المقال رقم 6 من 12 في سلسلة تكوين التوراة

عندما انهارت في الشمال تحت ثقل المملكة الآشورية، استطاع البعض أن يهرب ل في الجنوب، حاملين معهم تقليدهم الخاص من ال، وهو .

فيما بعد، ولأغراض سياسية واجتماعية في الوحدة، تم دمج التقليد الإيلوهي E و J في تقليد واحد تم تسميته: التقليد JE.

في الوقت الذي انهارت فيه مملكة الشمال، كان ال في بداية مُلكه في مملكة يهوذا في الجنوب، وهذه الفترة حدث فيها أحداث هامة.

بشكل ما، كانت مملكة يهوذا مستقرة، فقام الملك حزقيا بعمل ما يُمكن تسميته: تطهيرًا دينيًا، وذلك بهدم كل المعابد ومراكز العبادة التي لا تخضع لإشرافٍ كهنوتي من كهنة حبرون، بحيث أصبح المركز الديني الوحيد في عهد الملك حزقيا هو معبد مدينة أورشليم.

كهنة حبرون، والذين يُعتقد أنهم من نسل ، كانوا الكهنة الذين يخدمون في مملكة يهوذا بمعبد أورشليم. وعلى هذا، فالتقليد الذي اصبح موجودًا بين الناس عن الآباء، [الذي أسميناه التقليد JE]، كان يحط من قيمة هارون، الكاهن الأعظم، ويقلل منهم بالتبعيّة.

قصة العجل الذهبي التي سردناها كانت بمثابة كارثة، ولم تكن القصة الوحيدة، فالتقليد JE كان من سماته أن يقلل من قيمة هارون والكهنوت الهاروني ويمتلئ بقصصٍ وصياغات تدعم ذلك.

نتيجة للتطهير الديني أو نظام العبادة المركزي الذي قاده الملك حزقيا في هذه الفترة، تم الرصد والجمع لتقاليد التوراة الشفوية غير المكتوبة، ومنها تم كتابة أكبر تقاليد التوراة [تمثل تقريبًا 50% من النص التوراتي]، هذا التوثيق بالكتابة كان يشمل: نصف سفر الخروج، ونصف سفر العدد، وسفر الأحبار [الأنبياء] كله تقريبًا. وهذا التقليد الجديد، والذي كتبه كهنة أورشليم، والذين يُعتقد أنهم من نسل هارون في عصر الملك حزقيا، هو ما نسميه الآن: ، أو المصدر P.

كما ذكرنا، فقصة العجل الذهبي لم تكن القصة الوحيدة التي تحط من هارون الكاهن في تقليد JE. هناك قصص أخرى مثل قصة تشاور هارون ومريم [أخت موسى] على زوجة موسى، وانتقاد الله لهم ومعاقبة مريم بالبرص. كان التقليد JE يحط من دور هارون ويجعل منه مجرد تابع لموسى. على الجانب الآخر، يعظم من دور موسى لكونه من الفئة اللي كتبت التقليد الإيلوهي.

أثر ذلك على كهنة أورشليم المنحازين معرفيّا لأصولهم الأسرية المنحدرة من نسل هارون الكاهن، فكتبوا التقليد الكهنوتي بشكل بديل ومعارض للتقليد JE، أو بطريقة أخرى، التقليد الكهنوتي الجديد كُتب كي يرفع من شأن هارون الكاهن ويحط من قيمة أو دور ال.

في التقليد JE يكلم يهوَه موسى، بينما في التقليد الكهنوتي يكلم يهوَه موسى وهارون،
في التقليد JE المعجزات في مصر تتم بعصا موسى [1]، في التقليد الكهنوتي تتم بعصا هارون [2]،
في التقليد JE يتم تقديم هارون باعتباره أخو موسى لكونهما من نفس السبط [3]، والتآخي ﻻ يعني كونهما شقيقين مثلا. بينما في التقليد الكهنوتي يُقدم هارون على أنه أخو موسى “البكر” [4] ويقدم سلالة أنساب هارون [5].

كان كلا من: تقليد JE، والتقليد الكهنوتي، لديه مصادره التي يثق بها عن القصص القديمة مثل الخلق والطوفان ومسألة سيرة الآباء إبراهيم و ويعقوب وصولًا لموسى وهارون، لكن ﻻ يتم ذكر ذبيحة تُقدم في التقليد الكهنوتي في كل هذه القصص قبل ذبيحة هارون [6]، وكأنما قبل ذبيحة هارون ﻻ يوجد ذبائح قُدمت، هذا يشمل كل الذبائح التي قدمها و ونوح وإبراهيم إلى آخره، كلها غير مذكورة في التقليد الكهنوتي.

ملاحظة أخرى عن سمات التقليد الكهنوتي، وهي تنزيه الألوهة عن أي صفات قد تبدو أنها إنسانية، [تنزيه عن ال Anthropomorphism]، ففي التقليد JE يهوَه يمشي في جنة عدن، يصنع بنفسه ملابس و، يصارع يعقوب ويكلم موسى من العليقة المشتعلة. لكن ﻻ يوجد أيًا من هذا في التقليد الكهنوتي.

بشكل ما، يقدم التقليد JE إله مُتفاعل مع الإنسان بشكل مستمر وبسيط وواضح وأكثر حميمية، وبشكل تصبح المسافة بين الإنسان وال ليست بعيدة المنال. بينما التقليد الكهنوتي يقدم إله متعالٍ، بعيدًا في السماء. والسماء ذاتها حادة بين اللونين الأبيض والأسود دون وساطات رمادية. ﻻ يوجد في التقليد الكهنوتي ذكرٌ للملائكة، أو ذكرٌ لمعجزات حيوانات ناطقة تتكلم، ﻻ يوجد رؤى، بل وﻻ حتى أنبياء. لفظة “نبيّ” لم تظهر في التقليد الكهنوتي سوى مرّة واحدة وللتعبير عن هارون.

على الجانب اﻵخر، التقليد الكهنوتي يقدم إله كوَني وعادل وصارم ﻻ يسمح بالاستثناءات. من يخطئ فلابد أن يقدّم ذبيحة، والذبيحة لابد أن تُقدم بنظامٍ وطقس مُعين، الإخلال بالطقس يُعتبر إهانة للألوهة، وإخلال بالنظام العام وله عقاب. الذبيحة تقدم عبر كاهن مُكرّس لهذا النوع من الخدمات وليس لكاهن آخر. وليس كاهنًا مكرسًا وحسب وإنما كاهنًا مكرسًا ومن نسل هارون، هارون فقط، بقيّة الكهنة من سبط لاوي يُعتبروا “كهنة مُساعدين” ليس إلا. التفاصيل الرسمية، الأرقام والتفاصيل التي توحي بالرسمية. كميّات من التفاصيل في سرد الأنساب وشرح الطقوس وتدقيق التواريخ بقياسها بعدها بالأيام على أحداثٍ أخرى.

كل من قرأ التوراة سيلحظ الإغراق في التفاصيل، بالأخص في سفر الأحبار، وسيلحظ التغيّر الشاسع في أسلوب الكتابة بينه وبين سفر كالتكوين مثلا. من تعرف على [DH] يستطيع بعد فترة قصيرة أن يميز المصدر الكهنوتي بنفسه من التوراة، وبدقة جيّدة للغاية نظرا للأسلوب البيروقراطيّ الخاص والمميز جدًا للتقليد الكهنوتي عن بقية النصوص المكتوبة وفقًا لأي تقليد أخر.

بطبيعة الحال، ﻻ يستطيع التقليد الكهنوتي التقليل من قيمة موسى لدرجة أن يجعل منه شخصًا خاطئًا بالكليّة، ففي النهاية يظلّ موسى هو البطل الذي تأسست على تقاليد قصصه ثقافة الشعب العبراني كله، لكنه، على الأقل، يحاول التقليل من شأنه لمرتبة الإنسان العادي. بينما في تقليد JE والذي هو بمثابة الابن الناتج من تزاوج تقاليد الشمال والجنوب وكلتاهما تقليدًا إيلوهيًا، نجد قصة عن تمرد شعب بني إسرائيل ويظهر موسى باعتباره البطل الذي على يده خرجت المياه من الصخرة، النص في التقليد الإيلوهي كالتالي: [7]

فخاصم الشعب موسى وقالوا: «أعطونا ماء لنشرب.» فقال لهم موسى: «لماذا تخاصمونني؟ لماذا تجربون يهوَه؟». وعطش هناك الشعب إلى الماء، وتذمر الشعب على موسى وقالوا: «لماذا أصعدتنا من مصر لتميتنا وأولادنا ومواشينا بالعطش؟». فصرخ موسى إلى يهوَه قائلا: «ماذا أفعل بهذا الشعب؟ بعد قليل يرجمونني». فقال يهوَه لموسى: «مر قدام الشعب، وخذ معك من شيوخ إسرائيل. وعصاك التي ضربت بها النهر خذها في يدك واذهب. ها أنا أقف أمامك هناك على الصخرة في حوريب، فتضرب الصخرة فيخرج منها ماء ليشرب الشعب». ففعل موسى هكذا أمام عيون شيوخ إسرائيل. ودعا اسم الموضع «مسة ومريبة» من أجل مخاصمة بني إسرائيل، ومن أجل تجربتهم للرب قائلين: «هل يهوَه في وسطنا أم لا؟»

(سفر الخروج، الإصحاح 17: 2-7)

نفس هذا النص يتكرر مرّة أخرى في التقليد الكهنوتي، ولكن ببعض الرتوش وتغيرات الصياغة التي تُظهر موسى ليس كبطل، لكن كخاطي، وعقابًا له لن يدخل هو وهارون أرض الميعاد، النص أيضًا يبدو فيه هارون كشخص بريء يعاني من خطية موسى: [8]

ولم يكن ماء للجماعة فاجتمعوا على موسى وهارون. وخاصم الشعب موسى وكلموه قائلين: «ليتنا فنينا فناء إخوتنا أمام يهوَه. لماذا أتيتما بجماعة يهوَه إلى هذه البرية لكي نموت فيها نحن ومواشينا؟ ولماذا أصعدتمانا من مصر لتأتيا بنا إلى هذا المكان الرديء؟ ليس هو مكان زرع وتين وكرم ورمان، ولا فيه ماء للشرب!». فأتى موسى وهارون من أمام الجماعة إلى باب خيمة الاجتماع وسقطا على وجهيهما، فتجلى لهما مجد يهوَه. وكلم يهوَه موسى قائلا: «خذ العصا واجمع الجماعة أنت وهارون أخوك، وكلما الصخرة أمام أعينهم أن تعطي ماءها، فتخرج لهم ماء من الصخرة وتسقي الجماعة ومواشيهم». فأخذ موسى العصا من أمام يهوَه كما أمره، وجمع موسى وهارون الجمهور أمام الصخرة، فقال لهم: «اسمعوا أيها المردة، أمن هذه الصخرة نخرج لكم ماء؟». ورفع موسى يده وضرب الصخرة بعصاه مرتين، فخرج ماء غزير، فشربت الجماعة ومواشيها. فقال يهوَه لموسى وهارون: «من أجل أنكما لم تؤمنا بي حتى تقدساني أمام أعين بني إسرائيل، لذلك لا تدخلان هذه الجماعة إلى الأرض التي أعطيتهم إياها». هذا ماء مريبة، حيث خاصم بنو إسرائيل الرب، فتقدس فيهم.

(سفر العدد، الإصحاح 20: 2-13)

نص آخر يقلل من قيمة موسى نجده في قصة نزوله من جبل سيناء بعدما تسلّم الشريعة، يوضح النص أن الشعب كان يخاف أن يقترب من موسى لأن هناك شيئا غريبًا في وجهه بسبب وجوده على الجبل لفترة طويلة، فيضطر موسى أن يغطي وجهة بحجاب [يضع برقعًا على رأسه] في أثناء الحديث معه. وكنتيجة، تتكون الصورة المطبوعة في ذهن الشعب وجه موسى هو شكل الحجاب [9].

Moses by michelangeloالنص المُترجم حاليًا يقول أن السبب هو أن وجه موسى كان مُشعا ومضيئًا بسبب مكوثه لفترة طويلة على الجبل مع يهوَه، لكن المعنى العبري في الحقيقة ليس واضحًا تمامًا، لفترة طويلة فهم القراء النص على أنه يقول أن موسى عندما نزل من الجبل، كان له قرنان، وهذا ما جعل الناس تخافه، وهذا التصوّر يظهر في بعض اللوحات والتماثيل في وحتى ، أحد أشهر التماثيل التي صورت موسى بهذا الشكل هو تمثال موسى للفنان ، وبعض الدراسات الحديثة تقول أن المعنى العبري ببساطة يقول أن وجه موسى تم تشويهه.

Moses with his arms supported by Aaron and Hurإضافة من الناشر: ينبع تصوير موسى ذو القرون من وصف وجه موسى بأنه cornuta [مقرن] في ترجمة النسخة اللاتينية الشعبية [الفولجاتا] للمقطع الموجود في سفر الخروج، الإصحاح ٣٤، وتحديدًا الآيات ٢٩، ٣٠، و ٣٥ [10]، التي يعود فيها موسى إلى الشعب بعد تلقي الوصايا للمرة الثانية. يترجم القديس  [القرن الخامس الميلادي] النسخة اللاتينية الفولجاتا لسفر الخروج على النحو التالي: وعندما نزل موسى من جبل سيناء، كان يحمل لوحي الشهادة، ولم يعلم أن وجهه قُرن [horned] من كلام يهوَه. كان هذا اجتهاد القديس جيروم لترجمة  الأصلي، والذي يستخدم المصطلح: קָרַן [‎[qāran؛ يتم تفسير المصطلح على أنه يعني "ساطع" أو "ينبعث منه أشعة" [emitting rays]. وعلى الرغم من أن بعض المؤرخين يعتقدون أنّ جيروم ارتكب خطأً فادحًا، يبدو أنّ جيروم نفسه كان يعني؛ الممجد استنادًا إلى التعليقات التي كتبها، بما في ذلك التعليق على سفر حزقيال، حيث كتب أن وجه موسى: صار ممجدًا. أيضًا  اليونانية، التي كانت متاحة لجيروم، ترجمت الآية على النحو التالي: ولم يعلم أن جلد وجهه كان ممجدًا. تعامل اللاهوتيون في العصور الوسطى على أن جيروم كان يقصد التعبير عن تمجيد وجه موسى، من خلال استخدامه للكلمة اللاتينية cornuta التي تعني "مقرن". استمر  الفهم بأن الكلمة العبرية الأصلية كانت صعبة، وحاول بعض الفنانين الدمج بين الإثنين [قرون ساطعة أو مشعّة] لكن بشكل عام بداية من القرن 16 ولم يعد يُرسم موسى بهذه الكيفية. ومن غير المرجح أن تعني "قرونًا" [بمعناها السلبي] طوال عصر النهضة وخلاله.

على كل حال، كُتب التقليد الكهنوتي كي يعلّي من شأن كهنوت هارون ويقلل من شأن موسى، وكُتب بشكل يطرح وجهة نظر بديلة ومضادة للتقليد JE. يتوافق زمن كتابة النص مع الفترة التي سقطت فيها مملكة إسرائيل في الشمال، في زمن الملك حزقيا، والذي قام بتطهير ديني وهدم المعابد الغير خاضعة لكهنة المملكة الرسميين الهارونيين. أعاد الملك حزقيا مركزية مكان العبادة إلى أورشليم وحدها، والتي يخدم فيها الكهنة ذوي أصول تعود إلى حبرون ويُعتقد أنهم من نسل هارون، والذي قام الملك حزقيا بالتعظيم من شأنهم باعتبارهم المقياس الصحيح لغيرهم. وكُتب التقليد الكهنوتي كي يعطيهم أولوية على بقية الكهنة الذين من سبط لاوي، وبالأخص لخفض نفوذ وتأثير الكهنة الذين يُعتقد أنهم من نسل موسى.

هوامش ومصادر:
  1. الخروج 7: 15-17، 9: 23، 10: 13 [🡁]
  2. الخروج 6: 10-12، 7: 19، 8: 1-12-13 [🡁]
  3. الخروج 4: 14 [🡁]
  4. الخروج 7: 7 [🡁]
  5. الخروج 6: 20-25 [🡁]
  6. الخروج 40 [🡁]
  7. سفر الخروج، الإصحاح 17: 2-7 [🡁]
  8. سفر العدد، الإصحاح 20: 2-13 [🡁]
  9. خروج 34: 29-35 [🡁]
  10. راجع سفر الخروج، الإصحاح ٣٤، الآيات ٢٩، ٣٠، ٣٥ [🡁]

كيف تقيّم هذا المقال؟

← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←

المتوسط الحالي حسب تقييمات من القراء

كن أوّل من يقيّم هذا المقال

بما أن المقال أعجبك..

ربما اﻷفضل مشاركته مع دوائرك كي يحظى بانتشار أوسع

من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا

دعنا نعمل على تحسين ذلك

أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟

جزء من سلسلة: تكوين التوراة[الجزء السابق] 🠼 [٥] التقليدان: اليهوي والإيلوهي[الجزء التالي] 🠼 [٧] التقليد الكهنوتي: طوفان نوح
مايكل لويس
[ + مقالات ]