المقال رقم 4 من 7 في سلسلة مونارخية الآب

نستكمل في هذا الجزء أهم الإشارات إلى عقيدة مونارخية الآب في ، في كتابات أهم الأساتذة والباحثين اللاهوتيين من مُختلف الجامعات والمدارس اللاهوتية، سواء المدرسة الإنجليزية، أو الفرنسية، أو الألمانية، أو الأمريكية، أو اليونانية، أو القبطية، بل ومن مُختلف الكنائس والطوائف المسيحية، سواء، الأرثوذكسية، أو الكاثوليكية، أو البروتستانية. للوقوف على أفضل تصوُّر للمونارخية، أو وحدة الرأس، أو الأصل، أو المصدر، أو الينبوع، أو العلة في الثالوث القدوس. وسوف نبحث شروحات هؤلاء الأساتذة والباحثين المرموقين على مستوى العالم لفكر آباء الكنيسة والمجامع المقدَّسة حول مونارخية الآب في الثالوث القدوس.

جيوفري ويليام لامب

مونارخية الآب في تعليم آباء الكنيسة الجامعة

يذكر چيوفري ويليام لامب، أستاذ اللاهوت في جامعة كامبريدچ بإنجلترا، عقيدة ”مونارخية الآب“ في معجمه الآبائيّ الشهير، المعروف بـ”معجم لامب الآبائيّ“، حيث يُشِير إلى مونارخية الآب، وإلى الصدور الأحادي من الآب فقط كمصدر وحيد في الثالوث، وكمصدر للألوهة في الثالوث، في كتابات الآباء التاليين: ّ المؤرخ (عن اللاهوت الكنسي ٢: ٧)، والعلامة الإفريقي (ضد ، ٨)، وق. الرسولي (المقالة الرابعة ضد اليين ٤: ١)، وق. (الروح القدس، ٤٥)، وق. كيرلس الأورشليمي (المقالات للموعوظين ٧: ١)، وق. غريغوريوس (عظة ٢٩: ٢)، وق. (العظة التعليمية الكبرى، ٣)، وق. إبيفانيوس أسقف سلاميس بقبرص (باناريون ضد الهرطقات ٦٢: ٣)، وق. (المقالة العاشرة من الكنوز في الثالوث). [1]

أليستر ماجراث

مونارخية الآب في اللاهوت الشرقي

يتحدَّث الكاهن الأنجليكانيّ وأستاذ اللاهوت التاريخي في جامعة أوكسفورد أليستر ماجراث عن تركيز اللاهوت الشرقيّ في شرح الثالوث على ”مونارخية الآب“ قائلًا: [2]

كان الفكر اللاهوتيّ الشرقيّ مائلًا بصفة عامة إلى التركيز على فرادنية [شخصانية] الأقانيم الثلاثة المتمايزة، وإلى الحفاظ على وحدتهم، عن طريق التشديد على أن كل من الابن والروح القدس صادر من الآب. فإن العلاقة بين الأقانيم هي علاقة وجودية [أنطولوچية]، متأصلةً في طبيعة هؤلاء الأقانيم وماهيتهم. وهكذا، جرى تعريف علاقة الابن بالآب بمفردات كونه 'مولودًا‘، أي بمفردات 'البنوية‘. لكن، كما سنرى لاحقًا، حاد وس عن هذه المنهجية، مُفضِّلًا التعامل مع الأقانيم بمفردات علاقاتية [علائقية]. وسنُعاوِد التطرُّق إلى هذه الأفكار في وقتٍ لاحقٍ، في أثناء دراستنا للجدل الفيليوكوي Filioque Controversy. في المقابل، كانت المنهجية الغربية أكثر تميزًا بميلها إلى الانطلاق من وحدانية الله [ما يُسمَّى بمونارخية الجوهر أو مونارخية الثالوث بحسب تورانس]، ولا سيما في عمل الإعلان والفداء، وإلى تفسير العلاقة بين الأقانيم الثلاثة بمفردات الشركة المتبادلة بينهم. هذا هو الرأي الذي تميَّز به أوغسطينوس، والذي سنستعرضه في جزء لاحق من دراسة الحالة الحالية.

(أليستر أي ماجراث، اللاهوت التاريخي)

مونارخية الآب حسب الآباء الكبادوك

ويستطرد البروفيسور ماجراث في الحديث عن أهم سمة من سمات منهجية الآباء الكبادوك في تناول عقيدة الثالوث، وهي الأولوية أو المونارخية المعطَاة للآب قائلًا: [3]

من أهم سمات هذه المنهجية المميزة في تناول عقيدة الثالوث هي الأولوية [المونارخية] التي أُعطِيَت للآب. فعلى الرغم من تشديد الكُتاب الكبادوكيين على عدم قبولهم لفكرة تبعية [subordinationism] الابن أو تبعية الروح القدس للآب، لكنهم مع ذلك ذكروا صراحةً أن الآب ينبغي أن يُعتبر هو مصدر الثالوث أو منبعه. فإن جوهر الآب يُنقَل إلى كل من الابن والروح القدس، ولكن بطريقةٍ مختلفةٍ: فالابن مولود من الآب، والروح القدس منبثق من الآب. وهكذا، أشار غريغوريوس النيسي إلى الأقنوم الواحد للآب، الذي منه يُولَد الابن، وينبثق الروح القدس.

(أليستر أي ماجراث، اللاهوت التاريخي)

مونارخية الآب في تعليم الآباء الشرقيين اليونانيين

ويستعرض البروفيسور ماجراث الصراع حول انبثاق الروح القدس وارتباطه بموضوع المونارخية في الثالوث، مؤكدًا على أن الآباء الشرقيين اليونانيين شدَّدوا على مونارخية الآب في الثالوث قائلًا: [4]

أصرَّ الكُتَّاب الآبائيون اليونانيون [الشرقيون] على أنه لا يوجد سوى مصدر واحد للجوهر والكينونة في الثالوث. فالآب وحده هو المصدر الوحيد الفائق لكل شيء، بما في ذلك الابن والروح القدس داخل الثالوث. فالابن والروح القدس صادران من الآب، ولكن بطريقتين مختلفتين.

(أليستر أي ماجراث، اللاهوت التاريخي)

مونارخية الآب وجدل الفيليوكوي

ويُوضِّح البروفيسور ماجراث الاختلافات الأساسية بين الشرقيين والغربيين في سياق الحديث عن جدل الفيليوكوي Filioque، وتركيز الطرف اليوناني الشرقي على مونارخية الآب كالتالي: [5]

كان غرض الطرف اليونانيّ أو [الشرقيّ] من هذا الجدل [أي جدل الفيليوكوي] هو الحفاظ على مكانة الآب باعتباره المصدر الأوحد للألوهية. ولأن كل من الابن والروح القدس صادران منه -ربما بطريقتين مختلفتين، لكنهما طريقتان صالحتان بالقدر نفسه- فقد نجح ذلك في الحفاظ على ألوهيتهما هما أيضًا. وقد بدا لليونانيين أن المنهجية اللاتينية تفيد بوجود مصدرين منفصلين للألوهية في الذات الإلهية، وتقوض التمايُّز الحيويّ بين الابن والروح القدس. ففي حين يرى الرأي اليونانيّ أن الابن والروح القدس يُؤدِيان دورين متمايزين، لكن تكميليين في الآن ذاته، يرى الطرف الغربيّ أن الروح القدس هو روح المسيح.

(أليستر أي ماجراث، اللاهوت التاريخي)

ديفيد برنارد

شرح الثالوث بين ق. أثناسيوس والكبادوك

يُشِير أستاذ دراسات العهد الجديد الأمريكيّ اليّ ديفيد برنارد إلى مُساهمة الآباء الكبادوك في توضيح اللبس حول عقيدة الثالوث حسب ق. أثناسيوس، الذي أثير بسبب استخدام مصطلح الهوموأوسيوس، واعتبار حزب أشباه الآريوسيين أو حزب الهوميوأوسيوس له أنه تعبير سابيلي، قائلًا: [6]

يستنتج المؤرِّخون في العموم أن العامل الحاسم في انتصار عقيدة الثالوث كان بلاغة وتصميم أثناسيوس نفسه. لقد أدرك أن أشباه الآريوسيين كانوا في الواقع أقرب إلى موقفه من الآريوسية، وشكل تحالف معهم، مما أدى إلى تشكيل الأغلبية مرة أخرى. وفي هذا المسعى، تلقى [ق. أثناسيوس] عونًا كبيرًا من ثلاثة لاهوتيين بارزين من كبادوكية، هم: ق. باسيليوس القيصري، وق. غريغوريوس النيسي، وق. غريغوريوس النزينزي، الذين قاموا باستخدام المفاهيم والمصطلحات الفلسفية اليونانية، وقاموا بتوضيح عقيدة الثالوث بحسب أثناسيوس لجعلها أكثر قبولاً على نطاقٍ واسعٍ.

(David K. Bernard, A History of Christian Doctrine)

هنري شيلدون

مونارخية الآباء في تعاليم آباء الكنيسة

يُشِير البروفيسور هنري شيلدون، أستاذ اللاهوت التاريخي في جامعة بوسطن بأمريكا، إلى عقيدة ”مونارخية الآب“ في تعليم آباء قائلًا: [7]

أحرزت عقيدة ألوهية الروح [القدس] انتصارًا كبيرًا في مجمع القسطنطينية عام 381م. وهكذا اكتملت عقيدة نيقية عن الله الثالوث. لقد تحقَّق التوفيق بشكلٍ كافٍ بين الأقنومية [الشخصانية] الثلاثية مع الوحدة الإلهية من خلال التأكيد على وحدة الأقانيم [الأشخاص] في الجوهر. ومع ذلك، أضاف البعض إلى هذا الاعتبار أن هناك مبدأ واحدًا في اللاهوت، وهو أن مصدر أقنومية [شخصانية] الابن والروح [القدس] هو الآب [8]. وتقترب بعض التعبيرات، خاصةً من جانب غريغوريوس النيسيّ، في ظاهرها بشكلٍ وثيقٍ جدًا من التعليم الثالوثيّ. تلك هي الحالة التي يحاول فيها توضيح وحدة الجوهر في الأقانيم الإلهية من خلال الإشارة إلى حقيقة أن ثلاثة رجال، مثل: بطرس، ويعقوب، ويوحنا، على سبيل المثال، لهم جوهر مشترك [عموميّ]، أي جوهر الإنسانية. ولكن تشير جميع كتابات غريغوريوس إلى أنه لم يقصد أن يُؤخَذ هذا المثال دون قيد أو شرط. يقول دورنر Dorner: 'من الخطأ القول بأن غريغوريوس يتصوَّر التمايُّزات الأقنومية في الثالوث بأنها مرتبطةٌ ببعضها البعض كرجلين منفردين؛ لأنه، على العكس من ذلك، إنه يختزل بالأحرى التمايُّز الكامل بين الآب والابن في ذلك – أن السابق [الآب] هو العلة αϊτιον والأخير [الابن] هو المعلول αίτιατόν، بينما التمايُّز بين الرجال الحقيقيين هو أكثر عمقًا‘.

(Henry C. Sheldon, History of Christian Doctrine)

كارل ردولف هاجينبك

مونارخية الآب في التعليم النيقاوي

يُؤكِّد البروفيسور البروتستانتي السويسريّ كارل ردولف هاچينبك، أستاذ اللاهوت في جامعة بازل بسويسرا، على ”مونارخية الآب“ في التعليم النيقاويّ قائلًا: [9]

حسب الأفكار السائدة لهذا العصر، كان الآب يُعتبر المبدأ المؤثر الوحيد μία άρχή الذي تدين إليه جميع الأشياء بوجودها، الذي يُولَد منه الابن، وينبثق منه الروح القدس، والذي يعمل كل الأشياء من خلال الابن في الروح القدس. وتمَّ التأكيد على عبارة أن الروح القدس مُنبثِق من الآب خصوصًا في مواجهة أعداء الروح القدس Pneumatomachi. وكان من المؤكَّد في مواجهة هؤلاء: 'أن الروح القدس لا يستمد جوهره من الابن بطريقةٍ اعتماديةٍ، بل يقف في علاقة مُتساوِية ومُباشرة مع الآب، باعتباره العلة الأولى المشتركة؛ وكما أن الابن مولودٌ من الآب، كذلك الروح القدس مُنبثقٌ من الآب‘ Neander, Kg. ii. S. 897.

(K. R. Hagenbach, A History of Christian Doctrine)

جوزيف تكسرون

وحدة الألوهة في أقنوم الآب عند ق. أثناسيوس

يرى عالم الآبائيات الكاثوليكيّ الفرنسيّ چوزيف تكسرون أن ق. أثناسيوس قد نسب بوضوحٍ إلى الآب اسم ”الله“ كالتالي: [10]

كان من المقرَّر أن يصبح تعليم ق. أثناسيوس عن الثالوث هو تعليم ؛ ولكنه كان أول تعليم استقبل إضافات مهمة سواء في مصطلحاته أو في نظريته عن الأقانيم الإلهية وعلاقاتهم. نسب ق. أثناسيوس إلى الآب فقط اسم الله بشكلٍ بارزٍ: έν τή έκκλησία είς θεός κηρύσσεται, ό τοϋ λόγου πατήρ (Epist. ad. Epictetum, 9). بل، وعلى الرغم من أنه لم يدين في المجمع المنعقد في الإسكندرية في عام 362م، أولئك الذين يتحدَّثون عن جوهر واحد وثلاثة أقانيم، μία ούσία, τρεϊς ύποστάσεις، إلا أنه هو شخصيًا يُوحِّد بين مصطلحي جوهر όύσία وأقنوم ύποστάσις (De decretis, 27p De synodis, 41; Tomus ad Antioch., 6)؛ حتى أنه يكتب حوالي عام 369م، في رسالة إلى الأفارقة، 4: Η δέ ύποστασις ούσία έστί, καί ούδέν άλλό σημαινόμενον έχει ή αύτό τό όν؛ علاوة على ذلك، إذ يتحاشى أيضًا استخدام كلمة ببون πρόσωπον، فيترتب على ذلك أن مفرداته لم يكن لديها مصطلح تشير به إلى الأقنوم [الشخص]. بالإضافة إلى أنه لم يدرس ما تُشكِّله الأقانيم الإلهية في حد ذاته، ولا كيف يكونون متمايزين، وكيف يمكن تمييز أحدهما عن الآخر، ولا كيف يمكننا، بواسطة القياسات الخارجية المباشرة، أن نُصوِّر لأنفسنا الأفعال الخفية التي تمنحهم كينونتهم. لم يكن لدى أثناسيوس، كمجادل دائمًا في خضم المعركة، وقت الفراغ، وربما، الرغبة في مُعالجة هذه المسائل المتعلقة بالفلسفة الدينية العميقة. إذًا، تعليمه عن الثالوث غير كامل؛ وينبغي على الكبادوكيين سد هذه الفجوة إلى حدٍ كبيرٍ.

(Joseph Tixeront, History of Dogmas)

مونارخية الآب في تعليم الآباء الكباوك

يُشِير عالم الآبائيات چوزيف تكسرون إلى ”مونارخية الآب“ في تعليم الآباء الكبادوك قائلًا: [11]

ومع ذلك، يرى ق. غريغوريوس النزينزي أنه لا يمكن للمرء أن يُحدِّد بدقةٍ ما الذي يختلف فيه انبثاق الروح القدس عن ولادة الابن [12]. بل ما هو مُؤكَّد ليس إلا هذا: أن الخواص المميزة للأقانيم الإلهية والمفاهيم مُرتبطةٌ بأصل الأقانيم الإلهية وبتمايُّزهم المتبادل [13]؛ ويكتب ق. باسيليوس بهذا المعنى: أننا نقول إن الآب أعظم من الابن، ليس لأنه كذلك بالطبيعة، بل لأننا نتصوَّر المبدأ ذهنيًا على أنه أسمى مما ينبع منه [14]. وهكذا يتمّ الحفاظ على أولوية الآب بقوةٍ وتأكيدها في اللاهوت الكبادوكيّ. فالآب هو مبدأ الثالوث، الرباط، الذي من خلال الاشتراك في طبيعته، تنشأ وحدة الثالوث [15]. فهو ينبوع πηγή، وأصل άρχή، وعلة αίτία الألوهة θεότητος، والمصطلحان الآخران هما معلولان ومشتقان من الآب [16].

(Joseph Tixeront, History of Dogmas)

لويس بيركهوف

الفرق بين مونارخية الجوهر ومونارخية الآب

يتحدَّث اللاهوتيّ البروتستانتيّ الألمانيّ الأمريكيّ، وأستاذ اللاهوت في جامعة برنستون بأمريكا، لويس بيركهوف عن ”مونارخية الجوهر“ عند ق. أثناسيوس و ”مونارخية الآب“ عند الآباء الكبادوك قائلًا: [17]

وفي غضون ذلك، نشأ فريق نيقيّ أصغر سنًا، يتألَّف من رجال كانوا من تلاميذ المدرسة الأوريجانية، ولكنهم كانوا مدينين بالفضل للقديس أثناسيوس، ولقانون الإيمان النيقاوي، وذلك من أجل تفسير أكثر كمالاً للحقيقة. وكان أهمهم الكبادوكيين الثلاثة: ق. باسيليوس الكبير، وق. غريغوريوس النيسي، وق. غريغوريوس النزينزي. لقد رأوا أن مصدر سوء التفاهم هو في استخدام مصطلح أقنوم كمرادف لكل من أوسيا أو جوهر، وبرسوبون أو شخص، وهكذا، قصروا استخدامه على تحديد وتخصيص الوجود الشخصاني [الأقنومي] للآب والابن. وبدلاً من أن يتخذوا نقطة انطلاقهم من الجوهر الإلهي الواحد لله، كما فعل ق. أثناسيوس، اتخذوا نقطة انطلاقهم من الأقانيم الثلاثة في الكينونة الإلهية، وحاولوا إرجاعهم لمفهوم الأوسيا أو الجوهر الإلهي. قارن الغريغوريوسان بين علاقة الأقانيم في اللاهوت بالكينونة الإلهية وبين علاقة ثلاث أشخاص ببشريتهم المشتركة. وهكذا بتأكيدهم على الأقانيم الثلاثة في الكينونة الإلهية، حرَّروا العقيدة النيقية من شوائب السابيلية في عيون حزب يوسابيوس، ومن ثم، بدت شخصانية [أقنومية] اللوغوس مصونةً بما يكفي. وفي نفس الوقت، حافظوا بشدةٍ على وحدة الاقانيم الثلاثة في اللاهوت، وأوضحوا ذلك بطرق مختلفة.

(Louis Berkhof, The History of Christian Doctrines)

جستو جونزاليز

شرح الثالوث بين ق. أثناسيوس والكبادوك

يتحدَّث البروفيسور چستو جونزاليز أستاذ اللاهوت التاريخي ب Yale بأمريكا عن دور ق. غريغوريوس النزينزيّ في توضيح عدم سابيلية المصطلحات النيقية، التي استخدمها ق. أثناسيوس، كما أشاع عنها حزب يوسابيوس القيصريّ، قائلًا: [18]

لكن النقطة التي يتجاوز فيها تعليم غريغوريوس [النزينزي] تعليم باسيليوس لم تكن ألوهية الروح القدس – التي قَبِلَها باسيليوس، على الرغم من أنها ربما لم تكن صريحةً مثل صديقه – بل العلاقات بين الأقانيم الثلاثة في الثالوث. إن محاولة التمييز بين الآب والابن والروح القدس على أساس خواصهم، والتمييز بين الآب المتعال تمامًا والابن أو الكلمة، القادر على الارتباط بالعالم أدى بالضرورة إلى التراتبية أو التبعية، وفي النهاية إلى الآريوسية. قد كان أثناسيوس على علم بذلك، ولذلك نقى بشكلٍ قاطعٍ ومُتكررٍ كل محاولة لفهم سمو وتعالي الآب بطريقة تجعله يبدو أبعد عن الخليقة من الابن. ولكن هذا التركيز على السمو المتساوي للآب والابن، في حين أنه يقضي على أحد أسس الآريوسية، إلا أنه لم يكن قادرًا على إظهار كيف تختلف العقيدة النيقية عن السابيلية. وكانت هذه المهمة العظيمة هي مهمة الكبادوكيين. إن نهج غريغوريوس [النزينزيّ] قاده إلى التعامل مع هذه المشكلة على أساس العلاقات الداخلية بين الأقانيم الإلهية الثلاثة في الثالوث. وفقًا لغريغوريوس [النزينزي]، فإن التمايُّزات الوحيدة التي يمكن تحديدها بين الأقانيم الثلاثة في الثالوث هي تلك التمايُّزات التي تشير إلى أصل كل منهم. هذه التمايُّزات لا علاقة لها بالجوهر أو الطبيعة، بل فقط بمصدر كل أقنوم. فعندما أتحدَّث عن الله، فينبغي عليك أن تستنير على الفور بشعاع واحد من النور وبالثلاثة. إنهم ثلاثة في الأقانيم، أو إنْ كان أيّ أحد يفضل أن يدعوهم هكذا، أو في الأشخاص [بروسوبا] πρόσωπα، لأننا لن نختلف حول الأسماء، طالما أن الألفاظ تصل إلى نفس المعنى، ولكنهم واحد بحسب الجوهر – أي الألوهة. لأنهم متمايزون دون انقسام، إن كان لي أن أقول ذلك، ومتحدون في التمايز. لأن الألوهة واحدةٌ في الثلاثة، والثلاثة واحدٌ، وفيهم تكون الألوهة، أو لنقل بأكثر دقة، الذين يكونون الألوهة. […] الآب هو آبٌ، وغير مولود، لأنه ليس من آخر، والابن هو ابن، ولكنه ليس غير مولود، لأنه من الآب. ولكن إذَا أخذت لفظة أصل أو مصدر بمعنى زمنيّ، فهو [الابن] غير مولود أيضًا، لأنه صانع الزمن، وغير خاضع للزمن. الروح القدس هو روح حقًا، ويصدر من الآب حقًا، ولكن ليس بحسب طريقة الابن، لأنه ليس بالولادة بل بالانبثاق […] لأن الآب لم يتوقف عن أن يكون غير مولود بسبب ولادته لشيء ما، ولا الابن يتوقف عن أن يكون مولودًا بسبب أنه من غير المولود، لأنه كيف يمكن أن يكون هذا؟! ولا الروح تغيَّر إلى الآب أو الابن لأنه منبثق، أو لأنه إله.

(Justo L. Gonzalez, A History of Christian Thought)

ويُعلِّق البروفيسور چستو جونزاليز على الاختلاف في شرح الثالوث بين ق. أثناسيوس والكبادوكيين قائلًا: [19]

هناك بعض الاختلافات بين أثناسيوس والكبادوكيين، ترجع إلى سياقهم التاريخيّ المختلف، والبعض الآخر إلى أساليبهم اللاهوتية المتنوعة. كان على أثناسيوس والكبادوكيين أن يواجهوا خصومًا، على الرغم من أن الآريوسيين جميعهم كانوا مختلفين، إلا أن ق. أثناسيوس واجه الآريوسية عندما لم تكن عواقبها النهائية قد ظهرت بعد، لذلك، كان من الضروري دحضها وإدانتها من خلال إظهار ما اَعتبره أنه آثارها السلبية على الإيمان المسيحي. أمَّا الكبادوكيون فقد قاوموا الآريوسية الناضجة والمكتملة، التي أصبحت ثمارها معروفة بالفعل. لذلك، لم تكن مهتهم محاولة اكتشاف نتائج الآريوسية، بل كانت دحض هذه النتائج وتطوير بديل لها. وهكذا، فإن المسافة التي تفصل بين النقيين القدامى والجدد، يمكن، بل ويجب، إلى حدٍ كبيرٍ تفسيرها على أساس المسافة التي تفصل بين الآريوسيين القدامى والجدد. علاوة على ذلك، اختلف الكبادوكيون عن ق. أثناسيوس في المنهجية اللاهوتية. فقد كان الأسقف الاسكندريّ العظيم يحيل كل مسألة تتعلق بألوهية الابن إلى نتائجها الخلاصية. بينما كان الكبادوكيون يميلون إلى استخدام الحجج المنطقية والكتابية، دون بذل مجهود مستمر وواعٍ لربط عقيدة الثالوث بالتعليم الخلاصيّ المسيحيّ. فبالنسبة لهم، ما هو محل خلاف هو عقيدة أساسية في المسيحية، وليس نقطة انطلاق ضرورية للتعليم الخلاصيّ المسيحيّ. فالمعركة على وشك الانتهاء، ومهمة الكبادوكيين تتمثَّل في تنظيم وترتيب إيمان الكنيسة وشرحه بأكبر قدر ممكن من الوضوح المنطقيّ. ربما يكون هذا أحد الأسباب التي جعلتنا، مع ق. غريغوريوس النيسيّ، نجد أنفسنا مرة أخرى في الإطار الأصلي الذي يبدو أن ق. أثناسيوس قد خلفه ورائه.

(Justo L. Gonzalez, A History of Christian Thought)

جيمس فرانكلين بيثون بيكر

الآب الينبوع عند ق. أثناسيوس

يُشِير البروفيسور چيمس فرانكلين بيثون بيكر أستاذ اللاهوت في جامعة كامبريدچ إلى وصف أثناسيوس للآب بأنه الينبوع، والابن بأنه النهر، قائلًا: [20]

يجب أن نعتمد على الكتاب المقدس، حيث يصف الكتاب الآب بالينبوع، والابن بالنهر، ونحن نشرب من الروح، أو يصف الآب بالنور، والابن بالشعاع، ونحن نستنير بالروح. الآب هو وحده الحكيم، والابن حكمته، ونحن ننال روح الحكمة. ولا يمكن بأي حال من الأحوال فصل أحدهما عن الآخر.

(J. F. Bethune-Baker, An Introduction to the Early History of Christian Doctrine)

مونارخية الآب عند ق. غريغوريوس النيسي

ويتحدَّث البروفيسور چيمس فرانكلين بيثون بيكر عن ”مونارخية الآب“ عند ق. غريغوريوس النيسيّ قائلًا: [21]

من الواضح في هذا البرهان أنه تمَّ الاعتراف بالاشتراك في الأزلية، والمساواة المطلقة للأقانيم الثلاثة. لا تؤدي فكرة العلية إلا إلى التمييز بين أنماط الوجود الثلاثة. فالله واحد ό θεος، ولكن داخل وجوده، هناك علة τό αϊτιον التي يتناسب معها اسم الآب، وهناك معلول τό αίτιατόν، الذي يتضمن المعلول المباشر τό προσεχώς έκ τοϋ προώτου، الذي يتناسب معه اسم الابن، وهناك المعلول الوسيط τό διά τοϋ προσεχώς έκ τοϋ προώτου، الذي يتناسب معه اسم الروح القدس. فالروح القدس هو من الآب، كما هو أيضًا من خلال الابن. وارتباط الروح هذا بالابن والآب هو تعليم ق. غريغوريوس النيسيّ أيضًا في كتاباته الأخرى، إن لم يكن بنفس المصطلحات دائمًا.

(J. F. Bethune-Baker, An Introduction to the Early History of Christian Doctrine)

نستنتج مما سبق تكامُّل وتضافر الشرحين الأثناسيوسيّ والكبادوكيّ مع بعضهما البعض في شرح عقيدة الثالوث، حتى وإن اختلف الاثنان في نقطة الانطلاق، وذلك راجع كما عرضنا إلى عدة أسباب يمكن تلخيصها في النِّقَاط التالية:

1) نقطة انطلاق ق. أثناسيوس في مواجهة الآريوسية المبكرة، آريوسية آريوس ويوسابيوس النيقوميديّ، هي سوتيريولوچية أو خلاصية، أي من علاقة الأقانيم الثلاثة في الجوهر الإلهيّ الواحد بالخليقة في إطار ، لذا شدَّد على وحدة الجوهر الإلهيّ في إطار علاقته مع الخليقة من أجل تدبير الخلاص، أي في سياق تدبيريّ.

2) نقطة انطلاق الكبادوك في مواجهة الآريوسية الناضجة، آريوسية آتيوس و، هي ثيؤلوجية أو لاهوتية وشخصانية وأنطولوچية، أي ينطلق الكبادوك من العلاقات الأقنومية داخل الثالوث وصولًا إلى وحدة الجوهر الإلهي، لذا شدَّد الكبادوك على ”مونارخية الآب“ كاسم شركة أو علاقة يدل على علاقته بالأقنومين الآخرين في إطار ثيؤلوجيّ صرف.

3) اختلاف السياقات التاريخية بين النيقيين القدامي والجدّد والآريوسيين القدامى والجدّد، وبالتالي، اختلاف مُتطلبات الشرح اللاهوتيّ لعقيدة الثالوث بين ق. أثناسيوس والآباء الكبادوك في مُواجهة هذه السياقات التاريخية.

4) هناك دور رئيسيّ للشرح الكبادوكيّ في إزالة الشبهات الواهية بالسابيلية المزعومة عن الشرح الأثناسيوسيّ.

هوامش ومصادر:
  1. G. W. H. Lampe, A Patristic Greek Lexicon, (Oxford: At The Clarendon Press, 1961), p. 877. [🡁]
  2. أليستر أي ماجراث، اللاهوت التاريخي، (لبنان: منهل الحياة، ٢٠٢٢)، ص ٩٧، ٩٨. [🡁]
  3. أليستر أي ماجراث، اللاهوت التاريخي، (لبنان: منهل الحياة، ٢٠٢٢)، ص ١٠٢. [🡁]
  4. أليستر أي ماجراث، اللاهوت التاريخي، (لبنان: منهل الحياة، ٢٠٢٢)، ص ١٠٨. [🡁]
  5. أليستر أي ماجراث، اللاهوت التاريخي، (لبنان: منهل الحياة، ٢٠٢٢)، ص ١١٠. [🡁]
  6. David K. Bernard, A History of Christian Doctrine Vol. 1, USA, WAP, 1995, p. 130. [🡁]
  7. Henry C. Sheldon, History of Christian Doctrine, Vol. I, (New York: Harper & Brothers, Franklin Square, 1886), p. 211 [🡁]
  8. أثناسيوس، المقالة 4: 1؛ غريغوريوس النزينزي، خطبة 20: 6؛ وقارن مع يوسابيوس القيصري، عن اللاهوت الكنسي 1: 11، 2: 6 [🡁]
  9. K. R. Hagenbach, A History of Christian Doctrine, Vo. I, Intro. by E. H. Plumptre, (Edinburgh, T & T Clark, 1883), p. 372, 373. [🡁]
  10. Joseph Tixeront, History of Dogmas, Vol. II, Trans. by H. L. B, (USA: St. Louis, MO, 1914), p. 75. [🡁]
  11. Joseph Tixeront, History of Dogmas, Vol. II, Trans. by H. L. B, (USA: St. Louis, MO, 1914), p. 79. [🡁]
  12. خطبة 39: 12؛ خطبة 23: 11؛ 31: 8 [🡁]
  13. ق. باسيليوس، ، 1: 45؛ ق. غريغوريوس النزينزيّ، خطبة 31: 9؛ ق. غريغوريوس النيسي، في أنهم ليسوا ثلاثة آلهة، P.G. xlv, 133 [🡁]
  14. ضد أفنوميوس، 1: 20 [🡁]
  15. قارن مع ق. باسيليوس، ضد أفنوميوس 1: 13، 14 [🡁]
  16. ق. غريغوريوس النزينزي، خطبة 42: 15؛ خطبة 20: 7؛ ق. غريغوريوس النيسي، عن المفاهيم العامة، P.G. xlv, 180 [🡁]
  17. Louis Berkhof, The History of Christian Doctrines, London, The banner of truth trust, 1969, p. 89, 90. [🡁]
  18. Justo L. Gonzalez, A History of Christian Thought Vol. 1, USA, Abingdon Press, 1987, p. 311. [🡁]
  19. Justo L. Gonzalez, A History of Christian Thought Vol. 1, USA, Abingdon Press, 1987, p. 314. [🡁]
  20. J. F. Bethune-Baker, An Introduction to the Early History of Christian Doctrine, London, Methuen, 1903, p. 211. [🡁]
  21. J. F. Bethune-Baker, An Introduction to the Early History of Christian Doctrine, London, Methuen, 1903, p. 221, 222. [🡁]

كيف تقيّم هذا المقال؟

← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←

المتوسط الحالي حسب تقييمات من القراء

كن أوّل من يقيّم هذا المقال

بما أن المقال أعجبك..

ربما اﻷفضل مشاركته مع دوائرك كي يحظى بانتشار أوسع

من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا

دعنا نعمل على تحسين ذلك

أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟

جزء من سلسلة: مونارخية الآب[الجزء السابق] 🠼 مونارخية الآب في الدراسات الأكاديمية [٣][الجزء التالي] 🠼 مونارخية الآب في الدراسات الأكاديمية [٥]
أنطون جرجس
بكالوريوس اللاهوت اﻷرثوذكسي في   [ + مقالات ]

صدر للكاتب:
ترجمة كتاب: "الثالوث"، للقديس أوغسطينوس أسقف هيبو [٢٠٢١]
كتاب: عظات القديس غريغوريوس النيسي على سفر الجامعة [٢٠٢٢]
ترجمة كتاب: "ضد "، للقديس غريغوريوس النيسي [٢٠٢٣]
كتاب: الطبيعة والنعمة بين الشرق والغرب [٢٠٢٣]
كتاب: مونارخية الآب في تعليم آباء الكنيسة [٢٠٢٤]