- ☑ كانت أديرة مقفرة وكنيسة تبحث عن بوصلتها
- الدور العلماني الذي كان
كانت الأرض خربة وخالية، على غرارها كانت غالبية الأديرة القبطية حتى بدايات القرن التاسع عشر، بالكاد يسكن كل واحد منها نُفر من الرهبان الشيوخ، منقطعين عن العالم، والدروب إليهم محجرة وغير ممهدة، كانت الحكايات عنهم تشبه الأساطير، والحياة فيها بسيطة وقاسية، يلفها الغموض، تتواتر حولها حكايات عن السحر وعن القداسة، بآن واحد، خاصة أديرة الصعيد العتيقة. باستثناء دير الأنبا أنطونيوس بالصحراء الشرقية البحر الأحمر، ودير المحرق بأسيوط إذ كانا مأهولين بالرهبان.
شهدت القرون المتأخرة زيارات متقطعة من المستشرقين المولعين بكل ما هو مصري، لم تكن الآثار الفرعونية وحدها التي ينقبون عنها، بل كانوا يبحثون عن المخطوطات القبطية بين الأديرة، لم يكن الشيوخ البسطاء يدركون قدرها، فهي مكتوبة باليونانية أو القبطية، وكلاهما انقطع عنها لساننا، إلا ما احتفظت به الصلوات الليتورچية وألحانها، وحتى هذه نحفظها، ولا يقرأها عن فهم كلغة إلا القليل. وهو ما سهل على الرحالة الاستيلاء عليها بحيل مختلفة، وإن أودعوها متاحف ومكتبات الجامعات الكبرى لتجد حقها في البحث والدراسة.
كان لهذا أثره على الكنيسة خارج نطاق الأديرة وقد أوكلت إدارتها للمختارين من الرهبان، ربما لهذا كانت الإيبارشيات تضم أكثر من محافظة أو مديرية بوصف ذاك الزمان، ولم يزد عدد المطارنة والأساقفة عن ثمانية عشر حتى حبرية البابا كيرلس السادس.
لكن هذا لا ينفى مجهودات عديدة قامت بها الكنيسة لمعالجة هذا التراجع والكمون، ولعل أشهر من تصدى لهذا البابا كيرلس الرابع فأستحق أن يدعى “أبو الإصلاح” فشرع في بناء سلسلة من المدارس العامة عرفت بمدارس الأقباط الكبرى، وسبق قاسم أمين في إتاحة الفرصة لتعليم البنات بما يزيد على الثلاثة عقود.
وكانت مدارسه تقبل التلاميذ من كل المصريين بلا تفرقة، وتخرج فيها أعلام سياسية منهم على سبيل المثال رؤساء الوزراء عبد الخالق ثروت باشا، وحسين رشدي باشا، فضلًا عن الوزراء عبد الحميد مصطفى باشا وزير المالية، محمود عبد الرازق باشا وزير الداخلية، وإسماعيل حسين باشا وزير المعارف (التربية والتعليم).
واستقدم ثالث مطبعة بعد مطبعة الحملة الفرنسية ومطبعة بولاق التي أسسها محمد علي باشا باني مصر الحديثة، واحتفى باستقبالها بطقوس الفرح يتقدمها الكهنة والشمامسة.
فعل كل هذا رغم سني حبريته القليلة (1853 ـ 1861م)، وكانت وفاته محل ريبة، وإشارت بعض أصابع الاتهام إلى الحرس القديم.
يوثق تاريخ الكنيسة تأسيس البابا يوأنس التاسع عشر عام 1929م، مدرسة الرهبان بحلوان في خطوة عملية، تنتقي من كل دير عناصر رهبانية يرى فيها إمكانية صقل أذهانها بعلوم الكنيسة والعلوم المدنية؛ الفلسفة والمنطق وغيرها، وتستهدف أمرين:
أولهما إتاحة مساحة زمنية معرفية لطلابها للتحول من الثقافة المنعزلة النسكية إلى التعاطي مع الكنيسة خارج الأديرة وتفهم احتياجات الرعية فيها.
وثانيهما أن يظل التعليم الإكليريكي بعيدًا عن الأديرة الساعية لتعميق توجهها النسكي الذي تعمقه بالتلمذة على شيوخها، حسب التقليد الرهباني، وحتى لا يُحارب قاطنيها بفكر التبرم من عزلتهم وسعيهم للخدمة في العالم، تأكيدًا لتعليم مؤسسي الرهبنة بالفصل بين الرهبنة والكهنوت، ولعل هذا يفسر لنا فكرة قس الإسقيط الذي كان يجوب أديرة البرية على فترات متباعدة لعمل قداس لرهبانها الذين انقطعوا عن العالم.
أثمرت المدرسة عددًا غير قليل من أحبار الكنيسة خلال القرن العشرين، الذين صاروا أعمدة في الخدمة الطقسية والتعليمية والرعوية، منهم البابا يوساب الثاني (الـبطريرك 115)، والبابا كيرلس السادس (الـبطريرك 116)، والأنبا مرقس، مطران أبوتيج وطهطا، الأنبا ميخائيل، مطران أسيوط، والأنبا كيرلس، مطران البلينا، والأنبا ثاؤفيلس، أسقف ورئيس دير السريان، والأنبا أنطونيوس، مطران سوهاج والمنشاة، والأنبا بطرس، مطران أخميم وساقلته، والأنبا مينا، مطران جرجا، والأنبا مكسيموس، مطران القليوبية ومركز قويسنا، والأنبا إسطفانوس، مطران أم درمان وعطبرة، والأنبا مكاريوس، أسقف قنا ونقاده وقوص، والأنبا فيلبس، مطران الدقهلية وبلاد الشرقية. [1]. وكلهم كانوا أعلامًا في العلوم الكنسية، عقيدة وطقس وتاريخ، وفي أدارة إيبارشياتهم، حكمة وعلمًا وأبوة.
ويسجل التاريخ أن أحد خريجي هذه المدرسة الراهب القس إقلاديوس الأنطوني (البابا يوساب الثاني فيما بعد) أوفده البابا كيرلس الخامس في بعثة علمية إلى أثينا سنة 1902 حيث درس في جامعتها اللاهوتية أربعة سنين أتم في نهايتها دراسته وحصل على إجازتها العلمية، وقد أجاد اللغتين الفرنسية واليونانية إلى جانب اللغتين القبطية والعربية.
وحسب سيرته الموثقة؛ عاد محملًا برؤية مستنيرة، انعكست على قراراته حين اُختير لقيادة الكنيسة، فيذكر عنه اهتمامه بالأديرة وسعيه لرفع مستوى الرهبنة، ودعمه لمدرسة الرهبان بحلوان، وتصدى بجسارة وحكمة لسعي وزارة التربية والتعليم الاستيلاء على المبنى المقام على أرض الأنبا رويس بالعباسية والاستفادة منه، إذ سارع بدعوة المجلس الملي للانعقاد في جلسة طارئة برئاسته وانتهى معهم إلى قرار بنقل المدارس الإكليريكية من مقرها بمهمشة إلى المبنى الجديد (1953) في ظرف 24 ساعة من القرار، وافتتح معه القاعة اليوسابية [قاعة الأنبا رويس حاليًا]، ثم افتتح المعهد العالي للدراسات القبطية (1954).
وشهدت حبريته صدور العديد من الكتب والمجلات القبطية، وامتدت خدمته إلى جَنُوب إفريقيا وإثيوبيا والسودان ولبنان، وسعى لدى الدولة لمنح الأقباط من موظفي الحكومة إجازات رسمية في أعيادهم، ونجح في إقرار خمسة أيام متفرقة إجازة لهم في مناسبات دينية مسيحية مختلفة، وإقرار السماح لهم بالتأخر ساعتين صباح كل يوم أحد لحضور القداس.
[2]
وهو الأمر الذي يحاصر ما تم ترويجه عنه من مثالب وأخطاء.
تعثرت مدرسة الرهبان بحلوان لأسباب مختلفة، إدارية في الغالب، وتعطلت سنة 1961 بعد أن استمرت في العمل نحو ثلاث عقود وأُجلِي الرهبان عنها، وجُعِلت غرفها نزلًا للطلبة المغتربين وبعض موظفي المصانع القريبة من حلوان، وحين قرر البابا كيرلس السادس إقامة إيبارشية حلوان جعل مبنى المدرسة مقرًا لأسقف حلوان، في ١٠ مايو ١٩٦٧م، عندما تم سيامة القمص إقلاديوس الأنطوني (الأنبا بولس) كأول أسقف لهذه الإيبارشية الجديدة.
في تصريحات للأنبا ميخائيل، أسقف حلوان الجديد في حفل تجليسه، رصدتها الصحفية تريزة شنودة، أعلن عن إعادة تدشين مدرسة حلوان للعلوم اللاهوتية التي كانت متوقفة لعدة سنوات، وقال: دعونا نركز على الاهتمام بالتعليم والرعاية من خلال إعادة تدشين مدرسة حلوان للعلوم اللاهوتية التي تخرج منها العظماء من الرهبان والأساقفة وأبرزهم المطران الراحل الأنبا ميخائيل مطران أسيوط السابق
. وأكد أن؛ هذه المدرسة ستكون بَذْرَة للتعليم اللاهوتي للخدام والشباب والكهنة لأن في التعليم استنارة.
[3]
جرت في نهر الكنيسة مياه كثيرة، ما بين مد وجزر، وواجهت تحولات عاتية داخلها وخارجها، سنعرض لها في جزء تال من هذا الطرح الذي قد يجيب على السؤال الحائر: ماذا حدث لنا حتى صرنا لما نحن عليه، من تراجعات وصدامات وربما صراعات، عند قمة الهرم الكنسي وسفحه، تشهد عليها ساحات العالم الافتراضي، بالمخالفة لما كان ينبئ به الحراك الكنسي الذي نقترب بحذر منه؟
كيف تقيّم هذا المقال؟
← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←
المتوسط الحالي حسب تقييمات من القراء
كن أوّل من يقيّم هذا المقال
من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا
دعنا نعمل على تحسين ذلك
أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟
صدر للكاتب:
كتاب: العلمانيون والكنيسة: صراعات وتحالفات ٢٠٠٩
كتاب: قراءة في واقعنا الكنسي ٢٠١٥
كتاب: الكنيسة.. صراع أم مخاض ميلاد ٢٠١٨