المقال رقم 9 من 11 في سلسلة أقوال المؤرخين في صلب يسوع

الحقيقة الوحيدة اليقينية بخصوص حياة يسوع هي موته! لقد أُعدم بواسطة الوالي الروماني ، في يوم أو بمقربة من يوم الفصح، بطريقة أبقت روما عليها فقط للثَّائرين السياسيين، هي الصَّلب. [1]

(، يسوع الناصري ملك اليهود)

كمقدمة سريعة عن التقليد Q، نستطيع القول إنه مصدر قديم استخدمه متى ولوقا، بجانب استخدامهما لنُسختين من مرقس، وعلى الأرجح نسختين مختلفتين من مرقس، كما يرجّح ديلبرت رويس بوركيت [2].

ربما يدور بذهنك السؤال: لِمَ لا يكون لوقا قد استخدم متى، على اعتبار أن متى أقدم ويرجع للثمانينيات القرن الأول، ويُرجّح أن لوقا بعده بحوالي عشر سنوات؟ السبب هو أن نسخ الأقوال في لوقا أقل تطورًا من نفس الأقوال في متى، ولا يوجد مبرر لحذف الأقوال الموجودة في متى وغير موجودة في لوقا، بالإضافة إلى اختلاف النصين تمامًا في تفاصيل حياة يسوع قبل المعمودية وبعد القيامة. باختصار، كما يقول الدارسون، يتفق متى ولوقا من مكان يبدأ فيه مرقس، ويختلفان تمامًا بعد النقطة التي ينتهي عندها مرقس. وكأن مرقس هو الشيء المشترك الذي يربط القصتين.

أيضًا، لو لاحظت استخدام لوقا لمرقس واستخدام متى لمرقس، ستجد أن تعديلات لوقا في نصوص مرقس أقل من تعديلات متى في نصوص مرقس. بطريقة أخرى: من الملاحظ بشكل عام أن لوقا يتعامل مع مصادره بحرية أقل وتعديلات أقل من متى. لذلك، ترقيم نصوص Q يتبع ترقيم إصحاحات وفقرات لوقا، وليس متى.

وللقول بأن لوقا استخدم متى، تحتاج أن تتخيل أن لوقا أخذ نصوص متى، وأزال منها كل آثار تحرير متى، ثم حررها هو بأسلوبه، وهو أمر شديد التعقيد.

وكل النقاط التي ذكرناها حتى الآن مُقنعة لقطاع عريض من الباحثين بخصوص وجود مصدر للأقوال متى ولوقا استخدموه، من دون أن يعرف كل واحد منهما نصّ الآخر. كذلك، فكرة استخدام مصادر متعددة فكرة معروفة في العالم القديم. عندنا مثلًا أريان النيقوميدي، الذي كتب سيرة ، استخدم أيضًا مجموعة مصادر، وبالتالي، فإنّ الافتراض متوافق مع السياق التاريخي وما نعرفه عن تأليف السيرة (biographies) في العالم القديم.

أينما ذكر بطليموس بن لاجوس وأريستوبولوس بن أريستوبولوس نفس المعلومة عن الإسكندر بن فيليب، فطريقتي هي تسجيل ما يقولانه كحقيقة. لكن متى اختلفا، أختار النسخة التي أراها أكثر أهلًا للثقة وأكثر استحقاقًا للرواية. [3]

(أريان النيقوميدي، سيرة الإسكندر المقدوني)

بإمكانك دراسة أمثله لفقرات من التقليد Q في مقال التقليد Q، من سلسلة: المشكلة الإزائية [4]، فيما يلي اقتباس لفقرتين مهمين:

بالرّغم من أن المصدر Q يحتوي على تقاليد معاد بناءها من متّى ولوقا، وبالتالي لا يضيف أقوالًا جديدة ليسوع، إلا أن أهمية التقليد Q تكمن في كونه يمثل نافذة على مجتمع مسيحي أقدم من مجتمع متّى ولوقا.

الجدير بالذكر أيضًا، أن التقليد Q يضم مجموعة أقوال حرة من السياق، ظهر بعضها موضوعًا في سياق مرقس [النصوص المُشتركة بين مرقس والتقليد Q تسمى overlaps] والبعض الآخر في سياق متّى و/ أو سياق لوقا.

قارن سياق متّى ١٥: ١٤ هم عميان قادة عميان. وإن كان أعمى يقود أعمى يسقطان كلاهما في حفرة. [5]،
مع لوقا ٦: ٣٩ وضرب لهم مثلًا: هل يقدر أعمى أن يقود أعمى؟ أما يسقط الاثنان في حفرة؟ [6].
في متّى قالها يسوع عن الفرّيسيين، وفي لوقا جاءت في سياق مختلف تمامًا كوصيّة للكمال، اتبع الكامل تكن كاملًا واتبع الأعمى تسقط معه في حفرة.

ما حدث هنا هو أن متّى ولوقا وجدا قولًا، وتبناه كل منهما في سياق مختلف.

تعتبر تلك الأمثلة من المفاتيح المهمة في نقد نظرية اعتماد لوقا على متّى، فإن أخذ لوقا النصّ من متى، فلماذا يسقط سياق النص في متّى ويعيد وضع النص في سياق أخر؟

وعلى هذا، فدراسة أقوال يسوع في ضوء نظرية المصدرين قد يفتح بابًا لإعادة قراءة الأقوال في بشارتي متّى ولوقا لا كنصوص فسرها يسوع، بل كنصوص تناقلتها الجماعة الأولى كأقوال حكمة تم تقنينها لاحقًا بتضمينها في نصوص لتحديد معناها. تتيح تلك القراءة مجالًا أوسع للإلمام بطبيعة أقوال يسوع في المجتمعات الأولى وكيفيّة تناقلها ومحاولات تفسيرها في سياق مرقس ومتّى ولوقا، وإنجيل توما، وصولًا لكتابات الآباء الرسوليين وحتى استقرار نصّ العهد الجديد.

(، المشكلة الإزائية، التقليد Q)

مشكلة واحدة متبقية في موضوع المصادر، وهي أنه لا يوجد أي نوع أدبي (genre) في العالم القديم مُكوَّن من أقوال فقط. وكان هذا حجة قوية حتى تم اكتشاف مخطوط يوناني اسمه Oxyrhynchus 655 لإنجيل توما، ومخطوطات نجع حمادي التي كانت فيها مخطوطة كاملة أكبر من اليونانية لنفس الإنجيل. وهو عبارة عن 114 قول ليسوع، ليس لها سياق قصصي، وكلها حوار بين يسوع وتلاميذه بحيث يقول شيئًا ويردون عليه، ويشرح لهم أو يسألونه، ويرد عليهم.

موضوع إنجيل توما كان فيه شيئان مهمان:
أولًا، وجدنا نصًا قديمًا يحتوي على أقوال فقط، وبذلك حُلّت مشكلة النوع الأدبي.
ثانيًا، تبين أن إنجيل توما يحتوي على مجموعة من الأقوال المشتركة بين متى ولوقا، وبالتالي لم نجد نصًا يحتوي على أقوال فقط، بل وجدنا نصًا يشبه Q تحديدًا، وقد يكون يشترك معه في المصدر.

بمعنى أنَّ Q وتوما مبنيان على نفس مجموعة الأقوال التي كانت في مصدر أقدم، أو أنَّ أحدهما مُعتمد على الآخر؛ يعني إما أنَّ توما شاهد لنصّ Q، أو أنَّ Q شاهد لنصٍّ لمرحلة مُبكّرة من تكوين إنجيل توما.

مع الأخذ في الاعتبار أن إنجيل توما كان وسط نصوص ة، ولذلك فهو به أقوال ليسوع مصبوغة بصبغة غنوصية، وغالبًا مكوَّن من عدد من الطبقات والتعديلات التي حصلت على الأقوال، منها إضافات تُفسّر أقوال يسوع في ضوء النظرية الغنوصية.

نقطة ثالثة مهمة هي أن الأقوال المشتركة بين Q وتوما موجودة في سياقات مختلفة بين الأناجيل الثلاثة، وهذا يعني أن هذه الأقوال كانت منتشرة بلا سياق، وكان كل واحد يأخذها ويضعها في سياق وموقف مختلف.

هناك باحثون يُؤرّخون ظهور Q إلى وقت مبكر جدًا، مثل ثلاثينيات القرن الأول، أي مجرد سنوات قليلة جدًا بعد موت يسوع، ويرى إنه أخد صورته النهائية في الأربعينيات أو الخمسينيات [7]. وهناك باحثون آخرون يُؤرِّخونهُ كلّه ما بين الأربعينات والخمسينات من القرن الأول مثل روبرت ويب [8]، أو الذي يُرجع أقدم طبقات Q للخمسينيات، أو هلموت الذي يرجعهم ما بين سنة 40 وسنة 50 [9].

يميل لكون التقليد Q نّص شفوي [10] ظهر في الجليل، وقال إن أقوى استدلالات بهذا الصدد كانت ل [11].

على كل حال، الأغلبية التي ترجَّح وجود التقليد Q تميل لكونه نَص مكتوب وليس تقليدًا شفويًا، وهنا يمكن الرجوع لاستدلالات [12]، وأيضًا كتُب چون كلوبنبورج [13]، [14].

طبعًا، هناك باحثون يقولون إنه لا يوجد التقليد Q من الأساس، وأن إنجيل توما نص متأخر معتمد على الأناجيل الإزائية. شخصيًا أميل لوجود التقليد Q، مع وجود صعوبات في إعادة بناءه بدقة، وأعتقد أن إنجيل توما مرّ بمراحل عديدة، بحيث يحتوي على نصوص قديمة بالفعل ليست من الأناجيل الإزائية، لكن حصل عليها تعديلات في المجتمعات الغنوصية، وبالتالي صورته النهائية متأخرة، لكن نصوصه ذات أصل قديم.

سنعود إلى هذه النقاط بتفاصيل أكبر، لكن مبدئيًا، نقول إن توما يعود للقرن الأول، في طبقاته الأولى، دون الدخول في تفاصيل الآراء المختلفة، ودون تبنّي تأريخ مبكر أكثر من اللازم لنصوصه. لكن، على سبيل المثال، تُرجع أبريل ديكونك طبقاته الأولى لما بين سنة 30 و50 من القرن الأول، وتحديدًا في أورشليم [15]. لِاختصار هذا الجزء، فلننتقل إلى رأي كلٍّ من يوكارستن بليش وجيسين شينكي روبنسون اللذين يُشيران في مقدمتهما إلى أنّ بعض أقوال إنجيل توما أقدم من الأناجيل الإزائية، وبعضها لاحق عليها، وبعضها مُستقل عنها تمامًا. وتذكّر هذه المقدمة، لأنّنا سنعود إليها عند تناول القول رقم 55 في إنجيل توما [16].

بالنسبة للصلب، فمن المتفق عليه أن تقليد Q كله أقوال، ولا أحداث فيه باستثناء المعمودية والتجربة، وليس فيه أي شيء من أحداث الصلب. لكن هناك قول في تقليد Q نستطيع من خلاله الوصول لنتيجة بأن الجماعة التي أنتجت النص كانت تعرف الصلب، وهو القول ١٤: ٢٧ (تذكر أن ترقيم Q متماشي مع ترقيم إنجيل لوقا).

ومن لا يحمل صليبه ويأتي ورائي فلا يقدر أن يكون لي تلميذًا.

(مصدر Q ١٤: ٢٧)

من الواضح هنا أن يسوع يقدم نفسه باعتباره المَثَل الأعلى، القدوة التي تُلزم المؤمن أن يتبعه، وأن يمر بنفس معاناته ليتتلمذ له. هذا واحد من ضمن نصوص كثيرة تتحدث عن الآلام والمعاناة التي يواجهها المؤمن بيسوع، لكن اختيار هذا النص تحديدًا لأنه يتكلم عن الصليب. سواء اعتبرنا هذا النص راجعًا ليسوع فعلًا أو منسوبًا ليسوع في وقت مبكر جدًا، كالأربعينيات أو الخمسينيات من القرن الأول، فبالتأكيد أن المجتمع الذي تداول هذا النص كان يعرف بصلب يسوع. ونضيف هذا إلى مكان Q الذي يتفق أغلب الدارسين مثل دان وكلوبنبورج وثيسن على أنه كُتب في وسط مجتمع مسيحي في الجليل، وبذلك، لدينا معلومة مبكرة تعود لمكان حياة يسوع وتخبرنا بخبر موته بيقين.

أما في إنجيل توما، وتحديدًا الجزء الثاني من القول رقم 55، فهو يقول:

ومن لا يَكره إخوته وأخواته ويحمل صليبه، كما أفعل أنا، لا يستحقني.

(إنجيل توما، القول ٥٥)

هناك نصوص أخرى في إنجيل توما أيضًا تتحدث عن موت يسوع، مثل النصوص رقم 12 و65، لكن النص 55 يتحدث تحديدًا عن الصَّليب.

يعلق يوكارستن بليش وجيسين شينكي روبنسون على القول 55، قائلين إن الجزئين الموجودين فيه في إنجيل توما لا يمكن اعتبارهما مجرّد تجميع بسيط من القولين الموجودين في الأناجيل الإزائية. ويستدلان على ذلك بوجود علامات تحرير واضحة في أسلوب متى ولوقا، غائبة في توما، مما يعني أن قول توما في صورة أبسط وأكثر بدائية (وبالتالي أقدم).

ويعلقان أيضًا بأن عدم اهتمام إنجيل توما بموت يسوع، مع ذكره لعبارة كما أفعل أنا، يُرجّح كون العبارة موجودة في المصدر القديم المستخدم، وليست إضافة في الطبقات اللاحقة.

بمقارنة هذا بما ذكروه في المقدمة، يتبين أن هذا القول لم يأت من الأناجيل الإزائية، وبالتالي يُقدّم شهادة قديمة من القرن الأول، لا نستطيع تحديد تاريخها بدقة، لكن بمضاهاتها مع شهادة Q، نجد أن خبر موت يسوع كان معروفًا قبل الأناجيل، بافتراض قدم Q، وأن طبقة القول في توما سابقة لتأثّر النصّ بقراءات الأناجيل الأخرى، مثل متى ولوقا.

‎ ‎ هوامش ومصادر: ‎ ‎
  1. Paula Fredriksen, Jesus of Nazareth, King of the Jews: A Jewish Life and the Emergence of Christianity, Knopf Doubleday, 2000, p.8 [🡁]
  2. Delbert , Rethinking the Gospel Sources: From Proto-Mark to Mark, T&T Clark Revised Edition, 2004 [🡁]
  3. R. A. Derrenbacker, Ancient Compositional Practices and the Synoptic Problem, Peeters Publishers, 2005 [🡁]
  4. چون إدوارد، التقليد Q، سلسلة: المشكلة الإزائية. [🡁]
  5. هم عميان قادة عميان. وإن كان أعمى يقود أعمى يسقطان كلاهما في حفرة. (متى ١٥: ١٤) [🡁]
  6. وضرب لهم مثلًا: هل يقدر أعمى أن يقود أعمى؟ أما يسقط الاثنان في حفرة؟ (لوقا ٦: ٣٩) [🡁]
  7. James D. G. Dunn, Jesus Remembered: Christianity in the Making, Volume 1, Wm. B. Eerdmans, 2003, p.159 [🡁]
  8. Darrell L. Bock, , Key Events in the Life of the Historical Jesus: A Collaborative Exploration of Context and Coherence, Eerdmans, p.674 [🡁]
  9. James D. G. Dunn, Jesus Remembered: Christianity in the Making, Volume 1, Wm. B. Eerdmans, 2003, p.60 [🡁]
  10. James D. G. Dunn, The Oral Gospel Tradition, Wm. B. Eerdmans, 2013 [🡁]
  11. James D. G. Dunn, Jesus Remembered: Christianity in the Making, Volume 1, Wm. B. Eerdmans, 2003, p.159 [🡁]
  12. R. A. Derrenbacker, Ancient Compositional Practices and the Synoptic Problem, Peeters Publishers, 2005 [🡁]
  13. , Excavating Q: The History and Setting of the Sayings Gospel, 2000 [🡁]
  14. John S. Kloppenborg, Q: the Earliest Gospel: An Introduction to the Original Stories and Sayings of Jesus, 2008 [🡁]
  15. Darrell L. Bock, Robert L. Webb, Key Events in the Life of the Historical Jesus: A Collaborative Exploration of Context and Coherence, Eerdmans, p.676 [🡁]
  16. Uwe-Karsten Plisch, Gesine Schenke Robinson, The Gospel of Thomas: Original Text with Commentary, Deutsche Bibelgesellschaft, 2008 [🡁]

كيف تقيّم هذا المقال؟

← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←

المتوسط الحالي حسب تقييمات من القراء

كن أوّل من يقيّم هذا المقال

بما أن المقال أعجبك..

ربما اﻷفضل مشاركته مع دوائرك كي يحظى بانتشار أوسع

من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا

دعنا نعمل على تحسين ذلك

أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟

‎ ‎ جزء من سلسلة: ‎ ‎ أقوال المؤرخين في صلب يسوع[الجزء السابق] 🠼 مصدر الآلام للوقا والأعمال[الجزء التالي] 🠼 الطبقة الأولى لإنجيل يوحنا
چون إدوارد
‎ ‎ نحاول تخمين اهتمامك… ربما يهمك أن تقرأ أيضًا: ‎ ‎