الروح القدس في الكنيسة منذ يوم الخمسين وحتى الآن يحضرنا كل يوم مع المسيح لندخل بكل كياننا داخل مجال المسيح، مجال القيامة، مجال فعل الخلاص بكل دقائقه، ونستلهم الإنجيل بكل دقائق معناه الصحيحة لنعيش فعل المسيح وكلمته، لأن الروح الذي أقام المسيح هو الآن معنا حاضر في الكنيسة يضيء في قلوبنا سر قيامة المسيح في كل لحظة ليقيمنا من لعنة موت الخطية.

فالإطار العام لعمل الروح القدس ينحصر في أن حلول الروح القدس يوم الخمسين أعطى للإنسان الوجه الآخر الحي والفعّال لقيامة المسيح. فبحلول الروح القدس دخلت قوة قيامة المسيح إلى العالم لتصير فعّالة ومجددة للطبيعة البشرية. لذلك يشدد ال قائلًا: مولودين ثانية لرجاء حي بقيامة يسوع المسيح من الأموات [1]،‏ هذا يكمله ال بقوله: إن كان الروح الذي أقام يسوع من الأموات ساكنًا فيكم، فالذي أقام المسيح من الأموات سيحيي أجسادكم المائتة أيضًا بروحه الساكن فيكم [2].‏

ولكن الروح القدس لا يعطي قوة القيامة من لعنة الموت الساكنة في الأعضاء ميكانيكيًا، بل يلزم الاعتماد الشديد والقوي على الروح القدس بالانقياد له، و بإلقاء كل الرجاء على النعمة إن كنت بالروح تميتون أعمال الجسد فستحيون [3].‏ هنا الروح القدس يميت ويحيي، وهذه إحدى صفات الله العجيبة والمشجعة والتي تحفظ تجديد الخلقة بالروح القدس.

على أن كل من حصل على روح القيامة، أي الموت عن العالم والحياة لله في هذا الدهر بقوة الروح القدس وفعاليته والانقياد له بالسلوك العلني والخفي، فإنه ينال سر القيامة العتيدة، لأن سكنى الروح القدس الآن في الكيان الإنساني بفعل الإيمان والشهادة والأسرار وقوة الكلمة، يعطي قدرة قيامة الجسد في الحياة الأبدية كما يتكلم جميع آباء الكنيسة في هذا الأمر، وهذا برهانه العملي: الفرح المذهل الذي يعيشه المؤمنون في هذا الدهر.

إذن فحضور الروح القدس في يوم الخمسين والآثار القوية التي صاحبت حضوره وحلوله، والتي لا تزال تعمل في الكنيسة ككل وفي المؤمنين كأفراد (المواهب)، هو في الحقيقة الوجه الآخر والدائم لقيامة المسيح، لذلك إن كانت الكنيسة تعيش بالفعل في قيامة المسيح (خريستوس آنستي)‏ فهي لأنها نالت روح القيامة وتعيشه وتتنفس به.

طبيعة الروح القدس وطبيعة الإنسان

تغيير وتجديد للطبيعة عن طريق الشركة:

يظل علم اللاهوت يوضح و يدقق، للتفريق الهائل بين الطبيعة الإلهية والطبيعة البشرية. فالفارق بينهما هائل ومطلق ولا يقوى أي عمل أو نطق أن يصور مقدار الهوة التي تفصل بينها. فالله هو «آخر» كلي ومطلق بالنسبة للإنسان، ولا يستطيع الإنسان أن يتصوره أو يقيّمه.

وبعد أن اتحد «الكلمة» اللوغس -أي كلمة الله إبن الله- بالطبيعة البشرية، مولودًا من الروح القدس والعذراء مريم، جمع في نفسه هذا النقيض الهائل، أي الإلهي والبشري معًا في نفسه!! دون أن يفقد الكامل المطلق ‏ -أي الإلهي فيه- شيئًا؛ ولكن زاد الناقص العاجز ‏ -أي البشري فيه- كل شيء وكل كرامة.

أقول، وبالرغم من هذا الاتحاد الإعجازي الفائق، فقد ظلت الطبيعة الإلهية بالنسبة لنا نحن كأفراد شيئًا لا يُقترب إليه لا بالفكر ولا بالحس ولا بالأثر الفعال. فواضح من حياة التلاميذ الأخصاء مع المسيح أنهم على مدى كل حياته على الأرض، وبالرغم من كل ما أتاه من معجزات، ثم في صلبه وموته وحتى بعد قيامته وظهوره، لم يدركوا لاهوته. والسبب في ذلك أن القربى والاتحاد والتصالح الذي تم بين الطبيعة الإلهية والطبيعة البشرية فيه ظلت منحصرة في أقنومه الشخصي، كما يحدده اللاهوت أنه «اتحاد أقنومي»، أي اتحاد شخصي. وظل هذا الاتحاد بآثاره الهائلة نحو البشرية كلها ينتظر حلول الروح القدس في الأفراد المؤمنين باسمه.

لذلك شدد المسيح أنه خير لكم أن أنطلق، لأنه إن لم أنطلق لا يأتيكم المعزِّي [4]. إذن فخير البشرية ومجدها العظيم والبعيد الأثر، كان ينتظر قيامة الرب وصعوده بعد القيامة، لكي يرسل الروح القدس، ليكمل عمل الرب الخلاصي.

ثم شدد المسيح أيضًا على تلاميذه أن لا يبرحوا من مكانهم في أورشليم مجمدًا حركتهم تجميدًا كليًا حتى يُلبسوا قوة من الأعالي، وذلك ليتهيأوا للبشارة والشهادة. وذلك بأن يكونوا هم أولًا على مستوى المسيح في تكميل عمل الخلاص، أي على مستوى القيامة، أي جدة الحياة الإنسانية الأشياء العتيقة قد مضت. هوذا الكل قد صار جديدًا [5]. لقد ولد الإنسان من جديد من المقام بواسطة الروح القدس.

و بقبول الكنيسة، يوم الخمسين، الروح القدس، أي بسكنى روح الله في قلب الإنسان وكيانه باتحاد صميمي سري، اختزلت الهوة التى كانت تفصل الله عن الإنسان، أي دخلت الطبيعة البشرية في شركة حية وفعالة مع الطبيعة الإلهية على أساس أن ينال الإنسان ثمار اتحاد الطبيعة الإلهية بالطبيعة البشرية التى تمت جوهريًا وأقنوميًا في المسيح، واستعلنت بالقيامة من جهة روح القداسة، لننالها تحن بالنعمة بصفتنا أبناءً نرث ميراث المسبح في المجد، وبذلك تم شفاء عجز الطبيعة البشرية وقصورها وموتها ونوال قوة قيامتها وكرامة ومجد صعودها إلى السماء الذي تم لها في المسيح المقام، ولكن بالنعمة، كهبة، دون أن تفقد الإنسانية بشريتها إنما مجرد اكتساب مواهب المسيح، أعطيهم المجد الذي أعطيتني  أنا فيهم وأنت فيَّ [6].

ولكي نوضح ذلك على المستوى العملي نشير إلى كيف أن بولس الرسول يفصل بين إنسان نال الروح القدس ودخل في شركة الطبيعة الإلهية عن إنسان لم ينل هذه الشركة ولم يصر روحيًا بعد هكذا:

وأنا أيها الإخوة لم أستطع أن أكلمكم كروحيين [سيرة سماوية]، بل كجسديين [سيرة أرضية] كأطفال في المسيح، سقيتكم لبنًا لا طعامًا، لأنكم لم تكونوا بعد تستطيعون، بل الآن أيضا لا تستطيعون، لأنكم بعد جسديون. فإنه إذ فيكم حسد وخصام وانشقاق، ألستم جسديين وتسلكون بحسب البشر؟ لأنه متى قال واحد: «أنا لبولس» وآخر: «أنا لأبلوس» أفلستم جسديين؟

(كورنثوس الأولى ٣ : ١-٤)

فالروح القدس حينا يعمل في الطبيعة البشرية يرفع الإنسان فوق كل انقسام أو تحزب أو حسد مهما كان…

نخلص من هذا، أن سكنى الروح القدس في الإنسان وإنهاء طبيعة الإنسان بالقلب والفكر والإرادة لوصايا الرب مع الاشتراك في أسرار المسيح، هذا يكون له ثمار حية سلوكية تشهد في حياة الإنسان، وهي التي تختم على مدى صحة الشركة في الروح القدس والاقتداء بالمسيح والنمو في عمل النعمة بشهادة الضمير والسلوك.

مواهب الروح القدس

أ. الموهبة الأولى: تجاه المسيح نفسه:

والإعلان الهام بل والتحذير الخطير الذي يتحدانا هو أنه بالرغم من أن جميع مواهب الروح القدس مهما تعددت، فالروح واحد، ولكن تبقى موهبة «معرفة الكلمة» على أسس صحيحة من الإنجيل وبفهم صحيح وإدراك صحيح بحسب الفكر الإنجيلي واللاهوتي، تبقى هي الأساس الأول الذي لا غنى عنه والذي عليه يتوقف عمل كل موهبة أخرى، ويكفي أن نتصور إنسانًا يسعى لينال موهية الخدمة أو التعلم أو النبوة أو التكلم باللسان أو الشفاء أو الوعظ، وهو غير متأسس على معرفة الإنجيل بعهديه معرفة متقنة، فالعثرة والتخبط والبلبلة التي قد يقع فيها كفيلة لا أن تلغي كل موهبة أخرى، بل وتشكك في مصدرها وتهدم الكنيسة.

وهكذا فقبل الانشغال بمواهب الروح القدس، يتحتم أن يكون الانشغال أولًا بالمسيح، بالإيمان الصحيح على أساس دراسة الكلمة وفهم معناها على أصوها الرسولية التقليدية، ثم الدخول في اختبار فاعليتها وصدقها، لأن كل معرفة بالمسيح بدون شهادة إنجيلية وبدون خبرة روحية تسليمية تصير بحرد علم لا يبني بل ينفخ.

ومن هنا يتضح ضرورة، بل حتمية، اجتماع أصحاب المواهب معًا تحت قيادة المسيح في عمل جسد واحد موحد داخل الكنيسة. كيا يستحيل نجاح موهبة تعمل بمفردها، لأن من الرأس الواحد تنبع كل الأعمال بانسجام نحو غاية واحدة.

هذا يدخلنا مباشرة في موضوع عمل الروح القدس الأول والأساسي بالنسبة لخلاصنا وحياتنا وفرحنا الدائم الحقيقي، وهو علاقتنا الشخصية جميعًا بالرب على أساس كلمته الحية إن أحبني أحد يحفظ وصاياي [7]. فإذا اتحدنا في حفظ الوصية اتحدنا في حبه!!

أي أن كل مواهب الروح القدس إذا انحصرت في الإنسان بدون علاقة حية دائمة ومعرفة وثيقة بالمسيح، فإنها تصبح بلا قيمة بلا وبلا ثمرة، بل ولا تغني عن الدينونة!

يا رب، يا رب! أليس باسمك تنبأنا، وباسمك أخرجنا شياطين، وباسمك صنعنا قوات كثيرة؟ فحينئذ أصرح لهم: إني لم أعرفكم قط! اذهبوا عني يا فاعلي الإثم!

(متى ٧ : ٢٢-٢٣)

هذه هي الحياة الأبدية: أن يعرفوك أنت الإله الحقيقي وحدك ويسوع المسيح الذي أرسلته.

(يوحنا ١٧ : ٣)

ب. الموهبة الثانية: تجاه الآخرين:

هذا بدوره ينقلنا مرة أخرى إلى عمل الروح القدس في علاقتنا بالآخرين، الآخرين من كل نوع، الأحباء والأعداء والأهل والإخوة والزملاء والرؤساء والخدم والحكومة وقوانين الدولة، والعقائد والأديان الأخرى.

وأخطر ما يلاقيه المنشغلون بنوال المواهب، هو اختراع مبادئ وأفكار جديدة لهم كأنها من إلهام الروح القدس، وهي انعكاس شخصي ذاتي لخبراتهم وإخفاقاتهم وخساراتهم السابقة، أو ربما انعكاس لطموحات ذاتية ولأمراض نفسية مختفية لم تظهر لهم وللمجتمع بوضوح، فنسمع عن تصرفات غريبة عن المفهوم التقليدي المسيحي والكنسي بحسب الإنجيل.

علمًا بأن الروح القدس نفسه لا يعمل شيئًا من ذاته، أي لا يمكن أن يشير بمشورة غير ما أشار بها المسيح، كما يقول الرب هذا لا يتكلم من ذاته، بل يأخذ مما لي ويخبركم و يذكّركم بكل ما قلته لكم [8]. وهكذا يتضح أن مشورة الروح القدس ستظل محدودة تمامًا في حدود وصايا المسيح وتعليمه فقط، ولا جديد بالمرة.

ووصايا المسيح واضحة محددة مفهومة بكل بساطة وإعجاز…

(+) فن جهة من هو قريبي: أعطى المثل [9] ضد السلام الاجتماعي الذي يقوم على المصالح العنصرية أو الأسرية، جاعلًا معنى القرابة في مفهوم إنساني رائع ينحصر في معنى البذل والرحمة دون النظر إلى أي عوامل معاكسة مهما كانت، فاليهودي الذي كان على شفا الموت أنقذه عدوه السامري بينا كهنة اليهود لم يرثوا لحاله وعبروا عليه وتركوه.

(+) ومن جهة الإخوة:

فأخذ ولدًا وأقامه في وسطهم ثم احتضنه وقال لهم: من قبل واحدًا من أولاد مثل هذا باسمي يقبلني، ومن قبلني فليس يقبلني أنا بل الذي أرسلني

(مرقس ٩ : ٣٦)

إذا أراد أحد أن يكون أولًا فيكون آخر الكل وخادمًا للكل

(مرقس ٩ : ٣٥)

أنتم تعلمون أن الذين يُحسبون رؤساء الأمم يسودونهم وأن عظماءهم يتسلطون عليهم. فلا يكون هكذا فيكم. بل من أراد أن يصير فيكم عظيمًا يكون لكم خادمًا. ومن أراد أن يصير فيكم أولًا يكون للجميع عبدًا

(مرقس ١٠ : ٤٢-٤٤)

وبهذا يكون المسيح قد أسس قانون العلاقات التي تربط أي جماعة تجتمع باسم المسيح وتعمل بقوة الروح القدس، فالأخوّة المسيحية لا تقبل السيادة، والخدمة شرف.

(+) ومن جهة الرؤساء:

على كرسي موسى جلس الكتبة والفريسيون فكل ما قالوا لكم أن تحفظوه فاحفظوه وافعلوه. ولكن حسب أعماهم لا تعملوا لأنهم يقولون ولا يفعلون

(متى ٢٣ : ٢-٣)

(+) ومن جهة الخدم:

أنتم تدعونني معلمًا وسيدًا وحسنًا تقولون لأني أنا كذلك. فإن كنت وأنا السيد والمعلم قد غسلت أرجلكم فأنتم يجب عليكم أن يغسل بعضكم أرجل بعض. لأني أعطيتكم مثالًا حتى كما صنعت أنا بكم تصنعون أنتم أيضًا

(يوحنا ١٣ : ١٣-١٥)

وبهذا العمل الواحد ألغى المسيح من الكنيسة أي محاولة للتعالي الطبقي في الوظائف الكهنوتية.

(+) ومن جهة الحكومة والقوانين:

أعطوا ما لقيصر لقيصر وما لله لله

(متى ٢٢ : ٢١)

هنا يصالح المسيح المسيرة الروحية الخالصة بواجبات السياسة، أي الدولة عن أمر والتزام [أعطوا]، ثم الالتزام بقوانين الدولة حتى الجائر والخطأ منها:

«ماذا تظن يا سمعان؟ ممن يأخذ ملوك الأرض الجباية أو الجزية، أمن بنيهم أم من الأجانب؟» قال له بطرس: «من الأجانب». قال له يسوع: «فإذا البنون أحرار. ولكن لئلا نعثرهم، اذهب إلى البحر وألق صنارة، والسمكة التي تطلع أولا خذها، ومتى فتحت فاها تجد إستارا، فخذه وأعطهم عني وعنك»

(متى ١٧ : ٢٥-٢٧)

وهكذا استعبد المسيح نفسه لقانون الضرائب لغاية رائعة وكريمة وهي أن لا يُعثْر أحد في ولائه لصاحب السلطان!!!

(+) ومن جهة العقائد الأخرى:

فأجابه يوحنا قائلًا: يا معلم رأينا واحدًا يخرج شياطين باسمك وهو ليس يتبعنا، فمنعناه لأنه ليس يتبعنا. فقال يسوع: لا تمنعوه. لأن من ليس علينا فهو معنا.

(مرقس ٩ : ٣٨-٤٠)

وهكذا ارتفع السبح فوق التحزب والتبعية والتشيع للمبادئ والأشخاص.

أما الذين يقاومون الطر يق الصحيح فقانونهم عند المسيح:

أتركوهم هم عميان قادة عميان

(متى ١٥ : ٤)

(+) ومن جهة الأديان الأخرى:

لي خراف أُخر ليست من هذه الحظيرة ينبغي أن آتي بتلك أيضأ فتسمع صوتي وتكون رعية واحدة وراع واحد

(يوحنا ١٠ : ١٦)

في كل أمّة الذي يتقيه ويصنع البر مقبول عند الله

(أعمال الرسل ١٠ : ٣٥)

(+) ومن جهة الأعداء ومجابهة التحدي والظلم والاضطهاد:

أحبوا أعداءكم

(متى ٥ : ٤٣)

إن جاع عدوك فاطعمه وإن عطش فاسقه

(رومية ١٢ : ٢٠)

لا تنتقموا لأنفسكم أيها الأحباء بل اعطوا مكانًا للغضب. لأنه مكتوب لي النقمة أنا أجازي يقول الرب

(رومية ١٢ : ١٩)

لا تغرب الشمس على غيظكم ولا تعطوا إبليس مكانًا

(أفسس ٤ : ٢٦-٢٧)

طوبى لكم إذا عيروكم وطردوكم وقالوا عليكم كل كلمة شريرة من أجلي كاذبين. افرحوا وتهللوا

(متى ٥ : ١١-١٢)

(+) من جهة الولائم:

وقال أيضا للذي دعاه: «إذا صنعت غداء أو عشاء فلا تدع أصدقاءك ولا إخوتك ولا أقرباءك ولا الجيران الأغنياء، لئلا يدعوك هم أيضا، فتكون لك مكافأة. بل إذا صنعت ضيافة فادع: المساكين، الجدع، العُرج، العُمي، فيكون لك الطوبى إذ ليس لهم حتى يكافئوك، لأنك تُكافأ في قيامة الأبرار

(لوقا ١٤ : ١٢-١٤)

وبهذا يكون المسيح قد وضع أسس العلاقات الإنسانية على المستوى الروحي للذين يريدون أن يعيشوا بالتقوى بقيادة الروح القدس حسب الإنجيل.

ج. الموهبة الثالثة: الانفتاح على الجماعة (الكنيسة):

فإذا تم هذا تتجلى الكنيسة كمجتمع مسيحي منقاد بالروح القدس يحوي كل طبقات الشعب بكل ضعفاتها وأعوازها وأمراضها. ليس كجماعة روحية عالية مصلية باللسان متحابة بالفكر ومتكتلة تحت اسم، بل جماعة تحوي حتمًا كل المتناقضات الإنسانية وكل القامات، و بواسطة الروح القدس تتصالح المتناقضات وتأتلف المفارقات. فالكنيسة بأسقفها جماعة تائبين، جسم يموت ويحيا كل يوم، ينسى ما هو وراء ويمتد إلى قدام، يفقد أعضاء ميتة ويقبل أعضاء حية، يتغير عن شكله، يتجدد بذهنه.

هكذا أسس المسيح الكنيسة على أساس الاغتسال الدائم، وهكذا وضع الروح القدس فها ليصنع هذا التقديس والتطهير لحساب المسيح الرأس الواحد. بل إن تأليف وحدة جسم الكنيسة من هذه المتناقضات هو البرهان الوحيد على أن قوة الروح القدس فعالة في الكنيسة بالحب الإلهي، وفعل دم الخلاص الذي له القوة والقدرة أن يمسح و يزيل كل وسخ الجسد والروح لكي يجعل الإثنين واحدًا، و يرفع العداوة والحاجز المتوسط بين الإنسان وأخيه الإنسان بل وبين الإنسان والله نفسه، ويضم القريبين والبعيدين معًا في ألفة الجسد الواحد.

والقديس بولس الرسول يشرح هذا بكل اعتناء ووضوح في رسالة كورنثوس الأولى الإصحاح الثالث عشر، حيث يقطع أن كل موهبة حتى ولو كانت هي الإيمان نفسه القادر أن ينقل الجبال أو حتى بلوغ التكلم مع الملائكة بلسانهم، بدون الاتحاد بالقريب في حب والتفاعل مع المجتمع البشري في إخلاص وتصديق وصبر واحتمال وعدم تململ أو دينونة، إنما تكون مواهب باطلة لا تفيد شيئًا إلا ضجيجًا كضجيج القرع على الصنوج، ثم يذهب طنينها مع الرياح!!

مراجعة وفحص لكل موهبة:

أ. لمجد المسيح: أما الاختبار النهائي الذي يحكم على كل موهبة مهها كانت عظيمة، وإن كانت هي تعمل حقا من الروح القدس أو هي انفعالات مهمة غير معروف مصدرها وغايتها، فهي النتيجة التي تنتهي إليها هذه المواهب، فإذا كانت وظلت واستمرت «لمجد المسيح» وحده، تكون حقًا من عمل الروح القدس، لأن معيار عمل الروح القدس قدّمه المسيح بوضوح ذاك يمجدني. والمسيح لا يمكن فصله عن الكنيسة كجسد كامل الأعضاء.

ب. خطأ الانغلاق: أما علامة انحصار الموهبة في الذاتية الإنسانية، فتكون واضحة عند تكوين الحلقات الضيقة، أي الشِلل المغلقة التي تتعصب لقائدها بصورة عمياء.

هذا لبولس وهذا لأبلوس. ألعل بولس صلب لأجلكم. أم باسم بولس اعتمدتم؟

(كورنثوس الأولى ١ : ١٠-١٣)

وهكذا كانت تنحصر سعادة بعض الجماعات في مجرد التأملات، بحيث لا تقوى هذه الكنائس على الانفتاح العام للشركة العامة، بل ولا تقوى بالفعل على مجابهة استيعاب العلانية الكنسية. وحينئذ لا تحتمل أي نقد أو توجيه في هذا الأمر، فكان مآلها للزوال.

وينبغي أن لا يخفى قط على كل من أراد أن يعيش في دائرة الإيمان الصحيح بالمسيح، أنه لا يمكن أن تحسب أية جماعة مجتمعة باسم المسيح أنها تعيش وتعمل بالروح القدس، إلا إذا كان المسيح هو بنفسه وهو وحده قائدها، والمسيح لا يقود أحدأ قط لا فردًا ولا جماعة ولا كنيسة إلا على أساس أن يوحدها بجسده الكلي، أي الكنيسة كلها، فكل اجتماع وكل صلاة لأي جماعة أو حلقة أو عقيدة أو كنيسة لا تنشئ رغبة ملحّة في الاتحاد بأعضاء المسيح، أي بالكنيسة كلها في كل العالم، في شوق بل في اجتهاد، بل في حرارة ودموع بل في توسل وبذل، بل في تذلل وانسحاق، فإن مثل هذا الاجتماع لا يكون مساقًا بالروح القدس بحسب الحق والإنجيل. لأن المجتمعين بهذا الشكل لا يكونون مفتوحين على قلب المسيح وفكره، ولا يكونون بالتالي منقادين بالروح القدس.

لأن كل الذين ينقادون بروح الله فأولئك هم أبناء الله

(رومية ٨ : ١٤)

وأولاد الله هم عائلة واحدة، هم «أهل بيت الله » بحسب تعبير الرسول بولس. وأولاد الله بيت واحد لا ينقسمون، لا يعيشون ولا يسعدون أفرادًا وجماعات، بل سعادتهم تتوقف على إحساسهم أنهم جسد واحد، إنسان واحد كامل في المسيح، عروس مزيّنة بالفضائل لعريسها الوحيد، كنيسة مجتمعة في حضرة الله، مستضيئة كلها بالروح القدس والمسيح فيها الكل في الكل. من هذا كان يشدد الآباء الرسوليين على أن .

جـ. خطر الانشقاق: من هنا كان اهتمام بولس الرسول أن يقدم المؤمنين جميعهم كعذراء عفيفة للمسيح، كنيسة متجلية ومنيرة بالروح القدس، بفكر واحد وقلب واحد ونفس واحدة، حيث لا يمكن أن يتم هذا إلا بتفريغهم من ذواتهم.

وكان اهتمام الرسول بولس شديدًا بأن يلغي من الكنيسة كل تحزب وكل شقاق وكل انقسام وكل تجمعات خاصة تحت أسماء بشرية خاصة، مهما كانت، حتى ولو كانت باسم بولس نفسه أو أبولس أو بطرس [10]، منبهًا بشدة أن أي
خروج من تحت قيادة المسيح نفسه لإتباع آراء بشرية هو جحد للمعمودية والموت والقيامة التي قبلها المؤمنون باسم المسيح فقط، الذي مات لأجل كل واحد ليجمع الكل في نفسه مبرهنًا أنه ليس اسم آخر تحت السماء يمكن أن نخلص به عن طريق مباشر أو غير مباشر.

لذلك اعتبر القديس بولس الرسول أن أي انقسام في الجماعة يعني غياب الروح القدس وهو حتمًا ينشئ خصومة، وبالتالي ينشئ نقدًا ودينونة وحسدًا للمتقدمين بالروح. وبالتالي ينطفئ الروح القدس، فيتوقف النور الذي عليه نسير، وأكد ذلك يوحنا الرسول في بساطة متناهية أن المحبة تجمع المؤمنين وتمنحهم أبوّه الله بصفة مستمرة الذي يحب فقد وُلد من الله [11] وأن انقسام القلب وفقدان المحبة من الجماعة تفرط عقّدها وتعمي بصيرتها من نحو الحق فيتوقف سيرها في طريق المسيح.

لا يعلم إلى أين يمضي لأن الظلمة [فقدان الروح القدس] قد أعمت عينيه

(يوحنا الأولى ٢ : ١١)

د. الدينونة والحسد والغيرة:
والحقيقة أن أخطر ما واجهته الكنيسة على مدى تاريخها الطويل هو الانقسام، ليس الناشئ فقط عن عدم الإيمان أوعدم المعرفة أوعدم الفهم، بل والناشئ أيضًا من حلول الروح القدس وإعطاء مواهب ممتازة لكنيسة دون كنيسة ولجماعة دون جماعة ولفرد دون فرد، وهذا لم يكن مفاجئًا للمفهوم الكنسي أو اللاهوتي، فالرب سبق وأنذر: ما جئت لألقي سلامًا بل سيفًا [12]،‏ وهو سيف الكلمة الذي يفرق من يؤمن عمن لا يؤمن، وكذلك قول الرسول بولس أن هناك مواهب متعددة كتعدد الأعضاء وأهميتها في الجسد والواحد لا يعطي كالآخر، بل كما قُسم لكل واحد من إيمان، فلا ينبغي أن يرتئي الإنسان فوق ما ينبغي أن يرتئي.

والقديس بولس الرسول يوبخ بشدة الذين نالوا المواهب وبدأوا يفتخرون بها على الذين لم ينالوا مثلها، قائلًا:

فهذا أيها الإخوة حولته تشبيها إلى نفسي وإلى أبلوس من أجلكم، لكي تتعلموا فينا: «أن لا تفتكروا [في الإنسان] فوق ما هو مكتوب»، كي لا ينتفخ أحد لأجل الواحد على الآخر. لأنه من يميزك؟ وأي شيء لك لم تأخذه [كعطيّة]؟ وإن كنت قد أخذت [مواهب]، فلماذا تفتخر كأنك لم تأخذ؟ [أي كأنه ليس من الله بل صار لك بجهادك] إنكم قد شبعتم! قد استغنيتم! ملكتم بدوننا! وليتكم ملكتم لنملك نحن أيضا معكم!

(كورنثوس الأولى ٤ : ٦-٧)

من هذا يتضح أن الحصول على إحدى المواهب الفائقة لا يعصم الإنسان من الخطأ، بل يكون أكثر تعرضًا لحرب للسقوط في الكبر ياء والتعالي.

ثم يعود بولس الرسول و يوبخ كذلك الذين لم يأخذوا المواهب ويهاجمون الذين أخذوا موضحًا مدى الخطورة التي ستحدث لهم إذ سيفارقهم الروح القدس نفسه، إذا كان تهجمهم عن غير فحص وامتحان وتدقيق شديد للتمييز بالروح بين ما هو نافع وغير نافع وبين ما هو خطأ وصواب.

افرحوا كل حين. صلوا بلا انقطاع. اشكروا في كل شيء، لأن هذه هي مشيئة الله في المسيح يسوع من جهتكم. لا تطفئوا الروح. لا تحتقروا النبوات. امتحنوا كل شيء. تمسكوا بالحسن. امتنعوا عن كل شبه شر.

(تسالونيكي الأولى ٥ : ١٦-٢٢)

ثم يحسم هذا الصراع الحادث داخل الكنيسة من جهة السعي نحو المواهب من جهة، ومن جهة أخرى مهاجمة الذين نالوا مواهب ممتازة وفائقة، ثم احتقار الذين نالوا المواهب للذين لم ينالوا، يحسم الأمر هكذا: جدُوا للمواهب الفائقة، ولكن أريكم طريقًا أفضل. وهو المحبة. لأن المحبة هي أفضل المواهب قاطبة. وهي الموهبة التي بدونها لا يمكن أن تُحسب أي موهبة أخرى أنها موهبة. [13]

وهكذا يقلب بولس الرسول كل خطط الشيطان التي يستخدمها لانقسام الكنيسة بسبب الغيرة والحسد من المواهب الفائقة، جاعلًا المحبة، وهي أسهل وأبسط وأعم موهبة، فوق أعظم وأعلى المواهب تفوقًا وامتيازًا. وهي في متناول الجميع.

الروح القدس يمنحنا القيامة بقلم ، نُشر أوّل ما نُشر في كتاب الروح القدس الرب المحيي، بمناسبة عيد الخمسين ١٩٧٩، الصفحات من ٦٥١ إلى ٦٦٣
هوامش ومصادر:
  1. ى ١ : ٣ [🡁]
  2. رومية ٨ : ١١ [🡁]
  3. رومية ٨ : ١٣ [🡁]
  4. يوحنا ١٦ : ٧ [🡁]
  5. كورنثوس الثانية ٥ : ١٧ [🡁]
  6. يوحنا ١٧ : ٢٢، ٢٣ [🡁]
  7. يوحنا ١٤ : ٢٣ [🡁]
  8. يوحنا ١٦ : ١٣-١٤، ويوحنا ١٤ : ٢٦ [🡁]
  9. السامري الصالح، لوقا ١٠ : ٢٩-٣٧ [🡁]
  10. كورنثوس الأولى ١ : ١٠-١٣ [🡁]
  11. يوحنا الأولى ٤ : ٧ [🡁]
  12. متى ١٠ : ٣٤ [🡁]
  13. خلاصة الإصحاحات ١٢، ١٣، ١٤ من الرسالة الأولى إلى أهل كورنثوس. [🡁]

كيف تقيّم هذا المقال؟

← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←

المتوسط الحالي حسب تقييمات من القراء

كن أوّل من يقيّم هذا المقال

بما أن المقال أعجبك..

ربما اﻷفضل مشاركته مع دوائرك كي يحظى بانتشار أوسع

من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا

دعنا نعمل على تحسين ذلك

أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟

متى المسكين
Website  [ + مقالات ]

اطرح عنك ذاتك التي تمنعك من الانطلاق في حرية أولاد الله