المقال رقم 11 من 16 في سلسلة تاريخ الإخوان والسلطة

بدأت الكراهية بين الجماعة والقاضي عندما تولى الأخير نظر قضية اعتداء بعض شباب الإخوان على جنود بريطانيين، وهما “حسين السيد عبد السميع” و”عبد المنعم أحمد عبد العال”، حيث إنهما قد اتُهِما بإلقاء قنبلة يدوية على نادي الضباط الإنجليز بالقاهرة في ليلة . وبعد القبض عليهما وتفتيشهما، وُجد في جيب الأول قنبلة، وعندما سُئل عنها قال إنه وجدها في الطريق! وقد قُدِّم هذان الشابان إلى محكمة الجنايات برئاسة المستشار أحمد الخازندار، فأصدرت حكمها في 18 يناير 1948 بالسجن ثلاث سنوات على “حسين عبد السميع”، وخمس سنوات على “عبد المنعم أحمد عبد العال”. ولم يدر القاضي الخازندار أن ثمة قاضيًا آخرًا قد حكم بموته هو شخصيًا وأنه في انتظار تنفيذ الحكم.

جاء الحكم على الشابين رادعًا للجماعة وصادمًا في نفس الوقت، فتلك كانت المرة الأولى التي يُحاكم أحد أعضاء الجماعة ويدان، وتمنى البنا في قرارة نفسه لو استطاع أحدهم التخلص من الخازندار، ولمّح بذلك في اجتماع عقده مع أعضاء مكتب الإرشاد قائلًا: ربنا يريحنا من الخازندار وأمثاله، ثم أدمعت عيناه حزنًا على الإخوان المحكوم عليهم بالسجن، وهو ما أعتبره رئيس النظام الخاص بمثابة ضوء أخضر لاغتيال الخازندار.

وقع اختيار السندي على “حسن عبد الحافظ” و”محمود سعيد زينهم” لاغتيال الخازندار. وبعد مراقبة الرجل أيامًا عدة، علموا أنه يذهب إلى المحكمة في باب الخلق بالقاهرة ويعود إلى حلوان بالمواصلات العامة. يبدأ خط سيره سيرًا على الأقدام من منزله إلى محطة سكة حديد حلوان، ثم قطار حلوان إلى باب اللوق، ثم المواصلات المعتادة. كذلك وضحت الدراسة أن قسم شرطة حلوان لا تتبعه سيارات، وعلى ذلك وضعت الخطة أن ينتظر خروج الرجل من بيته، فيغتاله حسن بالمسدس بينما يقف له محمود حارسًا وحاميًا لانسحابه بالمسدس وبقنابل يدوية صوتية، ثم ينسحبان ويمنعان تتبعهما من الجماهير بإطلاق الرصاص في الهواء وإلقاء القنابل، ويكون انسحابهما في غير تتبع من أحد إلى بيت عبد الرحمن، ولقد باتا ليلتهما عنده أيضًا في بيت عبد الرحمن السندي.

وفي صباح يوم 22 مارس 1948م، وقبل الموعد المعتاد لخروج الخازندار من بيته، كان الصائدان يترصدان ذلك الخروج، ثم خرج القاضي أحمد بك الخازندار من منزله بشارع رياض بحلوان، ليستقل القطار المتجه إلى وسط مدينة القاهرة حيث مقر محكمته، في خطوات وئيدة لا يدري ما هو مبيت له، وكان محمود بعيدًا بعض الشيء، يرقب الطريق والمارة ويرقب أيضًا أخاه في المهمة، بينما تقدم حسن وأطلق بضع طلقات لعلها كانت ثلاثًا لم تصب الهدف، ولم يضع محمود الفرصة فترك مكانه وتقدم نحو الخازندار، وقيل إنه أمسك به من ذراعه وأوقعه على الأرض، فقد كان محمود مصارعًا ورياضيًا وكان مكتمل الجسم، وصوب إليه مسدسه فأفرغ فيه ما شاء، ثم تركه وانسحب بزميله وقد خرجت الأرملة تصيح من الشرفة وتقول “أنا مش قلت لك؟”، في هذا الوقت كان العجلاتي القريب من البيت يفتح محله حين سمع اطلاق الرصاص وصراخ الزوجة، ونظر فوجد الخازندار ممددًا على الأرض في دمائه، فانطلق العجلاتي بإحدى دراجاته إلى قسم البوليس فأبلغ الأمر، وهنا كانت مفاجأة، القسم الذي كان معلومًا خلوه من السيارات تصادف أن جاءته من القاهرة سيارة في تلك اللحظة لنقل بعض المحجوزين به، فانطلق الكونستابل الذي كان يصاحب السيارة بها في أثر الفارين وتغير الموقف، فاتجه محمود وحسن صوب الجبل بدلًا من اتجاههما إلى بيت السندي.

الذي يعرف جبل المقطم يعلم أنه ليس مجالًا مناسبًا للفرار في تلك المنطقة، واجتازا في انسحابهما هذا بعض أسوار الحدائق والبيوت، وسقط حسن فجزعت قدمه واضطر محمود أن يحمله أو يسنده بعض الوقت، وتوالت قوات البوليس من القسم نحو الجبل، ثم لم يلبث الجبل أن ضرب عليه حصار من العباسية إلى حلوان على مسافة تزيد عن ثلاثين كيلو مترا، وتقدمت تلك القوات إلى داخل الجبل فقبضت على محمود وحسن، وأنكرا كل صلة لهما بالحادث، وجرى التحقيق ليلتها في قسم حلوان بمعرفة النائب العام محمود منصور ثم نقلًا إلى القاهرة.

في قسم الشرطة عُثر بحوزتهما على أوراق تثبت انتماءهما لجماعة ، واستدعت النيابة مرشد الجماعة لسؤاله إن كان يعرف أيًا من الجناة، إلا أن البنا أنكر معرفته بهما تمامًا، لكن النيابة تمكنت من إثبات أن المتهم الأول “حسن عبد الحافظ” كان السكرتير الخاص للمرشد العام للجماعة حسن البنا!! ، فتراجع البنا عن شهادته السابقة واعترف بمعرفته للمتهم، إلا أنه نفى علمه بنية المتهمين اغتيال القاضي الخازندار، واستنكر الفعلة ونفى قيام جماعته بأية أعمال إرهابية أو أي أشياء من هذا القبيل، وهاجت الدنيا وماجت.

في اليوم التالي، أقيمت جلسة عاصفة للجهاز السري للبحث فيما حدث، وقدم الجهاز السري السندي لمحاكمة داخلية تكونت من ، الشيخ ، د. خميس حميدة، د. عبد العزيز كامل، ، ، حسن، أحمد حسنين، د. محمود عساف، ، إبراهيم الطيب، يوسف طلعت، حلمي عبد المجيد، حسني عبد الباقي، ، وأحمد حجازي، وكان رئيسها هو البنا وعليه يبدو التوتر في حركة عينيه السريعة والتفاته العصبي، وإلى جواره عبد الرحمن السندي رئيس النظام، وكان لا يقل توترًا وتحفزًا عن الأستاذ.

كان البنا غاضبًا ثائرًا مما حدث، خصوصًا بعد حالة السخط العارم التي فوجئ بها البنا من الشارع ضد الجماعة، وكعادته، حاول البنا التملص من المسؤولية، وقال إن كل ما صدر منه من قول تعليقًا على أحكام الخازندار في قضايا الإخوان لو ربنا يخلصنا منه أو لو نخلص منه أو لو واحد يخصلنا منه لا يخرج عن الأمنية ولا يصل إلى الأمر، فالأمر محدد وإلى شخص محدد، وهو لم يصدر أمرًا ولم يكلف أحدًا بتنفيذ ذلك، ففهم عبد الرحمن هذه الأمنية أمرًا واتخذ إجراءاته التنفيذية، وفوجئ الأستاذ المرشد بالتنفيذ.

وقال البنا نصًا؛ ليس معنى أن يخطئ قاضى في حكمه، أن يُقتل، وأن ما حدث لم أكن أعلم به، فدافع السندي عن نفسه قائلًا أنه سمع فضيلة المرشد يقول بما معناه أن هذا القاضي الخازندار يستحق القتل؛ ربنا يريحنا منه فتصور أن عملية القتل سوف ترضي فضيلته، وأعتبر ذلك أمرًا من الإمام البنا، ونفذ فورًا، ولأن المرشد كان يعلم أن السندي يقول الصدق فقد اجهش بالبكاء، ودافع عن السندي وحاول تبرير موقفه، ويروى د. عبد العزيز كامل في مذكراته “في نهر الحياة” تفاصيل الجلسة الساخنة التي جمعته بالمرشد وعبد الرحمن السندي قائلًا:

ووجهت حديثي إلي الأستاذ قائلًا: أريد من فضيلتكم إجابة محددة بنعم أو لا علي أسئلة مباشرة لو سمحتم، فأذن بذلك فقلت: هل أصدرت فضيلتكم أمرًا صريحًا لعبد الرحمن بهذا الحادث؟
قال: لا.
قلت: هل تحمل دم الخازندار علي رأسك وتلقي به الله يوم القيامة؟
قال: لا.
قلت: إذن فضيلتكم لم تأمر ولا تحمل مسئولية هذا أمام الله.
قال: نعم.
فوجهت القول إلي عبد الرحمن السندي، واستأذنت الأستاذ في ذلك، فأذن.
قلت: ممن تلقيت الأمر بهذا؟
فقال: من الأستاذ [يقصد المرشد حسن البنا]
فقلت: هل تحمل دم الخازندار علي رأسك يوم القيامة؟
قال: لا.
قلت: وهذا الشباب الذي دفعتم به إلي قتل الخازندار، من يحمل مسئوليته؟ والأستاذ ينكر وأنت تنكر، والأستاذ يتبرأ وانت تتبرأ.
قال عبد الرحمن: عندما يقول الأستاذ إنه يتمنى الخلاص من الخازندار، فرغبته في الخلاص: أمر منه.
فأجاب البنا: أنا لم أقل لك، ولا أحمل المسئولية.
وعبد الرحمن يرد: لا، أنت قلت لي، وتتحمل المسئولية.
قلت: مثل هذه الأمور ليست بالمفهوم أو بالرغبة وأسئلتي محددة، وإجاباتكم محددة، وكل منكما يتبرأ من دم الخازندار، ومن المسئولية عن هذا الشباب الذي أمر بقتل الخازندار.

(عبد العزيز كامل، في نهر الحياة)

وهكذا تفرق دَم الخازندار بينهم، ثم صدر حكم المحاكمة الداخلية للتنظيم بما يلي نصه:

إن الأخوان اللذان قاما بهذا العمل قد قاما بعمل غير مسبوق، لكنهما لم يقصدا قتل المستشار أحمد الخازندار لذاته، وإنما قصدا قتل روح التبلد لدى هذه الجماعة من المثقفين، ومن ثم لا نكون إزاء قتل نفس بغير نفس.

(عبد العزيز كامل، في نهر الحياة)

واعتبروا أن الموضوع لا يستحق كل تلك الأهمية، ومن ثم فأن قتل الخازندار كان عن طريق الخطأ، وبالرغم من أن القتل الخطأ يستوجب أن يدفع القاتل ديه المقتول إلا أن الإخوان تملصوا حتى من دفع دِيَة(تعويض) دَم الخازندار لان الحكومة قد دفعت بالفعل تعويض لأسرته.

كيف تقيّم هذا المقال؟

← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←

المتوسط الحالي حسب تقييمات من القراء

كن أوّل من يقيّم هذا المقال

بما أن المقال أعجبك..

ربما اﻷفضل مشاركته مع دوائرك كي يحظى بانتشار أوسع

من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا

دعنا نعمل على تحسين ذلك

أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟

جزء من سلسلة: تاريخ الإخوان والسلطة[الجزء السابق] 🠼 الإخوان والدم[الجزء التالي] 🠼 الإخوان والحرب
بيشوي القمص
[ + مقالات ]

صدر للكاتب:
كتاب: ﻻ أحد يتعلّم من التاريخ ٢٠١٧
كتاب: ﻻ أحد يتعلّم من التاريخ [قيصر جديد] ٢٠١٨
كتاب: ﻻ أحد يتعلّم من التاريخ [صراع العروش] ٢٠٢٢
كتاب: ﻻ أحد يتعلّم من التاريخ [العملية ظافر] ٢٠٢٤