقدرته. كل الأفكار الرئيسية الموجودة في التأريخ التثنوي [الإخلاص ليهوَه ولأحكام التوراة في أحكام التثنية، ومركزية مكان العبادة، وتمسك يهوَه بعهده مع داود] تم تحقيق كل عناصرها في زمن الملك يوشيا.

في النهاية، تم قتل الملك يوشيا على يد ملك مصر، ، ثم بعد ذلك بفترة ليست بالبعيدة تم تدمير مدينة أورشليم وحرق الهيكل وفُقدان تابوت العهد وانهارت مملكة يهوذا، والتي يُفترض أن تظل موجودة، ويظل عليها ملك من نسل داود، للأبد. التأريخ التثنوي المُتفائل أصبحت نظرته ﻻ تعبّر عن الواقع بل ويُثير الشفقة والسخرية، وكانت النتيجة أن هناك من كتب تعديلًا على التأريخ التثنوي وحاول إيجاد تفسير للانهيار الذي حدث، ومن هنا تمت كتابة الإصدار التثنوي الثاني [Dtr2].

هوامش ومصادر:
  1. تثنية 9: 20 [🡁]
  2. تثنية 10: 6 [🡁]
  3. ملوك ثاني 23: 4-20 [🡁]

كيف تقيّم هذا المقال؟

← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←

المتوسط الحالي حسب تقييمات من القراء

كن أوّل من يقيّم هذا المقال

بما أن المقال أعجبك..

ربما اﻷفضل مشاركته مع دوائرك كي يحظى بانتشار أوسع

من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا

دعنا نعمل على تحسين ذلك

أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟

جزء من سلسلة: تكوين التوراة[الجزء السابق] 🠼 [٩] أسفار التأريخ التثنوي[الجزء التالي] 🠼 [١١] الإصدار التثنوي الثاني [Dtr2]
مايكل لويس
[ + مقالات ]