المقال رقم 16 من 16 في سلسلة تاريخ الإخوان والسلطة

في صباح يوم 13 يناير عام 1949، وبعد يومان فقط من نشر بيان البنا للناس، قام “” رئيس إحدى خلايا التنظيم السري يحمل حقيبة جلدية بها قنبلة زمنية معدة للانفجار، وذهب بها إلى محكمة الاستئناف بباب الخلق بوسط القاهرة، وأدعى بأنه مندوب من إحدى مناطق الأرياف، جاء بقضايا للعرض على النائب العام، وترك الحقيبة في المكتب في حفظ أحد الموظفين بداخل المحكمة، وذهب بحجة إحضار ساندويتشات لتناول الإفطار.

وبعدما غادر المكتب، بدأت شكوك الموظف تتجه نحو الحقيبة الجلدية، وبالفعل فتحها ليجد بداخلها قنبلة تكاد أن تنفجر، فهرع بها إلى خارج المحكمة محاولًا إنقاذ الأرواح، لكن الوقت لم يسعفه، لتنفجر القنبلة في الشارع وتقتل 25 مواطنًا مصريًا بريئًا بما فيهم الموظف ذاته.

تم القبض على شفيق أنس وأعترف بأن الغرض من التفجير كان نسف المحكمة والتخلص من أوراق ومستندات قضية السيارة الجيب، وكان ذلك بأمر من مسؤول التنظيم، ويقول حول هذا الحادث:

وبعد نجاح السرية في هذا العمل الفدائي، نظر السيد فايز فيما تنسبه الحكومة إلى الإخوان من جرائم باطلة، مدعية أنها تستند في كل ما تدعيه إلى حقائق صارخة في المستندات والوثائق المضبوطة في السيارة الجيب، وكان يعلم يقينًا بكذب هذه الافتراءات، ودليل ذلك ما ذكره بعد أن قرر الاعتراف علي زملائه، واستندت إليه المحكمة في براءة النظام الخاص مما وجه إليه من اتهامات، ولم يساوره شك في أن الحكومة قد زورت وثائق وقدمتها للنيابة لتدين الإخوان بما ليس فيهم من جرائم واتهامات باطلة، فقرر حرق هذه الأوراق، وكون سرية لهذا الغرض بقيادة الأخ شفيق أنس.

وقد رسمت الخطة على النحو الذي ظهر في تحقيقات القضية المسماة زورًا وبهتانًا قضية محاولة نسف المحكمة، وحقيقتها أنها كانت محاولة حرق أوراق قضية السيارة الجيب، وتمكن شفيق أنس من أن يضع حقيبة مملوءة بالمواد الحارقة معدة للانفجار الزمني بجوار دولاب حفظ أوراق قضية السيارة الجيب، إلا أن قدر الله قد مكن أحد المخبرين من ملاحظة شفيق، وهو يترك الحقيبة ثم ينصرف نازلًا على درج المحكمة، فجرى مسرعًا وحمل الحقيبة وجري بها خلف شفيق، الذي أسرع في الجري حتى لا تنفجر الحقيبة على سلم المحكمة أو وسط حشود الداخلين في بهوها، ولما خرج إلى الميدان حذر المخبر من الحقيبة، فتركها فانفجرت في ساحة الميدان دون إحداث خسائر تذكر، وقبض على شفيق.

(محمود السيد خليل الصباغ، ، ص451)

كان لهذا الحادث أسوأ الأثر في نفسية البنا لما سببه له الحادث من حرج شديد وجعل الدنيا تضيق في عينيه، فقد تأكد أن الأمر قد أفلت بالفعل من بين يديه، وألا سلطان له على التنظيم الخاص والقائمين عليه بعد ذلك، خصوصًا أنه علم بالحادثة قبل حدوثها ولم يمنعها، أو لم يستطع أن يمنعها مثلما أدعى، لدرجة أنه انهار في حضور قائلًا؛ ماذا أفعل؟ أأنتحر؟ كيف أصدر بيانًا بالأمس استنكر فيه تلك الأعمال فيأتي هذا الولد ويعمل ذلك؟ ماذا يقولون؟ فنصحه حرب باشا بإصدار بيان آخر يدين فيه الفعلة ويبرأ بنفسه من مرتكبيها، وبالفعل أصدر البنا بيانًا آخر نشره بالصحف وعنوانه؛ ليسوا إخوانًا وليسوا مسلمين، قال فيه بصراحة أنه يعتبر أي حادث من هذه الحوادث يقع من أي فرد سبق له الاتصال بجماعة الإخوان موجهًا إلى شخصه ولا يسعه إلا أن يقدم نفسه للقصاص أو يطلب إلى جهات الاختصاص تجريده من جنسيته المصرية التي لا يستحقها إلا الشرفاء الأبرياء وقد صدر البيان موقعًا عليه من البنا.

كان لبيان البنا أسوأ الأثر على الإخوان المعتقلين، فقد كان صمودهم واحتمالهم للتعذيب يستمد كل صلابته من البيعة التي بايعوها له، فإذا تخلى زعيمهم عنهم وعن فكرة الجهاد كما لقنها لهم، فماذا يبقى؟ ها هو البنا يتهم أخلص تابعيه الذين أقسموا له على المصحف والمسدس يمين الطاعة التامة في المنشط والمكره، يتبرأ من رهبان الليل وفرسان النهار كما وصفهم في السابق، بل ويضطر إلى مديح الحكومة التي تعذب رجاله أشد العذاب، ويقول إنها حريصة على أمن الشعب وطمأنينته في ظل جلالة الملك المعظم، بل ويحرض الشعب على التعاون مع الحكومة للقضاء على هذه الظاهرة الخطيرة، رهبان الليل وفرسان النهار أصبحوا في أخر بيان للشيخ أولئك من العابثين، وجهادهم أصبح سفاسف.

بعد بيان البنا الثاني، توسط محمد صالح حرب لعقد اجتماع آخر بين مصطفى مرعي والمرشد العام، وقرر الوزير أن الأفضل أن يتم اللقاء في بيته على انفراد دون حضور صالح حرب، في هذا اللقاء أبدى البنا أسفه لحادث المحكمة، وكرر طلبه بالإفراج عن المعتقلين، لكن مصطفى مرعي أجابه بحدة؛ معتقلين ايه؟ بقى بعد الحادث ده حد يقدر يتكلم في حاجة؟ أجاب البنا قائلًا المعتقلين ذنبهم إيه مادام واحد مجنون عمل كده؟ فأجاب مصطفى مرعي أن هذا دليل على أن معظم الخطيرين لم يُعتقلوا بعد والسلاح متوفرًا في أيديهم ويجب على البنا أن يرشد الحكومة إليهم مع التعهد بحمايته منهم لو اقتضى الأمر.

فوعده الشيخ بإجراء اتصالات، ثم عاد مرة أخرى ليجتمع بالوزير مطالبًا بالإفراج عن المعتقلين أولًا ليعرف منهم المعلومات المطلوبة حسب قوله، فوجد مصطفى مرعي أن البنا يراوغ، فهو لم يكشف سر أحد من رجاله، فتوقفت الاجتماعات بينهم وبدأت السطور الأخيرة لحياة البنا، ويعترف مسؤول قسم الوحدات في النظام الخاص بانه؛ لو افترضنا أن الجماعة فقدت قدرتها على التحكم في الجهاز الخاص، فلا يمكن إعفاء قيادة الإخوان من مسئولية عدم مساءلة ، وكان من المحتم إبعاده عن منصبه، ولو تم ذلك، لتجنبت الجماعة الهزة التي حدثت في صفوفها.

مقتل البنا

بعد اغتيال ضيقت الحكومة الحصار على البنا، فصادرت سيارة البنا الخاصة واعتقلت سائقه، فحاول البنا تجديد رخصة السلاح الذي كان يحمله لكن طلبه قوبل بالرفض، وتم سحب سلاحه المرخص، وقُبض على شقيقيه الذين كانا يرافقانه في تحركاته، فكتب البنا خطابًا إلى فؤاد شيرين محافظ القاهرة يقول فيه؛ أشعر أني مهدد بالقتل، وأرجو تعيين جندي مسلح لحراستي على نفقتي الخاصة، وحملهم مسؤولية أي عدوان عليه إذا لم يستجيبوا، وبالفعل لم يستجب أحدًا لندائه، هنا أيقن البنا أنه استبقى ليُصفي، وأصبح ينتظر الموت في كل لحظة بعد أن صار عصفورًا في قفص، لأنه لا معنى لأن يعتقل جميع قيادات الإخوان وهم دونه، إلا أن يكون ذلك لأمر يدبر له خاصة، فأعد وصيته وذهب بها ليسلمها إلى صالح حرب باشا في في الليلة التي قتل فيها، وهي الليلة الوحيدة التي خرج فيها من بيته منذ أن شعر بأنه مستهدف.

في الساعة الثامنة من مساء السبت 12 فبراير 1949، كان يخرج من باب جمعية الشبان المسلمين بشارع رمسيس، ويرافقه رئيس الجمعية صالح حرب باشا لوداعه، عندئذ دق جرس الهاتف داخل الجمعية، فعاد رئيسها ليجيب الهاتف، عندما سمع إطلاق الرَّصاص، فخرج مسرعًا ليرى صديقه حسن البنا وقد أصيب بطلقات تحت إبطه وهو يعدو خلف السيارة التي ركبها القاتل، أخذ صالح حرب رقم السيارة ونوعها وكانت فورد ليموزين 9979، وتبين فيما بعد أنها مملوكة لـ فهيم بولس المحامي ومؤجرة لوزارة الداخلية بمبلغ تسعة وأربعين جنيهًا وستمائة وخمسة وستين مليمًا، ليستقلها الأميرالاي محمود عبد المجيد المدير العام للمباحث الجنائية بوزارة الداخلية، كما هو ثابت في مفكرة النيابة العمومية عام 1952.

لم تكن الإصابة خطرة وبقي البنا بعدها متماسك القِوَى كامل الوعي، وقد أبلغ كل من شهدوا الحادث عن رقم السيارة، ثم نقل البنا إلى مستشفى القصر العيني فخلع ملابسه بنفسه، لكنه لفظ أنفاسه الأخيرة في الساعة الثانية عشرة والنصف بعد منتصف الليل أي بعد أربع ساعات ونصف من محاولة الاغتيال بسبب فقده للكثير من الدماء، بعد أن منعت الحكومة دخول الأطباء أو معالجتهم للبنا مما أدى إلى وفاته، ولم يعلم والده وأهله بالحادث إلا بعد ساعتين، وأرادت الحكومة أن تظل الجثة في المستشفى حتى تخرج إلى الدفن مباشرة، ولكن ثورة والده جعلتهم يتنازلون، فسمحت لهم الداخلية بحمل الجثة إلى المنزل بشرط أن يتم الدفن في الساعة التاسعة صباحًا وألا يقام عزاء، واعتقلت السلطة كل من حاول الاقتراب من بيت البنا قبل الدفن من الرجال فخرجت الجنازة والجثمان يحمله النساء، إذ لم يكن هناك رجال غير والد البنا المسن، و باشا الذي ذهب للجنازة نكاية في خصم البنا اللدود، ولم تعتقله السلطات لثقل مركزه.

وحتى الآن لم يثبت من هو المرتكب الحقيقي للحادث، فالقصر يتهم الإخوان الذين تبرأ منهم مرشدهم فانقلبوا عليه بعدما علموا بنيته في تسليم أسلحتهم والخطرين منهم إلى السلطات، والإخوان يتهمون القصر والحكومة بالتخلص من المرشد ردًا على اغتيال النقراشي، لكن الأقرب هو الاحتمال الثاني أن يكون الاغتيال تم بإيعاز من ال شخصيًا على الأرجح، ولم يهدأ الإخوان بعد اغتيال البنا، ووزعوا منشورًا ضد الملك والحكومة موقع باسم دون مواربة، وفي عنوانه؛ حكومة فاجرة تغتال زعيمًا إسلاميًا.

كيف تقيّم هذا المقال؟

← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←

المتوسط الحالي حسب تقييمات من القراء

كن أوّل من يقيّم هذا المقال

بما أن المقال أعجبك..

ربما اﻷفضل مشاركته مع دوائرك كي يحظى بانتشار أوسع

من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا

دعنا نعمل على تحسين ذلك

أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟

جزء من سلسلة: تاريخ الإخوان والسلطة[الجزء السابق] 🠼 أُكِلت يوم أُكِل الثور الأبيض
بيشوي القمص
[ + مقالات ]

صدر للكاتب:
كتاب: ﻻ أحد يتعلّم من التاريخ ٢٠١٧
كتاب: ﻻ أحد يتعلّم من التاريخ [قيصر جديد] ٢٠١٨
كتاب: ﻻ أحد يتعلّم من التاريخ [صراع العروش] ٢٠٢٢
كتاب: ﻻ أحد يتعلّم من التاريخ [العملية ظافر] ٢٠٢٤