المقال رقم 4 من 8 في سلسلة أسطورة ١٦ فرقة مسيحية أنكرت الصّلب

النص الثالث الذي يُطرح باعتباره دليلًا على “عدم صلب يسوع” هو رؤيا بطرس. حُجة المُدّعي هي أن هذا النص قديم، ويرجع لبطرس فعلًا، إلى درجة أنه يقول إن هذا النص يتزامن مع سفر الرؤيا ليوحنا. المُدّعي يقول أيضًا إنه أهم من نص يوحنا، لأن كاتبه بطرس، على عكس نص رؤيا يوحنا، الذي لم يُعرف كاتبه. في مقدمة ادعائه، يقول إن نص رؤيا بطرس يتكون من 300 عدد، وكان يُقرأ في بعض كنائس فلسطين، وُجد في أخميم سنة 1886م. ثم وُجدت منه ترجمة إثيوبية سنة 1910، وأنه “يؤكد نجاة المسيح”. هذه هي الادعاءات باختصار.

مبدئيًا، هذا الكلام [العربي] يخلط بين عدة نصوص، تُعرف في لغاتها بأشكال مختلفة مثل Apocalypse of Peter أو Revelation of Peter، وتترجم جميعها باسم رؤيا بطرس.

يذكر في كتابه: المسيحيات المفقودة: معارك المخطوطات وإيمانات لم نعرفها نصّين، الأول هو “رؤيا بطرس” (نص من القرن الثاني) و”رؤيا بطرس القبطي” (نص غنوصي من القرن الثالث). النص الخاص بالقرن الثاني كان موجودًا مع نص إنجيل بطرس، وهما النصان اللذان كانا معًا وكان معهما جزء من “أخنوخ الأول” وقصة استشهاد القديس يوليان، وقد اكتُشِفا في أخميم عام 1886-1887م [1]

محتوى هذا النصّ يتلخص في رؤيا رآها بطرس خلال اجتماع يسوع بالتلاميذ على جبل الزيتون. وسط كلام يسوع معهم عن مثل ، لم يفهم التلاميذ وبطرس ما يقصده. فطلب بطرس من يسوع أن يشرح لهم المثل، فكلمهم يسوع عن معنى المثل، وعن الأيام الأخيرة، والكوارث التي ستحدث، وعن حياة الناس ما بعد الموت، وعن عذاب الأشرار والخطاة والجحيم، وهكذا. وغالبًا، هذا النصّ أو ما يشبهه هو الذي ألهم أليجيري في مؤلفه ، فصل الجحيم أو Inferno.

الهدف من النص هو حث الناس على ترك الخطيئة، وتحفيزهم على التقوى بتعريفهم بمصير الأبرار. فُقد هذا النص ثم عُثر عليه بصورة كاملة في ترجمة إثيوبية. عرض بارت إيرمان ترجمته في كتابه مخطوطات مفقودة: كتب لم تصل إلى العهد الجديد،  وفي مقدمة الكلام عن النص، يقول إن هناك ثلاث نصوص مكتشفة اسمها “رؤيا بطرس”، ويخص بالذكر في هذا الفصل النص المذكور سابقًا، المكتشف في أخميم، ويقول إنه النص الذي ورد في قائمة موراتوري وقانون [2]

في الفصل الثاني من رؤيا بطرس المؤرَّخة للقرن الثاني (ليس النص القبطي)، يكلّم يسوع التلاميذ ويقول لهم إن مسحاء كذبة سيأتون ويضلّون الناس ويقولون لهم “أنا هو المسيح الآتي إلى العالم”، ويتكلم عن الذنب الذي ارتكبه اليهود بصَلب المسيح الأول.

the first Christ whom they crucified and therein sinned a great sin

المسيح الأوَّل الذي صلبوه وبهذا قد اقترفوا إثمًا عظيمًا.

(رؤيا بطرس)

إذن، النص الأول المُسمَّى “رؤيا بطرس” وهو نص من القرن الثاني، وكان يُقرأ في الكنائس قديمًا، والمذكور في قانون موراتوري وقانون يوسابيوس القيصري، لا يُنكِر الصلب، بل على العكس تمامًا، يقول إن المسيح الأول الحقيقي سيُصلَب وإنه إثم عظيم على صالبيه. ولو كان المُدَّعي سيلتزم بكلامه ويعتقد أن بطرس هو فعلًا كاتب هذا النص، فهو بذلك قدّم لنا شهادة أحد التلاميذ بالصلب. ولكن، لأننا أدق منه ونُدقِّق في المعلومة، سنقول له: بطرس لم يكتب هذا النص، ولا نحتاجه أصلًا كدليل على الصلب، لأن لدينا ما هو أقدم منه بقرن.

أما لو أردت أن تستشهد بهذا النص أكثر، ففي الفصل السادس يتكلم عن مجيء يسوع وسط الملائكة وجلوسه عن يمين الآب ووضع التاج على رأسه. وفي الفصل الثالث عشر يتكلم عن أن الملائكة تُحضر الأبرار أمام يسوع باعتبارهم مختاريه، أي أن يسوع هو الذي يدين الناس وهو الذي يختار الأبرار للملكوت والأشرار للجحيم. فإذا كنت على استعداد للالتزام بهذه النقاط، فلا توجد لدينا مشكلة.

المشكلة أنك تستشهد بنص يقول بالصلب على أنه دليل على عدم الصلب، ونعود ونقول إن هذا كله بسبب القصّ واجتزاء الكتب بدون معرفة ولا دراية بمحتوى النصوص أصلًا، لدرجة أن المعترض، للمرة الثانية، لا يعرف أن هناك عدة نصوص بنفس الاسم، الأولى في إنجيل والثانية في رؤيا بطرس. لذا، على المعترض القراءة جيدًا قبل أن يكتب الكتب، ويكون هذا مطعنًا كبيرًا إما في عدم المعرفة أو في عدم الأمانة العلمية. حتى أن بارت إيرمان قال صراحة عن رؤيا بطرس القبطي: لا يجب الخلط بين هذا النص وبين نص رؤيا بطرس ما قبل الأرثوذكسي، الذي يرى فيه بطرس السماء والجحيم [3].

أما النص الثاني المسمى رؤيا بطرس القبطي، وهو من مخطوطات نجع حمادي (ليس إخميم)، فيرجع إلى القرن الثالث، كما ذكر بارت إيرمان في كتابه مخطوطات مفقودة [4].

لو رجعنا إلى كتاب هنريت هاڤيلار عن رؤيا بطرس القبطي بعنوان أبوكالبيتي بطرس القبطية، الذي نُشر سنة 1999، فبحسب لاهوت هذا النص، فإن المُخلِّص المصلوب يمتلك ثلاث طبائع غير مادية مرتبطة بشكل مؤقت بجسد يسوع [5]. والتعليق على الفقرات 71: 28-30 يقول أن الذي على الصليب هو بالفعل جسد يسوع، والتفسير بعد ذلك يشرح أن النص يميز بين طبائع متعددة ليسوع: جسد يُصلب ويتألم، ويسوع غير المادي الذي لا يعاني ولا يتأثر بالصلب [6].

هذه الفكرة مهمة لأنها تُظهر لنا أصل فكرة “الشبيه” التي سنراها بعد ذلك عند الغنوصي. التصوُّر الموجود في الأناجيل القانونية الأربعة هو أن يسوع تألم ومات وقُبر (وقام). أما التصورات فتفصل يسوع إلى شخصين: يسوع الحقيقي ويسوع المادي، أو يسوع الروحي ويسوع الجسدي. وبالنسبة للغنوصية، يسوع الحقيقي هو فقط يسوع الروحي أو الإلهي، أما يسوع الجسدي المادي فهو مؤقت وفانٍ. هذه الفكرة بدأت تتطور وتتشعب. في القرن الثاني والثالث، ظهر أناس قالوا إن يسوع صُلب ولم يتألم، وآخرون قالوا إنه صُلب وتألم ظاهريًا. وظهرت مجموعة ثالثة بفكرة أن الذي صُلب ليس يسوع على الإطلاق.

ولكي نفهم هذه التصورات جيدًا، يجب أن نعرف أننا هنا تتكلم عن نصوص لاحقة زمنيًا، وغير معنية أصلًا بتاريخ يسوع الأرضي. الغنوصيون لا يرون قيمة لجسد يسوع المادي، بل القيمة ليسوع الروحي. يرى الغنوصيون العالم كصراع بين كيانات سماوية، بعضها يحرر الإنسان وبعضها يحاول أسره في الجسد وإضلاله. كلما رجعت إلى الوراء زمنيًا، ستجد نصوصًا فيها بعض التاريخ بجانب القراءات اللاهوتية. وعند دخولك إلى بداية القرن الثاني ومع انتشار الغنوصية بفروعها، ستجد أن السردية أصبحت أقل اهتمامًا بالتاريخ وتميل أكثر إلى الصراعات السماوية بين إلهين أو أكثر.

كلما تقدمنا على خط الزمن، يقل الاهتمام بـ “يسوع التاريخ” ويأخذ الصليب أبعادًا أسطورية غريبة. في حين أن الصورة التي في الأناجيل الأربعة هي صورة تاريخية منطقية جدًا، شخص التفَّ حوله الناس وذهب إلى أكثر من موضع ليكرز، ويُحتمل أنه أحدث قلقًا في الهيكل، فجاء به الرومان وصلبوه. من صعوبة الموقف، لم يستطع المعاصرون له والمؤمنون به أن ينكروا بشاعة الحدث أو يحاولوا تغييره، لكن قرأوه في ضوء نصوص العهد القديم وآمنوا بأنه سيمجَّد، وآمنوا به “قائمًا من الأموات”. لكن كل هذا لم يمنع المعاصرين والذين جاؤوا بعدهم بعقود من أن يقبلوا الصلب بكل العار والسوء الذي فيه.

ختامًا، دعنا نستعرض بعض الآراء الأخرى التي تؤكد أن يسوع هو المصلوب حتى في النص الغنوصي القبطي، لكيلا نقف عند رأي باحث واحد. في كتاب هاڤيلار نفسه، في الصفحات 89، 102، 177، 184، و190، يتحدثون جميعهم عن أن المصلوب هو يسوع. وسنتوقف عند صفحتين منهم على وجه السرعة: الصفحة 144 توضح أن رؤيا بطرس القبطية تعتمد نصيًا على الأناجيل الإزائية، وبالتالي لا يمكن اعتباره مصدرًا منفصلًا لأي شيء [7]. والصفحة 190 تقول بشكل مباشر إن فكرة الفصل بين المخلص الحقيقي “يسوع الروحي” الذي لا يتألم ولا يعاني، وبين يسوع الإنسان الذي يُصلب، هي فكرة منتشرة في مخطوطات نجع حمادي [8].

وكمان في رأي كنت إتكلمت عنه في جُزء سابق وهو رأي Frank Williams في كتاب The Gospel of Judas: Its Polemic, Exegesis, and its Place in the Church History ص397 اللي إتكلم عن إنجيل يهوذا ورؤيا بطرس وقال إن الإتنين بيفصلو بين يسوع الإلهي أو الروحي ويسوع المادِّي وبيقولو إن دمار الجَسَد المادِّي ليسوع هو تحرير ليسوع الرُّوحي.

أيضًا، هناك رأي كنت تكلمت عنه في المقال السابق، وهو رأي في كتابه إنجيل يهوذا: جدله وتفسيره ومكانته في تاريخ الكنيسة الذي تكلم عن إنجيل يهوذا ورؤيا بطرس، وقال إن الاثنين يفصلان بين يسوع الإلهي أو الروحي ويسوع المادي، ويقولان إن دمار الجسد المادي ليسوع هو تحرير ليسوع الروحي [9].

وأيضًا في كتابه بطرس الثاني وأبوكالبيتي بطرس: نحو منظور جديد، يعلق على رؤيا بطرس القبطي والفقرات 81: 3 – 83 :15، ويقول إن في هذه الفقرات بطرس يرى رؤيا ليسوع “الحي” وهو يضحك على جسده المصلوب. أي أن يسوع شخصان بالفعل: يسوع الحقيقي ويسوع الإنسان. يسوع الحقيقي لا يتألم، لكن يسوع الإنسان معلق على الصليب [10].

إذن، لا رؤيا بطرس القديم تنفي الصَّلب، ولا رؤيا بطرس القبطي تنفي الصَّلب، ولا مَن يدّعي هذا الادعاء سيقبل بباقي ادعاءات هذه النصوص عن يسوع (كما رأينا أن يسوع هو الذي يدين الناس ويجلس عن يمين الآب)، ولا هو يعرف تاريخ هذه النصوص متى يعود، ولا هو حتى قرأ ورقتين تشرحان له ما تقول هذه النصوص. انظر إلى حال مَن يدّعون الفهم في هذه الأمور!

‎ ‎ هوامش ومصادر: ‎ ‎
  1. Bart D. Ehrman, The Lost Christianities: The Battles for Scripture and the Faiths We Never Knew, Oxford University, 2005, p.16 [🡁]
  2. Bart D. Ehrman, Lost Scriptures: Books that did not make it into the New Testament, Oxford University, 2003, p.280 [🡁]
  3. Bart D. Ehrman, The Lost Christianities: The Battles for Scripture and the Faiths We Never Knew, Oxford University, 2005, p.185 [🡁]
  4. Bart D. Ehrman, The Lost Christianities: The Battles for Scripture and the Faiths We Never Knew, Oxford University, 2005, p.16 [🡁]
  5. Henriette W. Havelaar, The Coptic Apocalypse of Peter: Nag-Hammadi-Codex VII,3, De Gruyter, 1999, p.13 [🡁]
  6. Henriette W. Havelaar, The Coptic Apocalypse of Peter: Nag-Hammadi-Codex VII,3, De Gruyter, 1999, p.82 [🡁]
  7. Henriette W. Havelaar, The Coptic Apocalypse of Peter: Nag-Hammadi-Codex VII,3, De Gruyter, 1999, p.144 [🡁]
  8. Henriette W. Havelaar, The Coptic Apocalypse of Peter: Nag-Hammadi-Codex VII,3, De Gruyter, 1999, p.190 [🡁]
  9. Frank Williams, The Gospel of Judas: Its Polemic, Exegesis, and its Place in the Church History, 2008, p.397 [🡁]
  10. Jörg Frey, 2 Peter and the Apocalypse of Peter: Towards a New Perspective, BRILL, 2019, p.141 [🡁]

كيف تقيّم هذا المقال؟

← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←

بما أن المقال أعجبك..

ربما اﻷفضل مشاركته مع دوائرك كي يحظى بانتشار أوسع

من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا

دعنا نعمل على تحسين ذلك

أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟

‎ ‎ جزء من سلسلة: ‎ ‎ أسطورة ١٦ فرقة مسيحية أنكرت الصّلب[الجزء السابق] 🠼 إنجيل يهوذا[الجزء التالي] 🠼 أعمال يوحنا
چون إدوارد
[ + مقالات ]
‎ ‎ نحاول تخمين اهتمامك… ربما يهمك أن تقرأ أيضًا: ‎ ‎