- أسطورة ١٦ فرقة مسيحية أنكرت الصَّلب
- إنجيل برنابا
- إنجيل يهوذا
- رؤيا بطرس
- أعمال يوحنا
- العظة الثانية لشيث العظيم
- رسالة بطرس إلى فيلبس
- ☑ باسيليدس السكندري الغنوصي
هذا المقال سيكون واحدًا من أهم الفصول في السلسلة، إن لم يكن أهمها. والسبب أننا هنا فعلًا نتعامل مع مؤسس جماعة غنوصية، يُنسب إليه أنه نفى الصلب. وعلى الأرجح هو مصدر هذه القصة التي تناقلتها المصادر التالية التي قامت بنفس الادعاء. وهو تحديدًا أول من يُنسب إليه أنه قال إن الشبيه هو سمعان القيرواني. فلنَر كيف كانت قصة باسيليدس.
قبل أن نبدأ، دعني أخبرك عن مسار كان من الممكن أن أسلكه، لكنني لن أستخدمه. هذا المسار هو أن أورد لك أقوال آباء تقول إن باسيليدس رجل شرير، وأعماله لا أخلاقية، وأنه انشق لأنهم رفضوا أن يرسموه أسقفًا، وأنه ترك الإيمان وقت الاضطهاد [1] وما إلى ذلك من التهم التي بناءً عليها نسقط صلاحيته.
السبب الذي سيجعلني لا أقوم بهذا المسار هو أن أي جماعة عندما تناقش أقوال منشق عنها، فإنها تسمه بوصم أخلاقي، وهذا ليس بالضرورة يعكس صورة تاريخية عنه. لذا، لن نأخذ وصفًا لأخلاق وشخص باسيليدس من مخالفيه، وسنكتفي فقط بتقصي ما يمكن أن نعرفه عنه في حدود موضوع البحث.
مبدئيًا، باسيليدس كان مُعلّمًا سكندريًّا نشطًا بين عامي 120-140 ميلادي [2]. يُحتمل أن فترة نشاطه تحديدًا كانت حوالي عام 132م في الإسكندرية بناء على تأريخ كليمندس السكندري لنشاط باسيليدس في الإسكندرية في عهد الإمبراطور هادريان (117-138م) وأنطونيوس بيوس (138-161م) [3].
ويذكر يوسابيوس القيصري إن باسيليدس عاش في الإسكندرية في السنة السادسة عشرة من حكم هادريان (132م)، كما يذكر جيروم أن باسيليدس مات في الإسكندرية في نفس وقت ثورة بار كوخبا (الثورة اليهودية الثانية)، وهذا يعني أن باسيليدس كان تقريبًا نشطًا في الإسكندرية ما بين عامي 132 و135 ميلادي [4].
باسيليدس في اقتباسات آباء الكنيسة
ما نعرفه عن باسيليدس من الآباء الذين اقتبسوا منه هو فقط أربع أو خمس فقرات قصيرة.
الأولى عند هيبوليتوس، في هذه الفقرة يحاول باسيليدس شرح حالة العدم الكامل، فيقول ما معناه إنه كانت توجد مرحلة من العدم الكامل؛ الذي لا يوجد فيه مادة ولا جوهر ولا فراغ من المادة ولا بساطة ولا استحالة للتركيب ولا ملاك ولا إنسان ولا الله.
كل شيء يمكن للإنسان أن يعطيه اسماً لم يكن يوجد.[5](هيبوليتوس، تفنيد جميع الهرطقات)
الفقرة الثانية، وهي الأطول، موجودة في كتاب المتفرقات لكليمندس السكندري. في هذه الفقرة، يناقش علاقة الألم بالخطيئة من منظور فلسفي، وهذه الأجزاء لا تحتوي على اقتباسات كتابية.
ومن المُلفت للنظر أن باسيلييدس، في معرض مناقشته لكون الخطيئة مسببة للألم أو بمعنى آخر مُبرِّرة له والمعاناة، يقول أن: الإنسان الذي ينوي الزنى هو زانٍ، والإنسان الذي ينوي القتل هو قاتل، حتى وإن لم ينجح في الفعل. وبعدها، يقول إنه: لو رأى إنسانًا يعاني ولا يُعرف عنه الخطأ، فإنه سيلومه أيضًا على أنه بالتأكيد نوى الخطيئة، ويقول إنه: يرى أن أي فكرة ستكون أرجح من أن تكون العناية الإلهية شريرة. يكمل بعد ذلك ويتكلم عن “السيد” (بتعبير كليمندس) ويقول:
ولكن دعونا نفترض أنك تركت هذه الأمور جانبًا، وحاولت أن تُحرِجَني بالإشارة إلى بعض الشخصيات، ربما تقول:[6]بناءً على ما قلت، ينبغي أن فلانًا قد ارتكب ذنبًا، لذا تألَّم!. إن أذنت لي، سأقول إنه لم يُخطئ، ولكنه كان كمولودٍ جديد يتألَّم. ولكن إن أصررت على دفع سؤالك، سأقول إن كل إنسان يمكن أن تذكره هو إنسان. الله صالح! لأنه لا أحد طاهر من الدَّنس، كما قال أحدهم قبلًا.(إكليمندس، المتفرقات)
الفقرة الثالثة أيضًا عند كليمندس السكندري، في المُتفرِّقات، ويقول فيها:
نحن نفترض أن جزءًا أولًا من مشيئة الله أن يُحبَّ الجميع، وثانيًا ألا يرغب شيئًا، وثالثًا ألّا يكره شيئًا.[7]( إكليمندس، المتفرقات)
أما الرابعة فهي من عند أوريجينوس، في تعليقه على رسالة روميه، في الفقره 1015 B بيقول:
بالفِعلِ قال الرسول [بولس][8]أما أنا فكنت قبل الناموس عائشاً قبلاًفي وقتٍ سابِق أو غيره. أي قبل أن آتي في هذا الجَسَد، عِشت في جسدٍ لا يخضع للنَّاموس. جَسَد حيوانٍ أو طائر.(أوريجينوس، على رسالة روميه)
هناك فقره خامسه، منقوله بالمعنى، يقول فيها [9]:
واحد في كل ألف، وإثنان في كل عشرة آلاف؛ فهموا الحقيقة.[10]، [11]
هذه الفقرات، بالرغم من أنها بسيطة وقصيرة، من الممكن أن تساعدنا على فهم بعض الجوانب في فكر باسيليدس. وسنرجع إليها ثانية بعد أن نرى الإشارات التي تخص موضوعنا وهو صَلب يسوع.
الفقره اللي تهمنا بخصوص الصَّلب مذكوره عند إيرينيوس في ضِد الهرطقات
، وبحسب چيمس كلهوفر فإن المعنى ينقله إيرينيئوس عن باسيليدس وليس نصّ كلام باسيليدس [12]:
لقد ظهر على الأرض وصنع المُعجزات. لذا هو نفسه لم يتألَّم. بل [شخص ما يُدعي] سمعان القيرواني أُجبِرَ أن يحمل صليبه عنه. لقد كان هو [سمعان] الذي صُلِبَ بالجهِل والخَطأ، لأنّه [يسوع] ظهر فيه، لكي يُظَن أنه [سمعان] هو يسوع. وأيضًا أخذ يسوع صورة سمعان ووقف يسخَر منهم ضاحكًا.[13](إيرينيئوس، ضد الهرطقات ١: ٢٤: ٤)
وكما ترى، فالنص فيه غموض كبير في الضمائر، وتطلّب هذا من المترجم للإنجليزية أن يضع الأسماء بين أقواس كما كتبتها لك. ولكن، دعنا نلاحظ بعض النقاط.
النصّ الإنجليزي يقول: a certain Simon of Cyrene،
كلمة certain
[أُجبِر] في النصّ اليوناني τινα
[وفي اللاتيني quondam]
ولو قارنت الأناجيل الثلاثة الإزائيين، ستجد أن كلمة τινα
مستخدمة في مرقس (16: 21) ولوقا (23: 26)، لكن غير موجودة في إنجيل متَّى.
إذن، بناءً على الصيغة المستخدمة، لو كان إيرينيئوس أمينًا لنص كلام باسيليدس، لكان باسيليدس يعرف نص مرقس ولوقا تحديدًا.
ونفس الأمر في اللاتينية. لو ركزت في عبارة إيرينيئوس: Simonem quendam Cyrenaeum angariatum
، ستلاحظ أنها متشابهة مع تركيب نص لوقا في الترجمة اللاتينية، لكن لا يوجد الفعل “angariatum” من “angario” الذي بمعنى الإجبار. في لوقا، يوجد بدلاً منه “أمسكوه” من “prehendo” (بدل “أجبروه”)، بينما في مرقس، يوجد الفعل “angario”، وهو نفسه الذي استخدمه إيرينيئوس.
من الواضح أن صياغة إيرينيئوس لكلام باسيليدس تدمج القراءتين الواردتين في مرقس ولوقا في الترجمة اللاتينية، بحيث يكون ترتيب الجملة شبيهًا بترتيب لوقا، لكن الفعل أُخذ من مرقس.
الفعل المستخدم في كلام إيرينيئوس أجبروه
موجود في مرقس ومتى، ولكنه غير موجود في لوقا. ولهذا السبب، يقول چيمس كلهوفر إن هذه الفقرة من كلام باسيليدس متأثرة بمرقس 15: 21 أو متى 27: 32، أو تدمج بينهما، ويضيف أننا لن نتمكن من الفصل في هذه المسألة. [14].
ما نعرفه حتى الآن أن باسيليدس كتب 24 مجلدًا [15]. لكن هؤلاء الـ24 مجلداً، لا أحد يعرف هل كانوا إنجيلًا أم شروحات لفِكره. باحثون مثل ڤالتر باور، ڤيرنر فورستر، جيرهارد ماي، وأندرو جريجوري، يرون أنه كتب إنجيلًا فعلًا، بينما باحثون مثل ثيودور زان، هانز ڤينديش، روبرت جرانت، بنتلي لايتون، إم. چيه. إدواردز، وكريستوف ماركشيز، يرون أنه لم يكتب إنجيلًا، لكنه كتب تعليقًا على أناجيل ونصوص أخرى [16].
والشذرات التي لدينا من كتاباته لا تحتوي على اقتباسات مباشرة من نصوص العهد الجديد سوى رومية 7: 9، والنص الخاص بسمعان القيرواني، الذي إما من متى أو من لوقا، أو ليس من الاثنين، والأرجح أننا لن نعرف.
باسيليدس يعرف كتابات بولس ويستخدمها. وقدّم ڤينريش لور في كتابه بعض الأدلة على أن مرقيون السينوبي كان يعرف إنجيل لوقا أيضًا، وهذا بناءً على تحديد باسيليدس لوقت ميلاد يسوع، وهو ما عرفناه من كليمندس السكندري في المتفرقات 1: 145: 6 إلى 1:146: 4 [17].
ألاستير لوجان نفسه يرجّح أن باسيليدس علَّق على لوقا 21: 9-19 وربما متَّى 24: 6-14. وفكرة معرفة باسيليدس بنصّ لوقا يتكلَّم عنها چيمس كيلهوفر، فيقول إن هناك شاهدًا آخر لكلام مرقيون [18].
نصّ آخر اسمه Acta Archelai et Manetis
، [أعمال أرخيلاوس ومانيتوس
]، في الفقرات 67: 5-11، يعكس معرفة مرقيون بمثل الغني ولعازر في لوقا 16: 19-31. ما يستنتجه چيمس كيلهوفر في ورقته البحثية هو أن العمل الضخم الخاص بباسيليدس كان على الأقل تعليقًا على نصوص إنجيلية [19].
لنرتب كل هذه الشذرات المبعثرة:
باسيليدس يعرف بعض نصوص العهد الجديد. من الاقتباسات البسيطة التي وصلتنا من كتاباته، هو يعرف رسالة رومية. ومن النقاط الأخرى التي ناقشناها، هو يعرف قصة صلب المسيح في نسختها الإزائية (التي في مرقس ومتى ولوقا). بعض الدارسين يرجحون أنه يعرف نسخة لوقا تحديدًا، وهذا من خلال معرفته بمعاد ميلاد المسيح وبعض الأمثال. وهناك من يرون أن كلامه عن الصلب الذي نقله إيرينيئوس يعكس معرفة بمرقس أو متى. وأنا أشرت لك على تشابه آخر مع قراءة في لوقا. في المجمل، من الظاهر أن باسيليدس كان يعرف بعض النصوص من الأناجيل الإزائية، أو واحدًا منها على الأقل.
باسيليدس أعاد قراءة قصة الصلب التي وردت في الأناجيل الإزائية في ضوء المزمور الثاني، وفي ضوء فهمه للعلاقة بين العناية الإلهية والألم والخطيئة. في الفقرات التي نقلها كليمندس، يقول باسيليدس إن كل ألم بالضرورة مرتبط بالخطيئة أو على الأقل بالميل إليها، سواء تحقق هذا الميل أم لا. ويقول باسيليدس إنه حتى لو كان أمامه شخص بلا خطيئة ظاهرة ويعاني، فإنه سيميل إلى اعتبار أن هذا الشخص قد أخطأ بالرغبة في الخطيئة، حتى وإن لم يفعلها؛ لأن الشك في صلاح الشخص أسلم من الشك في عدالة العناية الإلهية [20].
كيف يؤثر هذا في قصة صلب يسوع؟
يسوع عند الغنوصيين هو كائن إلهي، وهذا الكائن الإلهي بلا خطيئة. طيب، إذا كان الألم ناتجًا عن الخطيئة، ويسوع بلا خطيئة، فكيف إذن تألّم يسوع؟
باسيليدس هنا استخدم شيئين ليتخلص من هذه المشكلة. المقدمة الأولى عند باسيليدس هي أن يسوع بالضرورة لم يتألم لأنه لم يخطئ، والتخريجة الخاصة به جاءت من خلال قراءته للمزمور الثاني.
لماذا ارتجت الأمم، وتفكر الشعوب في الباطل؟ قام ملوك الأرض، وتآمر الرؤساء معا على الرب وعلى مسيحه، قائلين: «لنقطع قيودهما، ولنطرح عنا ربطهما». الساكن في السماوات يضحك. الرب يستهزئ بهم.(المزامير ٢: ١-٤)
فكرة المسيح الذي يقف بعيدًا، يشاهد الخدعة التي صنعها إله العهد الجديد ضد إله العهد القديم، هي إسقاط تفسيري من باسيليدس على قصة صلب المسيح، التي يعرفها من الأناجيل الإزائية.
النقطة الثانية التي على الأرجح جعلت باسيليدس يخلص إلى أن سمعان القيرواني صُلب بدلًا من يسوع هي غموض الضمائر في نص مرقس (15: 21-25). اقرأ معي هذه النصوص بتركيز لترى ماذا فعل باسيليدس:
فسخروا رجلًا مجتازًا كان آتيًا من الحقل، وهو سمعان القيرواني أبو ألكسندرس وروفس، ليحمل صليبه. وجاءوا به إلى موضع «جلجثة» الذي تفسيره موضع «جمجمة». وأعطوه خمرًا ممزوجة بمر ليشرب، فلم يقبل. ولما صلبوه اقتسموا ثيابه مقترعين عليها: ماذا يأخذ كل واحد؟ وكانت الساعة الثالثة فصلبوه.(إنجيل مرقس ١٥: ٢١-٢٥)
هنا الضمائر غامضة. بعد الكلام عن سمعان القيرواني، تظهر ضمائر الغائب المذكر المفرد في الكلمات “صليبه”، “أعطوه”، “صلبوه”، “ثيابه”، “صلبوه”. الذي فعله بازيليدس هنا هو أنه رأى في هذا الغموض اللحظة المناسبة لتجنيب يسوع للمعاناة. وكما قلنا من قبل، يسوع كيان إلهي بلا خطيئة، ولا يجب أن يعاني لأن هذا من عدل العناية الإلهية. لذا، فسر باسيليدس كل هذه الضمائر على أنها عائدة على سمعان، وليس على يسوع.
هناك جانب آخر سياسي للمشهد، ومن المفيد معرفته، ذكره بنتلي لايتون: كانت منطقة قيروان في ليبيا منطقة صراع عنيف جدًا ما بين اليهود والأمم، وذلك في حدود سنة 115-116م. قتل اليهود مئات الآلاف من السكان الأمم هناك، والأمميون الذين هربوا من قيروان وذهبوا إلى الإسكندرية نظموا مذابح رهيبة ضد اليهود السكندريين. من الوارد جدًا أن تكون قراءة باسيليدس قراءة سياسية، الهدف منها إلقاء اللوم على سمعان القيرواني كممثل ليهود قيروان الذين عليهم دم الآلاف من الأمميين هناك [21].
ختامًا، قراءة باسيليدس، كما رأينا، لا تعكس رؤية مؤرِّخ لديه مصادر تاريخية مبكرة مستقلة تقدم سردية تاريخية بديلة عن الصَّلب، ولكنها رؤية لاهوتي ومفسِّر يحاول إعادة قراءة النص من خلال رؤيته اللاهوتية ومن خلال تحريكه لمعاني التراكيب النحوية ودلالاتها. باسيليدس بعيد زمانيًا ومكانيًا عن حدث الصَّلب، وباسيليدس لا يحكي قصة مختلفة، ولكنه يحكي القصة المعروفة للصَّلب، لكنه يقول إن يسوع غير مستحق للألم، وبالتأكيد اجتنب الألم، لأن حاشا للعناية الإلهية أن تكون ظالمة.