- ☑ [١] القراءة التقليدية: تفكيك وبناء
- [٢] نشأة الحكم الملكي
- [٣] مملكة داود وهيكل سليمان
- [٤] مملكة يهوذا ومملكة إسرائيل
- [٥] التقليدان: اليهوي والإيلوهي
- [٦] التقليد الكهنوتي: صراع موسى وهارون
- [٧] التقليد الكهنوتي: طوفان نوح
- [٨] انهيار مملكة يهوذا
- [٩] أسفار التأريخ التثنوي
- [١٠] الإصدار التثنوي الأول [Dtr1]
- [١١] الإصدار التثنوي الثاني [Dtr2]
- [١٢] المفارقة الكبرى والمحرر الأخير
التوراة هي الكتب (الأسفار) الخمسة الأولى في العهد القديم عند اليهود والمسيحيين في الكتاب المقدس. الكتاب الأول هو: التكوين، الثاني هو: الخروج، الثالث هو: الأحبار [الكهنة / اللاويين]، الرابع هو: العدد، والخامس والأخير هو: سفر تثنية الاشتراع.
في النظرة التقليدية لكتابة التوراة، تُنسب الأسفار الخمسة إلى النبي موسى، وتُسمى: أسفار موسى الخمسة [بنتاتوخ]. والإشكالية الوحيدة التي لاحظتها النظرة التقليدية هي أنه في نهاية سفر التثنية يرد ذكر موت موسى. وكان الحل الذي قدمته النظرة التقليدية أن موسى كتب الأسفار الخمسة باستثناء الفصل الأخير من سفر التثنية الذي كتبه تلميذه “يشوع بن نون” وسجل فيه موت معلمه موسى. تلك هي النظرة التقليدية لكتابة التوراة، وهي نظرة بسيطة وسلسة للغاية. الكاتب هو شخص واحد، وهو النبي موسى، والفصل الأخير فقط هو إضافة من تلميذه.
بمرور الوقت، ومع قراءة التوراة بتدقيق، بدأ بعض القراء في ملاحظة إشكاليات أخرى غير إشكالية موت موسى، ولم تتعامل النظرة التقليدية معها بشكل مُرضٍ، حتى لو اعتبرنا أن حل إشكالية موت موسى بأن الكاتب الأخير هو “يشوع بن نون” حلًا مرضيًا بالأساس. فالأسلوب الأدبي الذي كُتب به الفصل الأخير من التثنية لا يختلف عن بقية السفر، ولا توجد أي قرينة تدعونا للقول بأن الإصحاح الأخير مكتوب بأيد مختلفة عن بقية السفر. لماذا لا يكون يشوع بن نون هو الكاتب الأخير لكل الأسفار الخمسة مثلًا؟
إحدى الإشكاليات الأُخرى أن التوراة على سبيل المثال تصف موسى باعتباره أكتر الرجال تواضعًا على الأرض، لذا ﻻ يوجد منطق في كون نبيّ متواضع يصف نفسه بمثل هذا الوصف، والأرجح عقلًا أن يكون وصفه أخر، ومن ثمّ فالكتابة من شخص آخر.
الإشكاليات التي لاحظها القُراء في التوراة تُحل إن لم يتم التمسك بالنظرة التقليدية التي تُظهر أن موسى كتب التوراة. لكننا سننحي النظرة التقليدية جانبًا محاولين تتبع الإشكاليات التي لاحظها القُراء والنقاد. ذلك لأن نفس الإشكاليات التي أظهرت أن موسى ليس الكاتب، قد استطاعت بشكل ما أن ترشدنا إلى الكاتب الحقيقي للتوراة.
إحدى الإشكاليات في التوراة أيضًا وجود تضارب في عدة قصص. على سبيل المثال، نجد السردية تقول بأن الحيوانات التي ستدخل الفلك ستكون زوجين من كل نوع، ثم بعدها تقول السردية سبعة أزواج من الحيوانات الطاهرة وزوجين فقط في حالة الحيوانات غير الطاهرة، أي ليس زوجين من كل الأنواع إذن. يمكن إيجاد تضاربات مثل هذه طوال الوقت في التوراة، وهي تقودنا إلى إشكالية الـ Doublets، أو يمكننا ترجمتها باسم “إشكالية الثنائيات”، وهي أن تكون القصة مكتوبة مرتين وليس مرة واحدة.
أحيانًا تُذكر القصتان تباعًا بشكل متتالي، كما في قصة الخلق، التي ذُكرت مرة في الإصحاح الأول من التكوين ومرة ثانية في الإصحاح الثاني. وأحيانًا تكون القصتان متداخلتين مع بعضهما البعض، كما في قصة نوح والطوفان. وأحيانًا تُذكر القصتان مرتين، كل واحدة منهما في حدثٍ وسياقٍ مختلفين، وكأنهما قصتان مستقلتان في أزمنة مختلفة، كما في قصة ضرب موسى للحجر لإخراج الماء، التي ذُكرت مرة في سفر الخروج ومرة ثانية في سفر العدد. تُعد إشكالية الثنائيات شائعة في التوراة، وخاصة في سفر التكوين، بدءًا من قصة الخلق مرورًا بقصة نوح وصولًا إلى قصص إبراهيم وإسحاق ويعقوب وأخيرًا يوسف وإخوته.
إشكالية الثنائيات هي ليست مجرد ذكر متكرر لقصةٍ مرتين، بل غالبًا ما تختلف القصتان في التفاصيل إلى حد التناقض. أحيانًا تختلفان في أسلوب الكتابة، وفي أحيان أخرى في اهتمامات الموضوع. أشهر اختلاف واضح بين القصص في الثنائيات أن تجد في مرة يُكتب فيها عن الألوهة بكلمة “الله” [“إيلوهيم” في العبرية]، ومرة أخرى يُكتب باسم “يهوه”، والذي يُترجم عادةً إلى “الرب”. نلاحظ أن القصة التي استخدمت لفظ “إيلوهيم” لا تستخدم لفظ “يهوه”، والعكس صحيح أيضًا. في قصة الخلق على سبيل المثال، في الإصحاح الأول، تُسمى الألوهة “إيلوهيم”. وفي الإصحاح الثاني، تُسمى “يهوه”. ويستمر نفس النمط في ثنائيات كثيرة جدًا في سفر التكوين.
هذه الاختلافات والتضاربات لم تُوضح فقط أن الكاتب ليس هو موسى وحسب، بل بدأت توضح لنا بعض الأنماط التي تشكّل أدلة وقرائن حول الكتبة الحقيقيين للتوراة. مشكلة الثنائيات تحديدًا كشفت أن الكاتب ليس واحدًا بل اثنين، أحدهما يستخدم دائمًا اسم “يهوه”، والثاني يستخدم دائمًا اسم “إيلوهيم”. وتم تسمية مجموع القراءات التوراتية التي تحمل نمط كتابة محدد باسم الألوهة المستخدمة. أي إن نمط الكتابة باستخدام “يهوه” يسمى “المصدر اليهوي”، ويُختصر في اللاتينية بالمصدر Y أو J. [1]. أما المصدر الثاني الذي يستخدم اسم إيلوهيم فقد تم تسميته “المصدر الإيلوهي” [2]، ويُختصر في اللاتينية بالمصدر E من كلمة Elohim.
مع استمرار الدراسات، اكتشف الدارسون أن مادة كبيرة جدًا من المصدر الإيلوهي في الحقيقة ليست مصدرًا واحدًا فقط، ولا كاتبًا واحدًا بالتبعية، بل هي مصدران بكاتبين على الأقل. واكتشفوا أن بعض القصص لم تكن ثنائيات فقط بل وجدت أيضًا [Triplets] ثلاثيات. واكتشفوا وجود تضاربات داخل نفس المصدر واهتمامات مختلفة بمواضيع الكتابة وأساليب أدبية مختلفة. وعندما اتضح أن المصدر الإيلوهي مصدران لم يستطيعوا التمييز بينهما في البداية لأن كلاهما يسمي الإلوهة باسم “إيلوهيم”، ثم فيما بعد تم الوصول إلى أن المصدر الجديد الذي يحتويه المصدر الإيلوهي يهتم جدًا بتفاصيل العبادات والشعائر والطقوس والذبائح والتشريعات. أي أن اهتمامات المصدر كانت كلها كهنوتية من الدرجة الأولى، ولذا تم تسمية المصدر الثالث المكتشف باسم “المصدر الكهنوتي” أو المصدر P، من كلمة Priest بمعنى كاهن.
كل هذا ينطبق فقط على الأسفار الأربعة الأولى: التكوين والخروج والأحبار والعدد، لكن لا ينطبق على سفر “تثنية الاشتراع”، الذي يمتاز بأسلوب مختلف تمامًا عن الأسفار الأربعة الأولى. ربما يكرر بعض التشريعات، لكن أسلوبه مختلف ومفرداته مختلفة، ولا يتسم بأي مما اتسمت به المصادر السابقة باستثناء بعض النصوص التي تنتمي إلى خصائص المصدر الكهنوتي لا أكثر. إذن سفر “تثنية الاشتراع” ببساطة له مصدر خاص منفرد تم تسميته بالمصدر التثنوي أو المصدر D من كلمة Deuteronomy بمعنى التثنية.
هذا النوع من القراءة والنقد والتفكيك والتحليل للنصوص أوضح لنا أن السؤال الصحيح ليس: “من هو كاتب التوراة؟”، بل السؤال الصحيح هو: “من هم كتبة التوراة؟”.
على البناء السابق، أصبح لدينا أربعة كتبة على الأقل. تُرى، من منهم كتب أولًا ومن تلاه؟ هل كان الكتبة يعرفون بعضهم البعض؟ هل اعتمد الواحد منهم على الآخر في الكتابة؟ تُرى متى عاشوا؟ وأي أحداث عاصروها وكتبوا عنها؟ وكيف شكلت الأحداث لغتهم وأسلوبهم في الكتابة؟ وكيف يساعدنا كل هذا على فهم كتاباتهم بشكل أعمق؟ هل يمكننا معرفة لماذا كتبوا في الأساس؟ ومن هو الذي جمع كتابات هذه المصادر الأربعة ووضعها في كتاب واحد متسلسل كما الذي بين أيدينا الآن؟ هل كانوا يعلمون أن ما يكتبونه سيجمع إلى جوار بعضه البعض؟ هل كان لديهم أي نوع من الوعي أو الإدراك أن كتاباتهم في النهاية ستُسمى: الكتاب المقدس؟
النظرية، أو الفرضية التأريخية، التي تساعدنا على إجابة مثل هذه الأسئلة فيما يخص التوراة اسمها: Documentary Hypothesis أو “الفرضية الوثائقية”، أو باختصار DH. تشكلت هذه الفرضية من خلال ملاحظات وسقطات ونجاحات المؤرخين والنقاد عبر العصور المختلفة. وأهم من أضاف لتشكيلها كان المؤرخ والباحث التوراتي الألماني يوليوس فلهاوزن، وطوّرها آخرون بعده، إذ لم تكن كل أطروحات “فلهاوزن” متناسقة مع الملاحظات والأدلة.
أيّ نظرية أو فرضية أو فكرة أو طرح فلسفي أو تأريخي أو علمي، ﻻ تستطيع تقديم كل الإجابات على كل الأسئلة. لكنها تساعدنا على إجابة مجموعة جيّدة من الأسئلة، وبجمع معظم الملاحظات، ووضعها في إطار متناسق نستطيع من خلاله تكوين نظرة ﻻ بأس بها لتاريخ الشعب العبراني في العصور القديمة، ولكيفية تكوين وفهم التوراة في إطارها التاريخي والثقافي بشكل أكتر انضباطًا من القراءة الاعتباطية أو التلقائية غير الأكاديمية.
أهم ما تم توضيحه في هذا المقال هو أنه من الآن فصاعدًا لن نقرأ التوراة باعتبارها كتابًا واحدًا لمؤلف واحد، بل باعتبارها مجموعة كتب لمجموعة كتبة متعددين ومتنوعين، ولكل واحد منهم غالبًا اهتمامات وأهداف مختلفة ساقته للكتابة، وبالتالي معانٍ مختلفة كليًا للقراءة. هذه النظرة ستغير في فهمنا لأمور متعددة، وسنجتهد في توضيحها في الحلقات القادمة لبقية السلسلة، بشكل غير ممل وفي الوقت نفسه غير مُسرف في السطحية قدر الإمكان.
كيف تقيّم هذا المقال؟
← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←
المتوسط الحالي حسب تقييمات من القراء
كن أوّل من يقيّم هذا المقال
من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا
دعنا نعمل على تحسين ذلك
أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟
نحاول تخمين اهتماماتك… ربما يهمك أن تقرأ أيضا:
- [١٠] الإصدار التثنوي الأول [Dtr1] من الواضح أن الكاتب ليس من الملوك أو العائلة الملكية، إذ بالنهاية فالأحكام تضع كثيرًا من القيود على الملك، وعلى الجانب الآخر، الأحكام تعطي مميزات للكهنة واللاويين، الكاتب هنا من الكهنة. لكن، أيّ مجموعة من الكهنة؟...