هناك أسطورة منتشرة يرددها كثير من الناس، منهم بعض الأسماء المعروفة، وهي أنَّ هناك ست عشرة فرقة مسيحية أنكرت صلب المسيح، ويعود تاريخها إلى القرن الأول. وعلى الرغم من انتشار هذا الادعاء، إلا أنه يعود إلى استخدامهم جميعًا أو أغلبهم لمصدر مُعيّن من دون مراجعة، أو قراءة نقدية.
في هذه السلسلة، سنناقش هذا الادعاء، وسنقدم خلفية بسيطة عن كل نصّ من هذه النصوص من ناحية آراء المتخصصين في المسيحية المبكرة، وقيمة محتوى النصّ من ناحية ما إذا كانت أخبار النصّ تعود لسياق زمني وجغرافي قريب من حدث الصليب أم لا. والهدف هنا أن نرى ما إذا كانت هذه المصادر يمكن تأريخها أو تأريخ محتواها لوقت قديم كالمصادِر التي تنقل خبر الصليب؟ أم لا؟
هذه السلسلة ستكون الجزء الثاني الذي يُكمّل سلسلة أقوال المؤرخين في صلب يسوع، لذلك يجب قراءتها أولًا. في السلسلة الأولى، نرى أدلة خبر الصَّلب، وفي هذه السلسلة الثانية، سنرى نقدًا للمصادر التي تنقل خبرًا غير الصَّلب.
لِتنظيم البحث بشكل أفضل، اخترتُ أن أُراجع المصدر (وليس المرجع) الذي تستقى منه المعلومات. واخترتُ تعبير “مصدر” بدلًا من “مرجع” لأنه ليس محتوى أكاديميًا، بل حاله كحال معظم المنشورات العربية عن المسيحية؛ مقتطفات من كتب دون تدقيق أو أمانة بحثية، لكن الناس يميلون إلى تصديق ما يُؤيد قناعاتهم وينقلونه دون مراجعة. خذ على سبيل المثال لا الحصر، أنه بالرغم من ترديد الناس مسألة الـ 16 فرقة، فإن المصدر الذي يستقون منه يذكر 14 فرقة فقط. وعلى كل الأحوال، بعد الانتهاء من دراسة الـ 14 فرقة، إذا وجدتُ المزيد فسأُمعنُ في دراستها.
دعونا نتفق أولًا على بعض البديهيات العامة قبل التحدث في التفاصيل: وجود أخبار تنفي الصَّلب يتطلب إثبات أن هذه الأخبار تعود إلى القرن الأول الميلادي، زمانًا ومكانًا.
في سلسلة أقوال المؤرخين في صلب يسوع، وجدنا مصادر قديمة تعود إلى الثلاثينيات والأربعينيات والخمسينيات والستينيات والسبعينيات والتسعينيات الميلادية. وجدنا مصادر مسيحية ومصادر في كتابات مؤرخين غير مسيحيين مثل يوسيفوس وتاسيتوس. ما نستنتجه من تعدد هذه المصادر وانتشارها في مناطق جغرافية كثيرة في القرن الأول هو أن الخبر معروف وليس له مُعارضات داخل المسيحية أو خارجها.
لكي يتم نقد دليل بهذا الحجم، تحتاج إلى أدلة بنفس القدم، وبنفس الانتشار، وبنفس القيمة التاريخية. لا يكفي أن تقول إنك تريد الأخذ بخبر في نص بعد الحدث بقرون وفي منطقة جغرافية أخرى لمجرد أنه يدعم تصوّرك؛ بل يجب أن تُبرهن تاريخيًا على قيمة المصدر. وبما أنك غير متخصص في هذا المجال، يجب أن تستشهد بآراء متخصصين وصلوا إلى استنتاجاتك، فلا يكفي اقتباس من كتب غير متخصصة في المسيحية المبكرة.
عن سلسلة: أسطورة ١٦ فرقة مسيحية أنكرت الصّلب
هذه السلسلة ستعرض معتقدات الجماعات المسيحية غير الأرثوذكسية ونصوصها بخصوص الصليب. لا يخفى أن المسيحية، كأي دين آخر، فيها تيار رسمي ينتصر تاريخيًا، وتيارات أخرى إما تندثر أو تُهمش فتبتعد عن الأضواء وتنحسر في جماعات قليلة عدد أفرادها غير ملحوظ.
لفهم الحجة في هذه السلسلة، يجب قراءتها بالتوازي مع سلسلة أقوال المؤرخين في صلب يسوع. هذه السلسلة تقدّم منظور الباحثين وآراءهم كمؤرخين عن كيفية الاستدلال على صلب يسوع، بينما تحلل السلسلة الأخرى ادعاء البعض بأن نفي الصليب كان جزءًا أصيلًا من المسيحية الأولى، ثم استُبدِل الصَّلب فيما بعد.
في سلسلة أقوال المؤرخين في صلب يسوع، ناقشنا سبب ترجيح موت يسوع بالصلب تحديدًا. المؤرخ لا يملك أدوات تعيده إلى الماضي، وبالتالي، يدور عمله حول البحث عن قرائن قديمة وجغرافيًا قريبة من الحدث ليدرسها. موقف مؤرخي المسيحية المبكرة في الأكاديميا مُقسّم إلى جزئين؛ جزء يُنزل تعبير “الموثوقية” على كل تفاصيل العهد الجديد، وبالتالي هو مُسلّم مسبقًا بصحة محتوى النص وتفاصيله، ويُخصّص باقي عمله في التأكيد على ما يعتقد به. والنوع الثاني يسير بالعكس، فيُشاهد النص ويُشاهد السياق التاريخي والثقافي والاقتصادي والاجتماعي واللساني، وبناءً عليه، يُقيّم مدى تطابق النص مع الواقع ومخالفته له. ولا يخفى عليك أن الطرفين اختلفا كثيرًا جدًا في هذا. لكن تخيّل أن هذين الطرفين اللذين لم يتفقا تقريبًا على شيء، اتفقا على الصَّلب!
الفكرة هنا أن المؤرخ لديه كل ما يريد. لديه مصادر قديمة متعددة، ولديه خبر اشتهرت به الجماعة، وهذا الخبر مُحرج للغاية ومسيء لمؤسس الجماعة، لكن من كثرة انتشاره لم يعد من الممكن إنكاره، وفرض نفسه كعلامة للجماعة. وأخيرًا، الخبر لا يخالف الواقع. يعني لو قلت لي إن الساعة الثالثة صباحًا رأيت واحدًا يطير أمام بيتك، لقلت أن الأرجح عندي أنك نائم أو تخرّف أو حتى تكذب —بالرغم من إعجابي بصِدقك— على أن أصدق أن هذا حدث فعلًا. لو كان المؤرخ متسقًا مع نفسه وأدواته، فلا مجال لاستبدال الصَّلب بأطروحة أخرى.
إذن ما قصة الجماعات التي جاءت بعد ذلك؟ ماذا قالت؟ الواقع هو أن العالم القديم كان عالمًا متعدد الأديان بدرجة كبيرة، وهناك شيء أعمق تأثيرًا من الأديان وهو الفلسفة. واحدة من هذه الفلسفات أو أنماط التفكير كانت الغنوصية. للغنوصية مفاهيم مستقلة أحيانًا، لكنها أغلب الوقت وجدت لنفسها مساحة في أدبيات كل الأديان. أنت كدين عندك قصّة، تبدأ الغنوصية بالتدخل وسط أفرادك، أو يصل دينك لمنطقتهم الجغرافية، فتندمج القراءة الغنوصية وتظهر لك نسخة غنوصية من دينك.
الغنوصية ليست فلسفة تاريخ، أي ليست معنية بما حدث بقدر ما هي معنية بمعنى ما حدث. في الغنوصية صراع سماوي بين قوى الآلهة، آلهة متعددة تتصارع على حكم العالم، وعلى الحق، وعلى وعي الإنسان. فيها إله حقيقي، وإله شرير يسيطر على العالم المادي، فكره أفلاطونيّة كالفصل بين عالم المُثُل الكامل، وعالم المادة القاصر.
بالنسبة للغنوصية، فموت يسوع كان حدثًا أُعيد قراءته. يعني الغنوصيون ليسوا ناسًا يملكون مصادر تاريخية قديمة بديلة وقد “حرّفوها” أو أخفوها. هم ببساطة أعادوا قراءة بعض الأناجيل —كما سنرى في الأجزاء القادمة عند مناقشة العظة الثانية لشيث العظيم وعقيدة باسيليدس— وهذه القراءة تُعيد صياغة الصَّلب في ضوء الصراع السماوي بين الإله الخيّر (إله العهد الجديد) وإله العالم (ممثلًا في إله العهد القديم وأتباعه).
حدث الصّلب، بالعار المنظور فيه، كان حدثًا لا يُمكن التخلُّص من تاريخيّته. لكن عند الغنوصيين، الظاهر/المادّة ليس جوهر الأشياء. وبالتّالي، يسوع متعدِّد الطبائع، له مستويان (على الأقل) من الوجود: مستوى بشريّ ظاهريّ يُمكن تغييره في أي وقت (polymorphic)، ومستوى حقيقيّ روحيّ إلهيّ، عديم الفساد، وعديم الألم، وغير متغيِّر. الفصل الحادّ بين الطبائع هذا نتج ردًّا على السّرديّة الأرثوذكسيّة التي تحاول تصويغ الاتحاد بين الطبيعتين بلا انفصال في أي لحظة.
هنا أيضًا نرى أن الصراع ليس حول “يسوع التاريخي” الذي يتحدث عنه الباحثون، بل حول يسوع الإيمان. الغنوصيون، بفصلهم بين الطبيعتين، استطاعوا تخليق مساحة لنفي حقيقة الصليب مع الإقرار بظاهره (التي قلنا إنها انتشرت انتشارًا واسعًا يمنع إنكارها). الحل كان هو أن الظاهر ليس الباطن. يسوع الذي صُلب أمامكم ليس هو يسوع الحقيقي.
التمييز بين آراء اليسوعيين في موت يسوع حدث بعدة طرق. فبعض الفرق قالت إن يسوع كإنسان تألم عاديًا، وفي الوقت نفسه ظهر يسوع الروحي لتلاميذه ليفهمهم الحقيقة. وفرق أخرى قالت إن الصليب نفسه كان له مستويان: مستوى العقوبة الرومانية، ومستوى سماوي (كفكرة يسوع الذي بلا هيئة، ومصلوب على صليب من نور، في أعمال يوحنا). وقالت فرق أخرى إن يسوع كان على الصليب، لكن آلامه كانت ظاهرية، لأنه في الحقيقة لا يتألم. وارتأت فرق أخرى في لحظة حمل سمعان القيرواني للصليب اللحظة المناسبة ليغير يسوع شكله، فيُصلب سمعان بدلًا منه، مخادعًا بذلك إله العهد القديم وأتباعه. كل ما يحدث هنا هو تأملات وانعكاسات في نصوص موجودة ومكتوبة، وهي نصوص الأناجيل الأربعة.
حسنًا، هل المؤرخ يستطيع إثبات أطروحة الغنوصيين؟ الإجابة المختصرة: قطعًا لا.
هل “قطعًا لا” هي إجابة دينية؟ أيضًا لا. قطعًا لا،
لأن المؤرخ ليُنظر في خبر يحتاج لخبر قديم من مصادر متعددة، ولا يخالف ما نعرفه عن سير الطبيعة. المؤرخ في دراسة الصَّلب متوفر لديه كل ما يحتاجه، وفي نفي الصَّلب ينقصه كل شيء. ينقصه مصادر قديمة متعددة ترجع لزمان ومكان الحدث، وتواجهه إشكالية معرفية كبيرة: بديل الصَّلب هو أن الناس رأوا بعيونهم شيء، والواقع شيء آخر، وأساسًا المعرفة تتحرك من افتراض مسبق بصدق الحواس. فلو الحواس غير صادقة، واحتمال أن نرى شخصًا يُصلّب وهو ليس كذلك، إذن لا معرفة أصلًا ولا جدوى للحواس.
المؤرخ ليس لديه سوى خبر واحد متسق مع أدواته التاريخية ومع السياق الزمني والثقافي ومع علم المعرفة، وهو أن شخصًا يهوديًا في القرن الأول تم صلبه، وانتشر خبر موته وسط أتباعه وخارجهم. لا يوجد شيء غريب أو مخالف لسير الطبيعة أو للخبر المنتشر نفسه. لذلك، الذين طرحوا إشكاليات معرفية على المعجزات والقيامة والنبوات ليس لديهم أي مشكلة في القول إن الصَّلب هو “الحقيقة التي لا تقبل النزاع” في حياة يسوع. يمكن أن نناقش التفاصيل نفسها: أي يوم تم الصلب بالضبط؟ وكيف تم محاكمته؟ وهل الحوار الذي دار بينه وبين بيلاطس تاريخي أم لا؟ كل هذه التفاصيل لن تؤثر على الحدث الجلل نفسه، وهو موته البشع على يد جنود الإمبراطورية الرومانية.
لسهولة المتابعة، ستكون السلسلة مقسمة إلى مجموعة محددة من المقالات، بحيث إذا توقفت عند مقال معين يمكنك الرجوع وإكمالها بعد ذلك بسهولة.
- إنجيل برنابا.
- إنجيل يهوذا.
- رؤيا بطرس.
- أعمال يوحنا.
- العظة الثانية لشيث العظيم.
- رسالة بطرس إلى فيلبس.
- باسيليدس السكندري الغنوصي.
- مرقيون السينوبي.
- الأبيونيين والنازوريم.