قضية القداسة في كنيسة الله

وحواران من القديس كبريانوس والعلامة هيبوليتس
مع أسقفي روما في عصرهما

الكنيسة “مقدسة” هي، لأن المسيح “قدوس الله” حاضر فيها كرأس للجسد، أو كينبوع طاهر فياض يروي أرضًا عطشانة. وقد رأينا كيف عبر القديس عن ذلك حينما تكلم عن الينبوع الذي فاض من جنب المسيح على الصليب، مشيرًا إلى نعمة المعمودية أو ال أو كليهما معًا.

وترتكز صفة “القداسة” في الكنيسة على حقيقة الكنيسة كجسد المسيح “السري”، بسبب الحضور السري للمسيح وسط المؤمنين، من خلال الإفخارستيا أولًا، ذلك السر الذي كان مركز اجتماع المؤمنين المنتظم للعبادة، وينبوع القداسة الذي ينهل منه أعضاء الكنيسة أولًا بأول.

لذا، فالكنيسة كانت معتبرة أنها الواسطة الأولى للنعمة التي من خلالها تصل إلينا صفات المسيح نفسه وأولاها صفة “القداسة”.

لقد رأينا أن عقيدة الكنيسة كجسد المسيح السرى كانت على فم الآباء منذ البداية. فال لا يكف عن وصف الكنيسة بهذه الصفة مؤكدًا أنه حيث يكون المسيح فهناك . ثم يأتي القديس إيرينيئوس ليقدم التكميل اللازم لهذا الحضور، حينما تكلم عن الروح القدس أيضًا كحال وسط الكنيسة؛ حيث تكون الكنيسة فهناك روح الله، وحيث يكون روح الله فهناك الكنيسة وكل نوع من النعمة  [1].

والكنيسة والكهنوت والأسرار كلها تسمى مقدسة، سواء لأنها هي في حد ذاتها مقدسة، أو لأنها تجعل الناس مقدسين بسبب النعمة التي توصلها لهم.

ثم -وفي القرن الرابع- أُلحقت صفة “القداسة” رسميًا بالكنيسة بمقتضى قانون الإيمان النيقاوي [2]. وصارت هذه القداسة التي هي من فضل نعمة حلول المسيح وسكنى الروح القدس في الكنيسة، صارت هي صفة كل عضو في الكنيسة. وقد كانت “سوسنة العفيفة” رمز “الكنيسة”، عند العلامة ، وهي تحمل مضمون التحرر من خطايا الجسد. هذا التحرر هو علامة الكنيسة وكل عضو فيها (دا ١٤: ١، ١٥). أما القديس كبريانوس فهو يرى في قصة سوسنة رمزًا للكنيسة أيضًا ولطهارتها، سواء الطهارة العقائدية أو الطهارة السلوكية (رسالة ٤:٣٩).

لقد دخل كل من العلامة هيبوليتوس والقديس كبريانوس، كل على حدة، في حوار عقائدي حاد حول قضية قداسة الكنيسة، الأول مع كورنيليوس والثاني مع كاليستوس، وكلاهما كانا أسقفين لروما في القرن الرابع.

ولنبدأ قصة كل منها:

على مدى الثمانين سنة بين عام ١٤٠م. والسنة التي اعتلى فيها “كاليستوس” أسقفية روما، تعاقب على روما لاهوتيون أجانب متعددون، بالإضافة إلى ما كان فيها من معلمين رومانيين من مواطني روما: عدو العهد القديم، فالنتين أبو ال، وس المدافع عن الإيمان، أسقف أزمير الشهيد، ثيئودوتس الذي أنكر لاهوت المسيح، نوئيتوس وبراكسياس، سابيليوس الذي خلط شخص المسيح بشخص الله الآب، إيرينيوس المعلم الإنجيلي من ليون، العلامة السكندري.

وكل هؤلاء -باستثناء بوليكاربوس وإيرينيوس وأوريجانوس- استقروا ولو إلى فترات كبيرة كمعلمين في مدارسها المختلفة.

وقد كان للعلامة هيبوليتس مدارسه وتلاميذه المخصصين، وبحسب رواية فقد حضر أوريجانوس إحدى محاضرات هيبوليتس في الكنيسة، وقد أشار آنئذ هيبوليتس في نهاية حديثه إلى وجود معاصرة الشاب المشهور ضمن مستمعيه هذا المساء.

ويستخدم هيبوليتس كلمة “مدرسة” لمثل هذه المراكز التعليمية ذات التأثير. وبعد أن اختلف مع كاليستوس، أسقف روما، على بعض المسائل اللاهوتية والطقسية، وبعد أن أقام جماعة منشقة استمرت لعدة سنوات، اتهم كاليستوس بأنه أسس مدرسة ضد الكنيسة، واشتكى بأن مدرسته ما زالت مستمرة تحافظ على عاداته وتقاليده، غير مميز مع من ينبغي أن يدخل في شركة، بل معطيًا الشركة لكل إنسان بلا تمييز.

ومعظم هؤلاء المذكورة أسماؤهم – ما عدا قلة – حولوا “مدرستهم” إلى كنائس منشقة، لأن طموحهم كان ذاتيًا شخصيًا.

في هذا الإطار اعتلى كاليستوس أسقفية روما، مواجهًا هرطقات عدة تختص بلاهوت المسيح. وكان يحس بأن واجبه أن يلقى بكل ثقله لحفظ الوحدة، ليس وحدة اللاهوت في السماء فحسب، بل وحدة الكنيسة على الأرض أيضًا.

أما الحوار حول قداسة الكنيسة، فقد بدأ حينما أصدر كاليستوس منشورًا بالتساهل في بعض مستويات قانون النظام الأخلاقي الصارم داخل الكنيسة، والذي كان متبعًا في العصور الأولى للمسيحية. فقد فتح كاليستوس الباب أمام التوبة العلنية، والرجاء في إعطاء الحل للمسيحيين الذين سبق أن سقطوا في خطايا الجسد.

أما هيبوليتس فكان يرى بأن مثل هؤلاء الخطاة. يجب أن يُحرموا من نعمة الحل إلى الأبد مهما طلبوها أو ألحوا في طلبها.

وكان المسيحيون في العصور المبكرة للمسيحية، إذا ما سقط أحدهم في إحدى الخطايا الجسيمة، كان يوضع تحت قانون توبة، مفتوح المدة. فكان إذا ما اعترف بخطيته أمام الأسقف كان يدرج اسمه في طقس التائبين إلى فترة محددة، قد تمتد إلى سنين عدة. وفي هذه الفترة كان يُحرم من التناول، ويُعزل عن حضور العمادة المشتركة، وكان هو من جهته يضع نفسه تحت طاعة الأسقف ووعظه وتأديبه، ثم يطلب صلوات الأسقف ووضع يدى الحل والبركة عليه.

وكثيرًا ما كان يلبس التائبون المسوح ويجلسون في الرماد، يسكبون الدموع ويرفعون توسلات الرحمة. وكانوا يقرنون كل هذا بممارسات التقوى الخاصة كالصوم وتقديم الصدقة، وإن كانوا غير متزوجين فكانوا يقضون بقية حياتهم في البتولية، وإن متزوجين فكانوا يمتنعون عن معاشراتهم. وكان يطلب منهم الابتعاد عن أماكن اللهو العامة، والتزام ممارسة النسك الصارمة.

وفى الميعاد المحدد كانت توبتهم تقبل وتعاد شركتهم في الكنيسة باحتفال مهيب. ولكن لم يكن الأمر ينتهي بهم عند هذا الحد، بل كانوا يظلون تحت نظام نسكي مناسب حتى نهاية حياتهم.

أما إذا ارتد واحد من هؤلاء ثانية، فلم يكن في إمكانه أن يمارس قانون التوبة هذا لمرة ثانية. ولكنه كان يوصى بأن يحيا حياة تقشف قاسية بدموع، على رجاء أن يغفر له الله، حيث لا حل كانت تعطيه الكنيسة لمرة ثانية.

وكان الاعتقاد الشائع لدى الكنيسة في عصورها المبكرة، أن خيانة جندي المسيح مرتين، أمر لا يمكن تصوره على الإطلاق.

على أن قانون الحل هذا، لم يكن يمتد إلى من ارتكب خطية القتل أو الزنا. لكن الوضع أيام كاليستوس كان ذا طبيعة خاصة. فالاضطهادات لم تكن متواترة، بل كانت هناك فترات هدوء نسبية، فصار ارتخاء بين صفوف المجاهدين. وحالما صار كاليستوس أسقفًا لروما وضع قانونًا للتوبة، فيه يُتاح لمرتكب الزنا والقتل فرصة للتوبة مرة أخرى. وهذا ما أثار هيبوليتس ثورة عارمة على كاليستوس.

لقد كان هيبوليتس يدافع عن صفة “القداسة” في الكنيسة باعتبار الكنيسة هي للذين يعيشون بحسب البر. [3].

بينما دافع كاليستوس عن موقفه مستندًا على برهانين كتابيين: corpus permixtum

۱- مثل القمح والزوان، هذا المثل صار هو السائد في دفاع الكنيسة الجامعة فيما مكون من القديسين بعد عن فكرة أن الكنيسة هي جسد مختلط مكون من القديسين والخطاة.

٢- والمثل الثاني، فلك نوح الذي كان يضم الحيوانات الطاهر منها مع غير الطاهر جنباً إلى جنب [4].

هذه الأمثلة عرضها كاليستوس لتبين أن صفة القداسة للكنيسة مؤسسة على المغفرة أكثر مما على قداسة اختبارية لأعضائها. بينما الزوان هو في نظر كاليستوس هو الخطاة في الكنيسة.

وإذا لخصنا القضية بين الاثنين فستكون هكذا:

هيبوليتس: يرى الكنيسة أنها هي جماعة القديسين التي قداستها مضمونه بطهارة أعضائها الدائمة من خطايا الجسد.

كاليستوس: الكنيسة لا يمكن أن تفقد سماتها ككنيسة جامعة حتى في حالة وجود أعضاء غير مستحقين فيها.

إن تعليم كاليستوس كان يهدف إلى جعل فداء المسيح والبشارة بالخلاص حقيقة واقعية في حياة أعضاء الكنيسة.

أما الحوار الذي دار في شمال أفريقيا بين القديس ، والأسقف الروماني كورنيليوس، فكان ينحو نحوًا آخر.

ففي أول عام ٢٥٠ م. أمر ال كل المواطنين أن يشاركوا في تقديم ذبيحة عامة للآلهة الخالدين وكان هذا بمثابة إعلان للوحدة الوطنية التي لم تطلب فقط من المسيحيين، بل وضعتهم في شبه محنة.

فقد أُمروا أن يحرقوا القليل من حبات البخور أمام الأوثان ليس إلا! مقابل شهادات تمنح لهم. وكثيرًا ما كانت هذه الشهادات لازمة أمام السلطات العامة أكثر من أي إجراء آخر. وللأسف أطاع كثير من المسيحيين -بما فيهم اثنان من الأساقفة في أفريقيا- هذا الأمر وبخروا للأوثان.

ثم عبرت العاصفة، وبدأ السؤال يثور كيف تواجه الكنيسة هؤلاء المرتدين؟

وقد كان في قرطاجنة عدد من الكهنة الذين أعادوا بعض هؤلاء المرتدين إلى الشركة، بناء على طلب أو توسط من فئه “المعترفين” [5]، دون أن يطالبوهم بأداء توبة ولا لمدة محددة.

وقد أعد القديس كبريانوس رأيه في هذه المشكلة، لكنه بينما لم يحرم على المعترفين أداء دورهم كشفعاء لهم كلمتهم، إلا أنه جاهر بأن المرتدين يمكن قبولهم مرة أخرى في الشركة، ولكن بشرط اجتيازهم فترة تأديب كنسي طويلة. ومن حيث إن توبتهم ورجوعهم للمسيحية يظل غير مأمون دوامه، لذا فلا يمكن مصالحتهم إلا وهم على فراش الموت.

وبذلك، يكون القديس كبريانوس أكثر تشددًا في مطالب التوبة، من الكهنة الذين واجههم، لكنه كان أيضًا أقل تشددًا من سابقه العلامة ، الذي اعتبر أن هناك خطايا معينة ومنها الارتداد على الأخص، لا يمكن للكنيسة أن تعطى الحل عنها، وأنه لا مجال لإعادة التوبة عنها.

وقد صار موقف القديس كبريانوس هو الموقف التقليدي للكنيسة. وقد مارسه البابا السكندري وأساقفة روما، ومن بينهم كاليستوس الذي اعتبره العلامة هيبوليتوس متساهلًا، وهرماس صاحب كتاب الراعي الذي رفضه ترتليانوس تمامًا [6].

وسمات هذا التعليم التقليدي المختص بقبول المرتدين ثانية، يتلخص في أن عدد مرات هذا القبول غير محدود، لكنه يتطلب التزامات ثقيلة.

لقد اضطرت الكنيسة إلى التشديد في مراعاة هذه الالتزامات حتى يمكن الحد من خطر أي ارتداد آخر. كما رأت الكنيسة أن هذه الخطية يمكن علاجها بالتوبة وليس بمعمودية ثانية، لأن التوبة معتبرة أنها امتداد بالمعمودية.

وقد أبلغ القديس كبريانوس موقفه هذا للكنائس الأخرى، ومن بينها كنيسة روما، وقد انتخب كورنيليوس أسقفًا لروما عام ٢٥١م. ولكن كاهنًا رومانيًا اسمه نوفاتیان نصب نفسه أسقفًا مناوئًا ضد كورنيليوس. وأعلن هذا موقفه صراحة من مشكلة المرتدين، بأنه لا قبول لرجوع المرتدين، وكان هذا بمثابة تجديد للصراع الذي سبق اضطرامه بين هيبوليتس وكاليستوس، حيث سنظل نجد تيارين متضادين مستمرين في روما.

هذه المعركة كانت تعبيرًا عن نظريتين عن الكنيسة:

نوفاتيان: الكنيسة جماعة صغيرة من ذوى النزعة الروحانية، وهي في صراع لا مفر منه مع الوطن الأرضي: هي كنيسة أنبياء وشهداء.

الأسقف: الكنيسة هي الجسد الذي يجمع كل الناس، والذي يجب أن يأخذ في اعتباره المستويات المختلفة لهذا العدد الوفير من الناس داخل الكنيسة. إلا أن هناك مكاناً للنخبة من أعضاء الكنيسة ذوى النزعة الروحانية، وذلك في طقس الرهبنة الذي يمكن أن يروى ميولهم ويحقق دعوتهم، كما أن هناك مكانًا أيضًا الجمهور الناس العاديين الذين يعيشون المسيحية بالبساطة اليومية.

في هذا الموقف ليس من تساهل في متطلبات الإنجيل، وهذا هو الاتجاه التقليدي الذي ساد في الكنيسة. وقد كان القديس كبريانوس شاهدًا على هذا التقليد.

إن مفهوم قداسة الكنيسة لدى القديس كبريانوس عميق ومتشعب بآن واحد. فمثال الكنيسة الطاهرة يجب أن يخضع لمفهوم الكنيسة باعتبارها المكان حيث تتوفر فيه القداسة بأجلى صورها [7].

ومن جهة أخرى، فإن القديس كبريانوس يواصل احتجاجه ضد التطبيق الأعمى المثل الحنطة والزوان على طبيعة الكنيسة [8].

والحل الذي قدمه القديس كبريانوس لهذا التضاد بين المفهومين عن قداسة الكنيسة، يأتي في معرض حواره مع أسقف روما فيما بعد عن شرعية المعمودية خارج الكنيسة. فبالرغم من أنه سبق أن سلّم -اضطرارًا- بأن وجود الأعضاء الخطاة لا يعطل شرعية قداسة الكنيسة، إلا أنه صرح بأن ذلك لم يكن يسمح في نظره بالتهاون في وجود الكهنة الخطاة. والشعب لا يمكنه التنصل من سم الخطية القاتل إن كان يدخل في شركة مع كاهن خاطئ [9].

وهنا يتضح موقف القديس كبريانوس وهو يؤكد على أن الشرط الأساسي لاعتباره الكنيسة كجسد مختلط يتطلب من الأساقفة ورجال ال أن يكونوا هم أنفسهم أطهارًا، حتى يكون في إمكانهم أن يخدموا الأسرار الكنسية التي بها يمكن للشعب أن يتطهر ويتقدس.

إن إعادة تفسير قداسة الكنيسة قدر لها أن تكون إحدى النقاط الأساسية في الجدل مع الهرطقة ال [10]، لكنها أيضًا أيدت وجهة نظر القديس كبريانوس عن الكنيسة باعتبار لا خلاص خارجًا عنها [11].

ففلك نوح الذي كان يعني لكاليستوس أن الطاهر وغير الطاهر مقدر لهما أن يخلصا، كان يعنى للقديس كبريانوس أنه فقط الذين هم “داخل الكنيسة” يمكن أن يخلصوا [12]. وقد أشار القديس كبريانوس إلى ذلك بشعار معروف .

هذا المبدأ ينقلنا في الحال إلى أمر حتمي هو الحفاظ على “وحدة الكنيسة”، وهذا الموضوع كرس له القديس كبريانوس معظم مقالته الشهيرة بهذا الاسم. فوحدة الكنيسة مثل قداستها، متمثلة في الأسقفية، وهي حقيقة اختبارية لا مفر منها:

سر الوحدانية المقدس هذا، رباط التوافق المتين الذي لا ينفك.. الذي صوره الإنجيل بأنه ثوب المسيح الذي لم يقسم أو يمزق على الإطلاق.. لأن هذا الذي يمزق ويقسم كنيسة المسيح لن يكون له نصيب في ثوب المسيح على الإطلاق.

(كبريانوس، وحدة الكنيسة ٧)

والقديس كبريانوس بإثارته قضية الوحدة، كاختبار تعيشه الكنيسة، كان يعبر عن اعتقاد الكنيسة الجامعة منذ البدء.

فالهرطقة والانقسام متلازمان تمام التلازم، لأن كليهما يمزق وحدة الكنيسة.

وكما اتضح لنا من قبل -في رسائل القديس أغناطيوس الأنطاكي- فإن الكنيسة تدعى مقدسة (مرة واحدة في كل الرسائل)، بينما تدعى “واحدة” في أكثر من موضع [۱۱ مرة]. فوحدة الكنيسة هي إحدى المشغوليات الطاغية على الرسائل في عصر الآباء الرسوليين، لدرجة أنه يمكن الاستنتاج بأن أهم أساس من أسس كنيسة الآباء الرسوليين كان هو وحدتها [13].

ونفس الأمر نراه لدى القديس كبريانوس، فهو يرى الانقسام بمثابة روح تحزب [14].

ختامًا؛ ومن قراءتنا لهذين الحوارين الذين حفظهما لنا التاريخ، نطلع على طرف من اهتمامات آباء الكنيسة ومعلميها في أواخر القرن الثالث، وحرصهم على مستوى قداسة أعضاء الجسد الواحد، باعتبار أن فساد أي عضو بالخطية إنما ينعكس أثره على الجسد بأكمله، وبالتالي يحجب نور المسيح، ويعطل الكرازة بخلاصه الأبدي.

على أن قضية “القداسة” في الكنيسة، كما شغلت آباء الكنيسة ومعلميها، كذلك أثارت عديدًا من الانشقاقات والهرطقات من جانب من أسماهم الآباء بالحماسيين ἐνθουσιασταί, enthusiastics

ومن أخطر هذه الانشقاقات التي قامت كرد فعل لهبوط مستوى “القداسة” داخل الكنيسة، انشقاق المونتانية.

وقد بدأت هذه الحركة في النصف الأخير من القرن الثاني، على يد “مونتانس” في فريجية بآسيا، الذي ادعى أنه “بوق الروح القدس” وأنه حامل نبوات وإعلانات من الله، وأن أورشليم السماوية سوف تنزل على يديه على مدينة قريبة من موطنه “فريجية”. وكأنه بهذا ينبه إلى الاستعداد لمجيء المسيح الثاني الذي سيتم حالًا.

وقد ادعت هذه الحركة إمكانيتها على إرجاع القداسة للكنيسة عن طريق الممارسات الغريبة. وقد أكد يوسابيوس المؤرخ الكنسي أن مونتانس تكلم وأتى بأصوات غريبة. لكن الأمر انتهى بمونتانس هذا أن ادعى أنه هو نفسه “الروح القدس”!

وقد لوحظ في كل هذه الانشقاقات أنها قامت أولًا كرد فعل للاسترخاء الروحي والأخلاقي في الكنيسة، أو لإنكار دور الروح القدس المباشر في الفداء والتقديس، ففرضت على أتباعها مستويات صارمة من النسك والسلوك، مثل تحريم ، وإدانة كل تهاون في الصوم، ومنعت إعطاء الحل للتائبين عن خطايا الجسد، وادعت أنها وحدها تتحدث وتتنبأ بالروح القدس؛ لكنها انتهت -في النهاية- إلى الخرافات شديدة عن التعليم الصحيح.

وبعد أن أزعجت المونتانية الكنيسة ردحًا من الزمن، وبعد أن امتدت إلى نواحي متفرقة من العالم [15]؛ بدأت تفقد قوتها، حينما بدأ الكنيسة تدرك وتعي حقيقة حضور الروح القدس وسطها، من خلال الأسرار والتقليد أكثر منه من خلال حالات الغيبوبة والنبوة المزعومة كما ادعى مونتانس وأتباعه.

على أن تاريخ الكنيسة لم يكف -من جهة أخرى- عن عصور تفيض بالمواهب الفائقة للروح القدس التي بدت في حياة آباء الرهبنة -منذ أواخر القرن الثالث- تلك الحركة التي ولدت وعاشت داخل حضن الكنيسة جسد المسيح الحي، وتغذت على الحضور السري للرب وسط تلاميذه الممتد في كل عصر ومن جيل إلى جيل. وكانت شاهدًا على أن عصر النبوة والإلهام بالروح القدس لم يكف عن حياة الكنيسة أبدًا [16].

فمجيء المسيح لم يعد مؤجلًا تمامًا إلى المستقبل، ولا هو مرتد تمامًا إلى الماضي، ولكنه محصلة الحقيقة التاريخية الماضية والحدث الأخروي المنتظر معًا، متركزين في سر الحضور الإلهي غير المدرك، المستعلن للمؤمنين من خلال سر التناول من جسد الرب ودمه الأقدسين.

قضية القداسة في كنيسة الله وحواران من القديس كبريانوس والعلامة هيبوليتس مع أسقفي روما في عصرهما بقلم الأب ، نُشر أوّل ما نُشر في ، عدد مارس ١٩٧٩، الصفحات من ٤١ إلى ٤٩
هوامش ومصادر:
  1. إيرينيئوس، ADV. HAER، ٣: ١:٢٤ [🡁]
  2. وبجانب صفة “القداسة” ألحقت صفة “الوحدة” بها أيضًا، كصفة ملازمة لصفة “القداسة”. وهذا مناسب جدًا، لأن الفهم اللاهوتي للقداسة يبين لنا أن هناك علاقة وثيقة عميقة جدًا بين قداسة الكنيسة ووحدة الكنيسة. وقد أصبحت وحدة الأسرار ضرورية للحفاظ على وحدة الكنيسة رب واحد. إيمان واحد. معمودية واحدة. [🡁]
  3. دا ۷:۱۷:۱ [🡁]
  4. راجع هيبوليتس: الهرطقات ۱۲:۹، ۲۲، ۲۳ [🡁]
  5. المعترفون: هم الذين عانوا من الاضطهاد في أجسادهم، ولكن دون أن يستشهدوا، وقد كان لهؤلاء رأى مسموع لدى الأساقفة والمجامع الكنسية، وكان يُسمح لهم بالتشفع من أجل الخطاة الذين يقضون فترات تأديب كنسي. [🡁]
  6. ينبغي ألا نعجب من موقف هؤلاء المتشددين، لأن المستوى الأخلاقي لأعضاء الكنيسة في ذلك الوقت كان من الرفعة والسمو ما يجعل أي انحراف من جانب عضو في الكنيسة أمرًا شاذًا مثيرًا للتساؤل عن أصالة إيمان هذا العضو. فالعلامة ترتليانس كتب مثلًا -وهو بعد منضمًا للكنيسة الأرثوذكسية في عصره- مفتخرًا بأن أعضاء الكنيسة وحدهم -دون باقي رعايا الامبراطورية الرومانية الآخرين- لم يكونوا يقعون تحت اتهام في أي جريمة (الدفاع ١:٤٥)، وأنه لم يكن في السجون الرومانية أي مسجون واحد مسيحي بسبب أي جريمة غير كونه مسيحيًا!! [🡁]
  7. رسالة ٥٤: ١٥، ١٦ [🡁]
  8. رسالة ٣:٥٠ [🡁]
  9. رسالة ٣:٦٧ [🡁]
  10. الدوناتية: نسبة إلى “دوناتس”، وهو أسقف منشق عن كنيسة شمال أفريقيا (سنة ٢١٣م.)، وهي شيعة متطرفة اعتبرت نفسها هي وحدها الكنيسة المكونة من القديسين، وكان الذي يرغب في الانضمام إليها يعاد تعميده. [🡁]
  11. لا خلاص خارج الكنيسة، لأن الخلاص مذخر في الكنيسة بصفتها جسد المسيح، باعتبارها امتدادًا للمسيح نفسه، امتدادًا لسر التجسد، سر الاتحاد غير المنفصم بين الله والإنسان، فكل من دخل هذا السر ينال الخلاص، هنا “الكنيسة” في هذا الشعار يعنى بها ذلك النبع الفياض الذي يغمر المتحدين بها بالنعمة، من خلال الأسرار وكلمة الإنجيل. [🡁]
  12. رسالة ٧٥: ۱٥، ۷۷، ۲۱ [🡁]
  13. R. Grant, The Apostolic Fathers 1:137,38 [🡁]
  14. لقد باءت كل جهود المصلحين المسيحيين واليين في القرون الوسطى بالفشل، ليفرضوا على آباء القرن الثاني والقرن الثالث نشوء فكرة ما يسمى بالكنيسة “المنظورة” والكنيسة “المخفية” أو يحاولوا تفسير أفكار أوريجانوس بوجود ثنائية بين كنيسة سماوية وأخرى أرضية على أنها تؤيد هذا الاتجاه، فليس على الأرض سوى كنيسة واحدة، وهي ليست منفصلة بأي حال عن ذلك الكيان السرائري الكهنوتي، هذه الكنيسة بحد تعبير العلامة أوريجانوس هي شمس الكون، لأن المسيح قد صار شمس الكنيسة، وهو بحد ذاته النور الأزلي للكون (تفسير أيوب ٣٠١:٥٩:٦). على أن سمة هذه الكنيسة الأصيلة لا تجدها منطبعة بالحق إلا في قلوب الأمناء على عهد الرب، ولو كانوا مختفين في آخر صفوف العابدين. [🡁]
  15. وصلت كنيسة شمال أفريقيا أيام العلامة ترتليانوس، وقبل عصر القديس كبريانوس، عام ٢٠٦ م. [🡁]
  16. العلامة هيبوليتوس وهو يهاجم “المونتانية” وما ادعته من مجيء سريع للمسيح ومن ادعاء بالنبوة والوحي، دفع ب للمسيح إلى المستقبل البعيد، كما دفع بزمن النبوة إلى الماضي السحيق، منكرًا وجود إلهام بالروح القدس بعد عصر الرسل. [🡁]

كيف تقيّم هذا المقال؟

← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←

المتوسط الحالي حسب تقييمات من القراء

كن أوّل من يقيّم هذا المقال

بما أن المقال أعجبك..

ربما اﻷفضل مشاركته مع دوائرك كي يحظى بانتشار أوسع

من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا

دعنا نعمل على تحسين ذلك

أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟

متى المسكين
Website  [ + مقالات ]

اطرح عنك ذاتك التي تمنعك من الانطلاق في حرية أولاد الله