- [١] القراءة التقليدية: تفكيك وبناء
- [٢] نشأة الحكم الملكي
- [٣] مملكة داود وهيكل سليمان
- [٤] مملكة يهوذا ومملكة إسرائيل
- ☑ [٥] التقليدان: اليهوي والإيلوهي
- [٦] التقليد الكهنوتي: صراع موسى وهارون
- [٧] التقليد الكهنوتي: طوفان نوح
- [٨] انهيار مملكة يهوذا
- [٩] أسفار التأريخ التثنوي
- [١٠] الإصدار التثنوي الأول [Dtr1]
- [١١] الإصدار التثنوي الثاني [Dtr2]
- [١٢] المفارقة الكبرى والمحرر الأخير
التضاربات التي في التوراة ما بين تقاليدها المختلفة هي أكثر حيوية من مجرد كونها اختلافات شكلية، بل هي تضاربات كاشفة عن وجود أكثر من كاتب. تعكس هذه الاختلافات هوية كاتب التقليد، والزمن المعاصر له، والمكان الذي كتب فيه، واهتماماته الدينية والسياسية.
إحدى الملاحظات على التقليد اليهوي أنه يهتم بقصص الآباء قبل موسى، فأسلافٌ مثل إبراهيم وإسحاق ويعقوب كانوا مهمين في التقليد اليهوي، على عكس التقليد الإيلوهي الذي لا يستفيض في الحديث عنهم. فالتقليد اليهوي لديه رواية عن خلق العالم، وآدم وحواء، ولديه تقليد عن قصة نوح والطوفان، بينما لا يذكر التقليد الإيلوهي شيئًا من هذا، بل يذكر تاريخ ما قبل موسى باختصار، ثم يركز ويكثف على عمل موسى بملء التفاصيل.
لتوضيح الملاحظة السابقة، يمكننا البدء بمثالين مكتوبين في التقليد “اليهوي” لكن لا توجد لهما رواية موازية في التقليد “الإيلوهي”:
– في التقليد اليهوي: كلن مسكن إبراهيم أبو الأنبياء في حبرون [1]، وأقام يهوَه عهده مع إبراهيم، وأن أرض نسله ستمتد من نهر مصر للفرات [2].
هنا نحتاج إلى استدعاء بعض المعلومات التي كنا قد تحدثنا عنها في الحلقات السابقة: مثلًا، أن أرض المملكة في عصر داود كانت تمتد فعلًا من نهر مصر [الذي أوضحنا أنه نهر العريش وليس نهر النيل] إلى نهر الفرات. وكانت حبرون عاصمة مملكة يهوذا التي أتى منها الملك داود. ولذلك اهتم التقليد اليهوي بهذه التفاصيل وبهذه الرواية من الأساس. بينما لا يذكر التقليد الإيلوهي هذا بالكلية ولم يمر حتى على هذه الرواية إجمالًا.
– في التقليد اليهوي: رواية صراع يعقوب مع ملاك الرب [3].
“ملاك الرب”، لقب يطلق على الله في العهد القديم [غالبًا نوع من التخفيف اللغوي لفكرة أن الله ظهر لإنسان]. تقول الرواية أنه بعد طلوع الفجر، طلب يعقوب من “ملاك الرب” أن يباركه. وفي نفس الموقف، تغير اسم “يعقوب” إلى “إسرائيل”. وسمى يعقوب المكان الذي تصارع فيه مع “ملاك الرب”: فنوئيل، والذي يعني: “وجه الله”. كانت مدينة فنوئيل مدينة في أرض إسرائيل، وفي عهد القضاة كان فيها برجًا عاليًا. وقد هدم “يربعل” [جدعون] البرج وقتل سكان المدينة [4]. ثم حصنها “يربعام” عندما انفصل بمملكته عن مملكة الجنوب [5]. أهمل التقليد الإيلوهي كل هذه الرواية وتفاصيلها ولم يذكرها بالكلية.
– أحد أشهر الأمثلة عن التضاربات ما بين التقليدين، هي قصة أرض شكيم [تسمى “نابلس” اﻵن].
أرض شكيم [السامرة]، كانت عاصمة مملكة إسرائيل. ومنها ثار عشرة أسباط ضد رحبعام بن سليمان وأقاموا يربعام بن ناباط ملكًا عليهم [6]. فصارت شكيم عاصمة إسرائيل في عهد يربعام [7]. ويختلف التقليدان في كيفية اقتناء هذه الأرض. التقليد الإيلوهي مقتضب كالعادة ويكتفي بالقول بأن يعقوب قد اشتراها [8]، في حين أن التقليد اليهوي يقول بأن أمير شكيم قام باغتصاب دينة بنت يعقوب، ثم تعلق بها وأرادها زوجة. لم يوافق أبناء يعقوب وعللوا رفضهم بمكر: لا يمكن أن تصير ابنة يعقوب لرجل أغلف، لكن يمكن إتمام الزواج بختن كل ذكر في أرض شكيم. وافق حاكم شكيم وتم ختانه هو وابنه وكل ذكر في أرض شكيم. وفي اليوم الثالث وهم متوجعون، قام شمعون ولاوي بدخول أرض شكيم والناس نيام وذبحوا أهلها ونهبوا الأرض بالثروات والأطفال والنساء والمواشي والدواب وكل ما في الحقل. وعلى هذا فأرض شكيم لم يتم شرائها، لكن تم احتلالها واقتناؤها بالدم [9].
– أحد الاختلافات المهمة في توضيح مصادر التقليدين، اليهوي والإيلوهي، هي قصص ميلاد أبناء إسرائيل [الأسباط].
في التقليد الإيلوهي، ورد ذكر ميلاد كُلٍ من: دان ونفتالي وجاد وأشير وياساكر وزبولون [10]، والذين يُمثّلون أسباطًا في مملكة إسرائيل، وليس مملكة يهوذا. كما يذكر التقليد الإيلوهي ميلاد بنيامين [11]، وإفرايم ومنسى [ولدي يوسف] [12]، والذين ينتمون أيضًا إلى مملكة إسرائيل [باستثناء بنيامين]. أما التقليد اليهوي، فيذكر ميلاد باقي الأسباط: رأوبين وشمعون ولاوي ويهوذا. بالإضافة إلى ذلك، لم يكن لسبط لاوي أرض، كما فقد سبطا رأوبين وشمعون أرضيهما بمرور الوقت، واندمج أبناؤهما مع أراضي الأسباط الأخرى. وبالتالي، فإن السبط الوحيد المذكور في التقليد اليهوي والذي امتلك أرضًا بالفعل هو: يهوذا.
البكورية لمن؟
رأوبين هو أكبر أبناء يعقوب، وكان ترتيب الأبناء في ذلك العصر له أهمية قصوى؛ لأن الابن البكر هو من ينال البركة من أبيه [حق البكورية] ويتولى قيادة الأسرة من بعده. لكن الغريب في الأمر أن رأوبين، الابن البكر، لم يأخذ حق البكورية، لا في التقليد اليهوي ولا في التقليد الإيلوهي. فمن الذي نال البكورية إذن؟
في التقليد اليهوي: نجد رواية عن رأوبين مفادها أنه زنى مع بلهة، خادمة راحيل زوجة يعقوب. والأمر له خلفية أكثر تعقيدًا، فراحيل كانت عاقرًا، مما دعاها إلى أن تطلب من زوجها يعقوب أن يدخل على جاريتها “بلهة” كي يقيم له نسلاً، ووافقها يعقوب. وعليه فإن زنا رأوبين مع بلهة يُعتبر بمثابة زنا المحارم لأنه ضاجع امرأة أبيه. ومثل هذه الحادثة أطاحت باستحقاق رأوبين لحق البكورية. وكان من المفترض أن يُمرر حق البكورية للابن التالي، شمعون، لكن هذا لم يحدث أيضًا. والتقليد اليهوي يبرر هذا بأن شمعون ولاوي قد دخلا أرض شكيم وذبحا أهلها ونهبوها بشكل خسيس [القصة الواردة أعلاه]، وعلى هذا خرج شمعون أيضًا من “حق البكورية” وتم التمرير للابن التالي، لاوي، الذي كان مشاركًا مع شمعون في المذبحة، فيمرر حق البكورية مرة ثالثة للابن التالي. إلى من؟ يهوذا بالطبع. [13].
في التقليد الإيلوهي: نجد أن حق البكورية لم ينله أحد من أبناء يعقوب نهائيًا، بل مرّ لأحفاد يعقوب بشكل مباشر. الرواية ذات صلة بأرض مصر وحدثت في مصر حين ارتحل يعقوب وأبناؤه إلى يوسف وسكنوا في أرض جاسان. يذهب يوسف إلى أبيه يعقوب وهو على فراش الموت، وقدم له -بناءً على طلب مسبق من يعقوب- ابنيه الاثنين: منسى وإفرايم [وكلاهما مصري، وُلِد في مصر، من أم مصرية، بنت كاهن أون: أسنات بنت فوطي فارع]. تقول تفاصيل الرواية إن يوسف وضع ابنه الأكبر، منسى، على يمين يعقوب، ووضع إفرايم على يساره. لكن يعقوب عكس يديه ووضع اليد اليمنى، التي تمثل حق البكورية، على رأس إفرايم، الأخ الأصغر، ووضع اليد اليسرى على رأس منسى، بكر يوسف. يعترض يوسف ويقول لأبيه أن يصحح وضع يديه لأن منسى هو البكر. لكن يعقوب يخبره أنه يعلم ماذا يفعل وأصر على أن تكون البكورية للحفيد الأصغر، إفرايم، المصري الأصل والمولد وحفيد كاهن أون [أون: “عين شمس” حاليًا] من أمه صفنات، رغمًا عن تقاليد بني إسرائيل التي تؤمن بأن الطفل يرث ميراث الأب، ودين الأم [14].
تفسير ما نجده من تضاربات
في كل الأمثلة السابقة، نستطيع أن نرى تفضيلات معيّنة لكل تقليد. يفضّل كلاهما الأسباط والأشخاص والأراضي التي ينتمي إليها أو ينحدر من أصولها. فالتقليد اليهوي: ينحاز معرفيًا إلى الأسباط والأشخاص والأراضي والتفاصيل التي تنتمي لمملكة يهوذا. في حين أن التقليد الإيلوهي ينحاز معرفيًا إلى الأسباط والأشخاص والأراضي والتفاصيل التي تنتمي لمملكة إسرائيل.
في التقليد اليهوي، نال يهوذا حق البكورية من يعقوب. أما في التقليد اللاهوتي الإيلوهي، فقد نال إفرايم، أحد الأحفاد وليس الأبناء، حق البكورية. هل تعلم ما الذي تمثله “إفرايم”؟ إفرايم هي الأرض والسبط الذي ينحدر من نسله يربعام بن ناباط، ملك مملكة إسرائيل. وفي أرض إفرايم تقع شكيم، عاصمة مملكة إسرائيل. يقول التقليد اللاهوتي الإيلوهي أن مدينة شكيم تم اقتناؤها سلميًا عن طريق الشراء، بينما يقول التقليد اليهوي أنها تم اقتناؤها بمذبحة لا أخلاقية. يذكر التقليد الإيلوهي أرض فنوئيل الموجودة بمملكة إسرائيل، بينما لا يهتم التقليد اليهوي بمثل هذه القصة، بل يهتم بفكرة أن حبرون، عاصمة يهوذا، كانت بيت إبراهيم، وأن أرض نسل إبراهيم ستمتد من نهر مصر إلى الفرات [حدود مملكة داود].
هذه الاختلافات توضح أن كاتب التقليد اليهوي كان مهتمًا بمملكة يهوذا ويحاول شرعنة حكمها من خلال نسب حق البكورية ليهوذا، ويحاول التقليل من أهمية أراضي مملكة إسرائيل. أما كاتب التقليد الإيلوهي فكان يفعل العكس، حيث كان يشرعن حكم مملكة إسرائيل من خلال نسب حق البكورية لإفرايم، ويهتم بأراضي مملكة إسرائيل ويتجاهل ذكر أراضي يهوذا.
والأمر لا يتوقف عند هذا الحد ويظل مستمرًا،
في التقليد الإيلوهي: الشخص الذي أنقذ يوسف عندما اتفق عليه أخوته، كان: رأوبين، الابن البكر ليعقوب [15]، لكن في التقليد اليهوَي: كان يهوذا [16].
في التقليد الإيلوهي: يُعظّم شخص مثل يشوع بن نون، من سبط إفرايم، في حين أن في التقليد اليهوَي: يعظم شخص مثل كالب ابن يفنّة، من سبط يهوذا [17].
يتشارك التقليدان في مسألة استعباد شعب إسرائيل في مصر، لكن تسميتهم لمُستعبديهم مختلفة، التقليد اليهوَي يسمي القائم بالاستعباد بانهم: “أصحاب عمل” [18]، في حين أن التقليد الإيلوهي يسميهم: “وُكلاء تسخير” [19]، لماذا وُكلاء تسخير؟ كنا قد أوضحنا سلفا ضجر شعب مملكة الشمال من سليمان بفرضه العمل الإجباري شهرا على كل سبط وأنه استثنى سبط يهوذا، لذا سمى شعب مملكة إسرائيل مشرفين سليمان: “وُكلاء تسخير” في سفر الملوك، وما قام به التقليد الإيلوهي أنه أطلق على مشرفي سليمان نفس المسمى الذي أطلقه على المصريين، غالبًا كنوع من إهانة حكم سليمان [وبالتالي مملكة يهوذا] ورفض سياسته بتشبيهه بفرعون، الشخص الذي أذاق شعب إسرائيل الويلات وبالكاد أفلتوا من يده، على الأقل في الفكر التاريخي.
يتشارك التقليدان في مسألة استعباد شعب إسرائيل في مصر، لكن تسميتهما لمستعبديهم مختلفة. يسمي التقليد اليهوي القائم بالاستعباد بأنهم: أصحاب عمل
[20]، في حين أن التقليد الإيلوهي يسميهم: وكلاء تسخير
[21]. لماذا “وكلاء تسخير”؟ كنا قد أوضحنا سلفًا ضجر شعب مملكة الشمال من سليمان لفرضه العمل الإجباري شهرًا على كل سبط وأنه استثنى سبط يهوذا. لذا سمى شعب مملكة إسرائيل مشرفي سليمان: “وكلاء تسخير” في سفر الملوك. وما قام به التقليد الإيلوهي أنه أطلق على مشرفي سليمان نفس المسمى الذي أطلقه على المصريين، غالبًا كنوع من إهانة حكم سليمان [وبالتالي مملكة يهوذا] ورفض سياسته بتشبيهه بفرعون، الشخص الذي أذاق شعب إسرائيل الويلات وبالكاد أفلتوا من يده، على الأقل في الفكر التاريخي.
ستجد في الترجمات العربية أن كلا التقليدين يسمي المصريين المشرفين على العبيد بنفس الاسم وهذا مخالف للأصل العبري، النص العبري في التقليد الإيلوهي يسمي هذه المهام: "mis-sîm"، وهو نفس الاسم اللي أطلقته مملكة الشمال على ضريبة سُليمان، وهذه التسمية غير موجودة سوى في التقليد الإيلوهي وحده.
النبش وراء هويّة كاتب التقليد الإيلوهي
أحد أهم الأمثلة التي تتعقّب هويّة كاتب التقليد الإيلوهي هي قصة العجل الذهبي [22]، وهي قصة ليس لها ما يوازيها في التقليد اليهوي. تقول الرواية أن موسى صعد الجبل لاستلام لوحي الشريعة، ومعه تلميذه يشوع، بينما ظل الشعب منتظرا أسفل الجبل. وعندما طال الانتظار، طلبوا من هارون أن يصنع لهم تمثالًا من ذهب، وتم عمل التمثال على شكل عجل [ثور صغير]، ويقول النص أنّ هارون:
فأخذ ذلك من أيديهم وصوره بالإزميل، وصنعه عجلا مسبوكا. فقالوا: «هذه آلهتك يا إسرائيل التي أصعدتك من أرض مصر»(سفر الخروج 32: 4)
وهو تقريبًا نفس منطوق النص الذي قاله يربعام لمملكة إسرائيل عندما صنع لهم عجول اللاماسو الذهبية: [23]
فاستشار الملك وعمل عجلي ذهب، وقال لهم: «كثير عليكم أن تصعدوا إلى أورشليم. هوذا آلهتك يا إسرائيل الذين أصعدوك من أرض مصر»(سفر الملوك الأوّل 12: 28)
بافتراش القصتين متجاورتين؛ يحاول كاتب التقليد الإيلوهي هنا عدة أمور مركبة، فهو:
– يهاجم هارون باعتباره الذي سبك العجل. وهارون هو الكاهن الأعلى، والذي يُعتقد أن كهنة حبرون [في يهوذا] هم من نسله، وعلى هذا فهو يهاجم دين مملكة يهوذا.
– في نفس الوقت، يبرئ يشوع لأنه كان مع موسى فوق الجبل ولم يشارك.
– أيضًا -على غير المتوقع- يهاجم الشكل الديني لمملكة إسرائيل، بمماثلة العجلين اللذين تم بناؤهما في دان و”بيت إيل” كبدائل للشيروبيم، بالعجل الذهبي الذي صنعه هارون والذي تمت مهاجمته.
فمن يكون الكاتب ذو الهوية المعقدة الذي يهاجم الجميع؟
هناك مجموعة من مملكة إسرائيل، تتوافق هذه التركيبة مع أفكارها، وهم: كهنة شيلوه، ﻻ سواهم.
كهنة شيلوه تم رفضهم وطردهم من أورشليم [مملكة يهوذا] فارتحلوا إلى مملكة إسرائيل، لذا يهاجمون مملكة يهوذا في مهاجمة شخص هارون. وفي نفس الوقت فالملك يربعام، ملك إسرائيل الشرعي، الذين يسكنون مملكته، لم يسمح لهم بالخدمة في “بيت إيل”. لذا فإن الكاتب يشرعن الموقف السياسي لمملكة إسرائيل لكنه يرفض تصورها الديني الذي استبعده من الخدمة. وهذا يعني أن كاتب النص غالبًا كان كاهنًا من كهنة شيلوه في مملكة إسرائيل.
استكمالًا لما سبق في قصّة موسى وعجل هارون: نزل موسى ويشوع من الجبل وشاهدا العجل. يكسر النبي موسى لوحيّ الشريعة، وتحدث مذبحة يقتل الكهنة فيها كثيرٌ من الشعب بسبب عبادة العجل الذهبي، لكن هارون ﻻ يُقتل، لأنه ﻻ يمكن بناء تاريخ يكون فيه الكاهن الأعلى مقتول بهذا الشكل المخزي في فترة مبكّرة من تاريخ الشعب. لذا فالكاتب يهاجمه لكن إلى حدٍ معيّن ﻻ يطيح به، أو ربما ﻻ يستطيع قتله في الرواية لأن كهنة حبرون يعتقدون أنهم من نسله وليس من العقل إغضابهم بجريمة تزوير واضحة في إنحيازاتها حتى وإن كان شفاهة.
ربما يكون السؤال الأولى بالبحث حوله هو: كيف يكتب الكاتب أن موسى كسر لوحيّ الشريعة، المنقوشين بإصبع الله؟ لماذا يفعل؟
مملكة إسرائيل ليس فيها تابوت العهد، بل يشكّل بالنسبة لها منافسًا مزعجًا يجعل الإسرائيليون يحجّون إلى أورشليم في مملكة يهوذا كما أسهبنا، لذلك ربما تكون قصة كسر لوحيّ الشريعة نوعا من التشكيك في مصداقية معبد أورشليم ومقدسات مملكة يهوذا، فكسر اللوحين يعني أن التابوت فارغ، أو أن اللوحين بداخله ليسا أصليين، أو نسخة ثانية. مع التوكيد أن التقليد اليهوي يذكر فقط أن موسى أخد لوحي الشريعة من الله، لكن ﻻ يذكر مسألة كسره، وﻻ قصة بناء العجل الذهبي المؤدي للكسر من الأساس، وإﻻ سيكون في هذا إهانة لهارون، الكاهن الأعلى [24].
ثُمَّ قَالَ يَهْوّه لِمُوسَى: «انْحَتْ لَكَ لَوْحَيْنِ مِنْ حَجَرٍ مِثْلَ الأَوَّلَيْنِ، فَأَكْتُبَ أَنَا عَلَى اللَّوْحَيْنِ الْكَلِمَاتِ الَّتِي كَانَتْ عَلَى اللَّوْحَيْنِ الأَوَّلَيْنِ اللَّذَيْنِ كَسَرْتَهُمَا.(سفر الخروج 34: 1)
الكلمات التي باللون الأزرق لم تكن ضمن التقليد اليهوي، والأرجح أن أضافهما مُحرر لاحق في مرحلة جمع التقليدين اليهوي والإيلوهي في كتاب واحد. وفي توافق مع ما سبق، نجد أن تابوت العهد مذكور في التقليد اليهوي دون ذكر في التقليد الإلوهيمي.
ملاحظة قلناها وتحتاج اﻵن تدقيقًا أعلى: [التقليد اليهوَي يسمي الألوهة يهوَه، لكن التقليد الإيلوهي يسميها إيلوهيم]، لكن ليس الحال دائمًا هكذا، الوصف الأدق أن التقليد اليهوي دائمًا يسمي الألوهة يهوَه، لكن التقليد الإيلوهي كان يسميها إيلوهيم حتى حدث مُعين، ومن بعده بدأ يستعمل اسم يهوَه بشكل طبيعي. وهذا الحدث هو ظهور الله لموسى في العلّيقة حين كشف الله اسم "يهوه" لموسى [25]، ومن بعد هذا الحدث، بدأ التقليد الإيلوهي في استخدام اسم يهوَه بشكل طبيعي.
لماذا تحوّل التقليد الإيلوهي هكذا؟ يرى بعض المؤرخين أن حدث الخروج حدث بسيط تم تضخيمه، وأن كل شعب إسرائيل لم يكن في مصر لكن جماعة صغيرة منهم هي التي كانت، وهَرَبَت، وأنّ بقيّة شعب إسرائيل الذين في زمن الكاتب لم يكونوا في مصر لكن كانت في أراضيها بشكل طبيعي، بينما الجماعة الذين كانوا في مصر غالبًا هم من أصبحوا فيما بعد معروفين باسم سبط لاوي. وهذا يفسّر حمل شخصيات هذا السبط لأسماء مصرية وليست عبرية، الخارجون من مصر كانوا يعبدون يهوه، لكن البقية في إسرائيل كانوا يعبدون إيل [إله الكنعانيين].
وعلى هذا، يبدو أن الكاتب هنا حاول أن يقول أن الإلهين في الحقيقة إله واحد، بنفس الوتيرة التي وضحناها في فكرة “إله نظير” لشعب ما عند شعب آخر، وكيف أن هذا يساعد في تأقلم الشعبين أو الجماعتين مع بعضهما البعض، وفيما بعد، أصبح اللاويين هم الكهنة الرسميين، لكن لم يكن لهم أرض مميزة كباقي الأسباط، ومحظور عليهم ملكية الأرض. وكانوا موزّعين على أسباط إسرائيل للقيام بخدمة الكهنوت مع الحصول على حصة من العشور والبكور والنذور والتقدمات والذبائح.
وما سبق يمكن تفسيره بأن كاتب التقليد الإيلوهي غالبًا كاهن من كهنة شيلوه، من مملكة إسرائيل، عاش في زمن يربعام بن ناباط أو بعده، لكنه عاش قبل انهيار مملكة إسرائيل تحت مملكة آشور، وفي فترة القرنين من زمن يربعام وحتى 722 قبل الميلاد وقت سقوط مملكة إسرائيل. من الصعب تحديد فترة زمنية أكثر دقة.
على الجانب الآخر، كاتب التقليد اليهوَي كان من مملكة يهوذا، هويّته غير محددة، البعض يقترح احتمالية كونها كاتبة أنثى عبر الاستدلال على سعة إطلاع من يكتب بشؤون النساء والتعاطف معهن كما في قصّة تامار ومحاولة تبرئتها [26]، لكن هذا ﻻ يعد دليلًا أن الكاتب امرأة بقدر ما هو دعوة لعدم التسرع في الاستنتاج أن الكاتب رجل، قد يكون امرأة. المهم أن من كتب هذا التقليد قد عاش في نفس الحقبة التي كُتب فيها التقليد الإيلوهي، وﻻ نستطيع التحديد الدقيق من منهم كُتب أولًا، أو إن كان أحدهم على علم ومعرفة باﻵخر، أو اطلع على ما كتبه الآخر أم ﻻ. لكننا عرفنا ما يكفي لتحديد فترة زمنية معينة ومكان كل تقليد مع أهدافه وميوله السياسية والدينية.
عندما انهارت مملكة إسرائيل، هرب من عاش منها إلى مملكة يهوذا في الجنوب، وحملوا معهم تقليدهم الخاص [التقليد الإيلوهي]، لكن وجود تقليدين متضاربين، ومختلفين، وكل تقليد منهم يهاجم شخصيات وأراضي وأحداث يحترمها ويجلّها التقليد الآخر، لن يكون عاملًا مساعدًا على تأقلم الجماعتين بشكل سريع يسمح بالجمع المتداخل الذي بين أيدينا. وفي الوقت نفسه ﻻ يمكن التخلص من أحدهما لأن التخلّص من تقليد ما، يهدد إستقرار وآمال وتطلعات ورؤية الجماعة التي تتبناه. وما حدث يمكن إختصاره في أن: بعد فترة تسمح بالتفاهم السلمي، تم دمج التقليدين في كتاب واحد ومحاولة التوفيق بينهما، والتقليد الذي نتج من ذلك سماه المُحققون: المصدر JE.
كيف تقيّم هذا المقال؟
← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←
المتوسط الحالي حسب تقييمات من القراء
كن أوّل من يقيّم هذا المقال
من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا
دعنا نعمل على تحسين ذلك
أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟
نحاول تخمين اهتماماتك… ربما يهمك أن تقرأ أيضا:
- لماذا ﻻ نقول بوراثة الخطية مِنْ أَجْلِ ذلِكَ كَأَنَّمَا بِإِنْسَانٍ وَاحِدٍ دَخَلَتِ الْخَطِيَّةُ إِلَى الْعَالَمِ، وَبِالْخَطِيَّةِ الْمَوْتُ، وَهكَذَا اجْتَازَ الْمَوْتُ إِلَى جَمِيعِ النَّاسِ، إِذْ أَخْطَأَ الْجَمِيعُ (رسالة بولس إلى رومية 5: 12) واضح أن آدم هو الذي أخطأ وليس ذريته ولذلك قال الوحي ”إنسانٍ واحدٍ“ والخطية تؤدي إلى الموت لأنها انفصال عن حياة الله وقداسته ”وبالخطية الموت“. “وهكذا اجتاز الموت......