المقال رقم 10 من 11 في سلسلة أقوال المؤرخين في صلب يسوع

من بين الأناجيل، كما سأوضح في الفقرة الثانية، لماذا أقبل أطروحة أن متّى ولوقا معتمدان [نصيًّا] على مرقس، ولكن يوحنَّا لا يعتمد عليه. مرقس ويوحنّا عادة ما يسردان نفس الحدث ولكن باختلاف واضح يصعب شرحه باعتباره تعديلًا مُتعمَّدًا من الإنجيليين. وعليه، فاتفاقهم قد يُشير إلى تقليدٍ مبكّر تطوَّر في اتجاهات مختلفة حتَّى وقت كتابة الأناجيل. ولكن بعض الدَّارسين يعتقدون أن يوحنَّا اعتمد على مرقس، وبالتّالي يتجاهلون تلك الاتفاقات باعتبارها لا توافق معيار الشهادات المُتعدّدة. [1]

(، مقتل المسيح)

بعد أن فهمنا معيار الشهادات المتعددة وشاهدنا المصادر التي وراء مرقس ولوقا والأعمال وال وتوما، والتي تمثل شهاداتهم مجتمعات مسيحية في مواقع جغرافية مختلفة ومتباعدة، سنتحدث اليوم عن إنجيل يوحنا.

لاحظ نقطة مهمة: أننا إلى الآن لم نبني حجتنا على أن كتبة الأناجيل هم الذين نسِبت إليهم الأناجيل فعلًا. حجتي لا يهم فيها مَن هو الكاتب، ولكن المهم أن هذا الخبر منتشر في كل المصادر التي وصلتنا من القرن الأول، سواء كانت المصادر من الجليل أو اليهودية أو روما أو أنطاكية أو آسيا الصغرى، كما سنرى. بينما قد يتبنّى آخر قضية تقليدية ويُؤصّل للصلب بشهادة مرقس عن بطرس مثلًا، أو قد يستخدم شهادة بولس عن كنيسة أورشليم، أو يوحنا نفسه في إنجيله، وهكذا، لكنّي لن أستخدم هذه القضايا لأني متبنٍّ مدخلًا نقديًا للمصادر، فلن أعتمد على أقوال الكنيسة في هوية كتبة الأناجيل. بطريقة أخرى، فكل ما نحتاجه هنا هو بيان المصادر المختلفة وراء النصوص، وأنّ الصلب متواجد فيها، وأنّ هذه المصادر مستقلة نصيًا ومتباعدة جغرافيًا، بحيث يكون خبر الصلب مُنتشرًا بين المسيحيين واليهود والرومان بلا مُنازع.

اليوم سنتكلم عن الإنجيل الرابع، آخر الأناجيل، والذي يُفترض أنه كُتب في نهاية القرن الأول، حوالي سنة 95-98م. هناك آراء كثيرة تُقلل من أهمية هذا الإنجيل؛ لأنه يحتوي على لاهوت عالي (High Christology)، ويسرد المسيح فيه عن نفسه أمورًا لم تُذكر في الأناجيل الثلاثة الأولى، كما أنه منفصل عنها نصيًا ويختلف معها في الأحداث أيضًا. لذلك، يميل البعض إلى اعتباره نصًا لاهوتيًا بلا قيمة تاريخية كبيرة، بينما يبالغ آخرون في تبني محتواه اللاهوتي والتاريخي دون النظر إليه بشكل نقدي.

للخروج من بين هاتين النقيضين، سأُوضح لك جدلًا أكاديميًا حول هذا الإنجيل. السؤال الأهم الذي يبدأ به الباحثون دراسة إنجيل يوحنا هو: هل كان كاتب النصّ يعرف الأناجيل الثلاثة الأولى؟ هناك رأي يقول نعم، إنه كان يعرف هذه النصوص وقد اعتمد عليها في كتابة إنجيله، وهناك مجموعة أخرى تقول إنه كان مستقلًا تمامًا عنها، ومجموعة ثالثة تقول إنه كان يعرف محتواها شفاهةً، لكنه لم يعتمد عليها نصيًا.

من الوارد أن تتساءل: ما الفرق؟ سأقول لك، الفرق هنا هو ترتيب مصادرك. لو كان يوحنا معتمدًا عليهم، وهم جميعًا معتمدون على مرقس، فلديك مصدر واحد، وليس أربعة! لكن لو كان يوحنا منفصلًا، فستُعتبر مادته مصدرًا منفصلًا في الأماكن التي يُحتمل أن يكون بها تأريخ.

إن الرأي التقليدي، على الأقل الذي وصل إلى القديس في أواخر القرن الرابع وأوائل الخامس، هو أن يوحنا كان عارفًا جيدًا بالأناجيل التي سبقه، والتي كتبها مرقس ومتى ولوقا، وأنه كتب إنجيله ليكمّل ما جاء فيهم، ويوضّح الغامض منهم. القديس إيرونيموس چيروم يذكر كل هذا في كتابه De Viris Illustribus [رجال لامعين]، في الفصل الخاص بسيرة يوحنا [2].

نفس الرأي التقليدي، لأسباب أدبية ونصية أكثر تعقيدًا، يتبناه بعض الدارسين مثل ، و، التي ترى أن يوحنا اعتمد عليهم شفاهه، لكن لم تكن نصوصهم تحت يده. أيضًا يتبنى نفس الرأي، مُضيفًا أن يوحنا اعتمد على تفسيرات لإنجيل مرقس، لا النص مباشرة. أما هلموت فلديْه رأي آخر: أن مرقس ويوحنا لهما مصدر مشترك في نص يسمى إنجيل بطرس. وسنترك هذا الرأي لنتحدث عنه لاحقًا، لأنه موضوع مستقل.

على الجانب الآخر من الشاطئ، يرى دالي أليسون أن يوحنا مستقل تمامًا عن الأناجيل الثلاثة [3]، ويرى تشارلز هارولد دود وجود تقاطعات، لكنه يرى أن استقلال يوحنا هو النظرية الأبسط [4].

يصف كروسان الوضع في الأكاديميا على الأقل حتى سنة ١٩٩٦، وقت نشره لكتاب من قتل يسوع؟، ويقول إن في الثلث الأول من القرن العشرين كان يُعتقد باعتماد يوحنا على الإزائيين. بعد ذلك، في الثلث الثاني، مال الرأي نحو الاستقلال، وفي الثلث الأخير لم يعد هناك اتفاق بخصوص هذه النقطة [5].

إذن، ماذا نفعل؟
أنا شخصيًا بحثت إلى أن وجدت شغل باحث اسمه أربان سي. ڤون ڤالدي. هذا الرجل متخصص في يوحنا حصرًا، وقد ألف ثلاثة كتبٍ كبيرةٍ يشرح فيها نظريته بخصوص طبقات إنجيل يوحنا ورسائله الثلاث، ويؤرخ كل جزءٍ منها بناءً على نظريته.

باختصار شديد، يرى ڤون ڤالدي أن الطبقة الأولى مختلفة حتى في الترتيب الزمني عن الأناجيل الإزائية [مرقس ومتى ولوقا] حتى في جزئية الآلام [6]. كما حدد أن الفقرة من يوحنا ١٩: ١٦، من الجزء الثاني منها، وحتى يوحنا ١٩: ٢٢، هي من الطبقة الأولى الأقدم [7].

على سبيل الأمانة العلمية، يجب معرفة إن ڤون ڤالدي في معرض كلامه عن معجزات إنجيل يوحنا، وما إذا كانت مبنية على الأناجيل الإزائية، أنه يعتقد أن معجزات يوحنا مستقلة عن الإزائيين، ولكن قد يكون هناك بعض النقاش بخصوص علاقة يوحنا بالإزائيين في جزئية الآلام، بالرغم من اختلافهم بشكل واضح. ثم في الفقرة التالية يذكر أن الذي بالتأكيد كان يعرف الإزائيين ويُحاكي كتاباتهم هو كاتب المرحلة الثالثة من النص [8].

حسنًا، الطبقة الأولى من إنجيل يوحنا: من كتبها، ومتى كُتبت، وأين كُتبت؟

يذكر ڤون ڤالدي إن كاتب نَصّ الطبقة الأولى هو شخص مُلِمٌّ بجغرافيا اليهودية وفلسطين، وكان كاتبًا مسيحيًّا من أصول يهوديّة. وقد تحدّث في نَصّ طبقته عن التوقعات اليهودية التقليدية، واستخدم عن المسيح ألقابًا يهودية فقط، حتى إنه استخدم لقبًا لم تُستخدمه الأناجيل الإزائية وهو: نبي مثل موسى. كما استخدم تراكيب آرامية وترجمها إلى اليونانية، وركّز أغلب الوقت على كرازة المسيح في إقليم اليهودية. بالتالي، يمكننا أن نستنتج أن الكاتب نفسه كان من إقليم اليهودية [9].

في الفصل الذي يليه، يناقش تاريخ الطبقة الأولى، ويذكر أن لاهوتها بسيط (Low Christology)، ووصفها الجغرافي دقيق، ويتضمن تفاصيل غير موجودة في الأناجيل الإزائية، وخالٍ من أي إشارات للأحداث الكبرى التي وقعت في السبعينيات، ومُنْتَهِي من أي وصف [أخروي]. ويقول إنه بالرغم من عدم قدرتنا على تحديد تاريخ الطبقة الأولى من محتواها الداخلي، إلا أنه يمكننا على الأقل تحديد أنها أقدم من الطبقة الثانية، والتي تتحدث بوضوح عن الأحداث التي وقعت في الستينيات. وبالتالي، يُرجع الطبقة الأولى للخمسينيات من القرن الأول، ويصفها بأنها مُبكّرة نوعًا، لكنه يُضيف أن تحديد تاريخ دقيق سيكون افتراضيًا للغاية. وعلى هذا، اكتفى بالإشارة إلى أنه يرى الخمسينيات تاريخًا مقنعًا.

يعني بذلك أنه يضع الطبقة الأولى لإنجيل يوحنا موازية أو أقدم من إنجيل مرقس. وباختصار، لو صح تقسيم ڤون ڤالدي، فنحن أمام مصدر قديم جدًا لكرازة يسوع، مصدر أولي نستطيع أن نقارنه بمرقس ونعتبره مصدرًا مبكرًا آخر، يمكن أن يرجع لفترة ما في الخمسينات. وهذا المصدر لا يحتوي على تطوّر لاهوتي كبير؛ فلاهوته ليس كلاهوت الطبقتين الأخريين، ولا كالطبقة الثالثة خصوصًا.

مصدر يسرد كرازة يسوع في إقليم اليهودية، ويذكر الصَّلب في موعد مختلف عن الأناجيل الإزائية، ويذكر الآلام بتفاصيل مختلفة عن الإزائيين، وبالتالي وارد أن يكون مصدرًا منفصلًا عنهم تمامًا في هذه الجزئية.

‎ ‎ هوامش ومصادر: ‎ ‎
  1. Raymond E. Brown, The Death of the Messiah, Volume 1 and 2: From Gethsemane to the Grave, A Commentary on the Passion Narratives in the Four Gospels. New York; London: Yale University Press. p.17 [🡁]
  2. De Viris Illustribus: كلمة لاتينية تعنيرجال لامعين، وهو عبارة عن مجموعة قصيرة من السير الذاتية كُتبت باللاتينية، وكتبها في القرن الرابع القديس إيرونيموس چيروم، ثم أكمل هذا العمل في بيت لحم حوالي عام 392 م. يتكون العمل من مقدمة بالإضافة إلى 135 فصلًا، يتكون كل منها من سيرة ذاتية مختصرة. [🡁]
  3. , Constructing Jesus: Memory, Imagination, and History, Baker Academic; Reprint edition, 2013, p.404 [🡁]
  4. C. H. Dodd, Historical Tradition in the Fourth Gospel, University Press, 1976, p.139 [🡁]
  5. John Dominic Crossan, WHO KILLED JESUS?, SanFran; 1st Edition, 1996 [🡁]
  6. Urban C. von Wahlde, The Gospel and Letters of John, Vol 1: Introduction, Analysis, and Reference, Wm. B. Eerdmans, 2010, p.117 [🡁]
  7. Urban C. von Wahlde, The Gospel and Letters of John, Vol 1: Introduction, Analysis, and Reference, Wm. B. Eerdmans, 2010, p.107 [🡁]
  8. Urban C. von Wahlde, The Gospel and Letters of John, Vol 1: Introduction, Analysis, and Reference, Wm. B. Eerdmans, 2010, p.131 [🡁]
  9. Urban C. von Wahlde, The Gospel and Letters of John, Vol 1: Introduction, Analysis, and Reference, Wm. B. Eerdmans, 2010, p.131 [🡁]

كيف تقيّم هذا المقال؟

← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←

المتوسط الحالي حسب تقييمات من القراء

كن أوّل من يقيّم هذا المقال

بما أن المقال أعجبك..

ربما اﻷفضل مشاركته مع دوائرك كي يحظى بانتشار أوسع

من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا

دعنا نعمل على تحسين ذلك

أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟

‎ ‎ جزء من سلسلة: ‎ ‎ أقوال المؤرخين في صلب يسوع[الجزء السابق] 🠼 الصلب والمصدر Q[الجزء التالي] 🠼 شهادة بولس الرسول
چون إدوارد
‎ ‎ نحاول تخمين اهتمامك… ربما يهمك أن تقرأ أيضًا: ‎ ‎