هكذا يعمل الله، و يتمم مقاصده ويحول العالم
إلى حقه وإيمانه. إنه يصل إل ذلك كله عن طريق… [1]

الخميرة الصغيرة

كثيرون يشعرون بضيقة قاسية من ناحية اختلال مواز ين الحق عند من يُطلب منهم الحق، وانحطاط القيم الروحية عند من تُطلب منهم الروح! فالعالم كله يجوز محنة اختبارية قاسية من جهة الإيمان، وقد انعكست صورتها على شعبنا أيضًا…

وليس الناس كأفرادهم الذين سيجربون بشدة في هذه الأيام، ولكن سوف تمحص الحكومات أيضًا، وتُدان بمقتضى ناموس الإيمان الذي سلّم إليها فاحتقرته، وسارت كأنما لا إيمان لها، وسلكت مسلك من لا ناموس لهم ولا دين. هذه أمريكا وانجلترا وفرنسا وغيرها من الذين دُعي اسم المسيح عليهم للفخر والتفاخر، ولكنهم سيدانون أخيرًا بمقتضاه… وقد بدأت الدينونة وستستمر إلى أن تُفضح أعمالهم، و يتبرأ المسيح منهم، ويتزكى الدم من لوثة أعمالهم…

لابد أن يكون هذا كله، لا يمكن إلا أن يكون… وإلا سنحيا في أوضاع فاترة ونعيش على الباطل كأنه حق…

أترك الكرَّام يعمل عمله لأنه حان أوان الغضب، وأنتظر بثقة أثمارًا تليق برب الكرم.

لا تظن أن الأوضاع الشكلية المزيفة -مهما تساندت- تستطيع أن تغير الحقائق؛ فالصور لا تتكلم، والتماثيل لا تتحرك مهما بلفت من الإتقان. ولقد قيل في سفر الرؤيا إن كل من يسجد لها سوف يدان و يقطع من قطيع الصالح.

لا تشك أبدًا في قدرة القدير كأنه جبار عاجز، أو إله لا يسمع ضجة صراخ مجموعات القلوب المتراصة أمام مذبحه كل يوم… ولكنه ساهر على كلمته ليجريها وعمله في وسط السنين يحييه، وإن تمهل فلا يُحسَب له ذلك تباطؤ، فملكوت السموات يشبه خميرة (صغيرة) أخذتها امرأة وخبأتها في ثلاث أكيال دقيق، (وانتظرت) حتى اختمر العجين كله. إن وصاياه تظهر أحيانا كأنها معطلة، ومبادئه تبدو كأنها مهملة ومحتقرة، ولكن الحق الذي فيها لا يهدأ حتى يخرج النور من الظلمة، ويشهد للحق الذي فينا، لأنه قوة غير مقهورة… والخميرة جادة في عملها بهدوء، ولكن بثقة أكيدة إلى أن تأتي الساعة التي تصير الأرض كلها للرب ولمسيحه.

في الطريق ربما يختفي بعض أشخاص أتقياء باضطهاد أو استشهاد، وربما تسد أفواه كريمة ناطقة بالحق والحياة، بل تشل حركة الكرازة في مكان أو كل مكان. أو تختفي دولة بأكملها من حظيرة الصالح كروسيا حينا خرجت وطال خروجها منذ ١٩١٧…‏ ولكن ما زال الأب جالسًا عل الباب ينتظرها باشتياق يوم أن تعود! فالخميرة لن تخيب من عملها، إلى أن يختمر العجين كله، ولكن لا نهملن عامل الزمن أو نحتقرن الصبر.

ربما تحتقر بعض مبادئ المسيح على ضوء فلسفة جديدة، أو جنوح أمة مسيحية عن الحق الذي في الوصية، أو ظهور نظرية علمية جديدة، فتظهر كلمة الله إلى حين كأنها أصيبت في الصميم، وينتهز فرصة مثل هذه ليضرب قويًا وينهب كثيرًا… ولكن حالًا تتبلور هذه المعاثر جميعًا وتتسلط عليها أشعة الحق بأكثر شدة، إلى أن يظهر خزيها أو عجزها أو خضوعها. ثم تستمر الخميرة في عملها وكأنما المعاثر بالنسبة لها عامل تنشيط لابد منه.

ولكن لا تظن أن ناموس الله فيه اعتساف أو فيه تشويش، وإن اختلّت موازين توزيع الكوارث والآلام في نظرنا، أو استُهدف الأبرار مظالم جارفة، أو انهزم الصديقون في موقعة الأشرار… ففي كل هذا وكل ما هو أكثر اختلالًا وإيهامًا نجد ناموسًا آخر وميزانًا آخر غير الذي ألفناه في عدل البشر ومحاكمهم، لا يعاقب بقدر ما يداوي، ولا يضرب بقدر ما يعصب، ولا ينتقم بقدر ما يتحنن… بل إنه ما يشاء أبدًا، وبقسم، أن يميت الخاطئ أو يجازي الأثيم، بل يود لو يحيا الجميع ويقبلون الحق، لولا أنهم يحبون الظلمة أكثر من النور، ويلحون أن يخرجوا من حضرته، فنور قداسته يؤلمهم، وحضرة بره تزعجهم، فلم تعد لهم راحة إلا في الظلمة والبكاء وصرير الأسنان.

أما هو فقد غلب الشر بالألم، وغلب الألم بالحب.

لما صرخ إليه المتألمون، لم يشأ أن يرفع عنهم الألم كعاجز، بل كجبار حمل الآلام وسار أمامنا قائلًا: اتبعوني…

وهكذا صارت النصرة على الألم لا في التخلص منه، بل في حمله واحتماله، وبذلك، وبذلك فقط يصير نير ربنا سهل الحمل، وحمله خفيفًا على المناكب.

وأعود فأقول إنه لابد من الانتظار والصبر الطويل، فربما نرى النتائج في حياتنا، أو لا نراها إلا هناك. ولكن لابد أن نراها هنا أو هناك، فنعلم يقينًا أن كل أعماله بحكمة قد صُنعت، وأنه مستحق أن يأخذ الكرامة والمجد والعز والسلطان والسجود، وباسمه تسجد بالحق كل ركبة ما في السماء، وما على الأرض.

وإنه إذا كانت الأرض قد استلزمت ملايين السنين لتطورات عديدة چيولوچية وطبيعية حتى صارت صالحة لسكن الإنسان كما يقول العلماء، فكم بالحري يجب أن تنتظر البشرية وتستهدف لتغييرات كثيرة عديدة لابد منها.

نعم، لابد منها، هكذا قال السيد المسيح، حتى الحروب لابد منها لأنها لازمة أخلاقية من لوازم التغيير (تثيرها وتصطلي بنارها الشعوب المتنازعة) إلى أن يتآلف العنصر البشري و يطرق طرقًا بشدة (فيعلم نتيجة فكره المنحرف) إلى أن يخضع خضوعًا كاملًا اختياريًا عن حب لناموس الروح في المسيح يسوع.

وإنه وإن كان العالم يبدو أكثر انحرافًا الآن وراء العلم ونظرياته المتعددة، إلا أن نقطة التحول لابد وأن يصدم بها وعن طريق العلم نفسه، ليرتد أكثر اقتناعًا وأشد خضوعًا لرب العقل والعلم والعلماء.

وأنه وإن هتفت روسيا بإيمان يكاد لا يقل عن إيمان أشد المتدينين؛ بمستقبل باهر لمبادئها في خلق عالم متساو لسيادة الإنسان، ورفاهية الفقراء، وتحطيم فوارق البشرية… فلابد أن تصطدم بالحقيقة المرة: إن العالم هو العالم، والإنسان إنسان، وقد وُضِع الأول في الشرير، والثاني في الخطية.

ومن الشر والخطية لن ينشأ نعيم أو فردوس. لذلك فهما طبقوا من نظريات مبدعة، وعدالة كاملة، فستظل الحقيقة هي هي: أن ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان سعيدًا، بل بكل كلمة حية تخرج من فم الله.

وطالما كلمة الله والإيمان قصة معطلة في إنسان ما، أو في شعب من الشعوب… فلن يبلغ ذلك الإنسان أو الشعب إلى السعادة المنشودة، التي يرعى فيها الأسد مع الخروف، أو يلعب الطفل مع الصلّ… بل سيظل الشر يتهدد الإنسان ويطارده، والظلم والجور والتعسف يرصده و يصارعه، كمذكرٍ للإيمان المُهمَل، ومؤنب مزعج لكلمة الحياة المُزدرى بها…

إلى أن يعود الإنسان، هناك في آخر المطاف، حينما يكمل زمان اختمار العجين، بعد نضال الأجيال، ليجد سعادته وحياته في ظل من يستطيع أن يسعد ويحرر ويحيا بالحق.

لقد ظلت (الشعوب) المسيحية تُجيز نظام الرقيق، ولا تجد غضاضة في استعباد الإنسان كالبهيمة يُشترى ويُباع حتى لدى القلوب الرحيمة الناضجة، ولكن في طول هذه الحقبة كانت خميرة الوصية تعمل في القلب الإنساني لإعلان حقيقة الحرية وواجباتها في المسيح.

وكذلك ظلت (الشعوب) المسيحية أيضًا تجيز نظام استعباد الشعوب، ولا تبد غضاضة في فرض نظام العبودية والعنف على الشعوب المحكومة بنفس سلطان السيد على العبد المُشترى وأشد تعسفًا… إلى أن حان الزمن لتعلم الأرض كلها أن الحرية الدولية هي بند من بنود المسيحية كالحرية الفردية، وأن من دم واحد قد صنع الله كل أمة على الأرض.

وهكذا بعد آلام وحروب كثيرة ومريرة، تعدل ميزان العالم. وكما في الأفراد، كذلك يكون في الشعوب أنه بضيقات كثيرة ينبغي أن ندخل ملكوت الله.

وكما أن التواضع مقبول ومطلوب في الأفراد، كذلك أيضًا في الشعوب، كما علمناه أيضًا في البلاد. عندما طُوّبت بيت لحم ولعنت كفرناحوم، وسيكون للشعوب أيضًا دينونة.

فليذكرنا الرب في هذه الأيام، ويتعهدنا برحمته كمثل الأيام الأُوَل، لنكمل أيامنا بخوف وإيمان متمسكين بوعده وكلمته إلى آخر نسمة من حياتنا.

الخميرة الصغيرة عن رسالة كتبت سنة ‎١٩٥٧‏بقلم ، نُشرت أوّل ما نُشرت في ، عدد أغسطس ١٩٨٠، الصفحات من ١ إلى ٣
هوامش ومصادر:
  1. عن رسالة كتبت سنة ‎١٩٥٧‏. [🡁]

كيف تقيّم هذا المقال؟

← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←

المتوسط الحالي حسب تقييمات من القراء

كن أوّل من يقيّم هذا المقال

بما أن المقال أعجبك..

ربما اﻷفضل مشاركته مع دوائرك كي يحظى بانتشار أوسع

من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا

دعنا نعمل على تحسين ذلك

أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟

متى المسكين
Website  [ + مقالات ]

اطرح عنك ذاتك التي تمنعك من الانطلاق في حرية أولاد الله