مِلَفّ اللاجئين في مصر واحد من الأمور التي تثير الجدل بين قطاعات كبيرة من المواطنين وبقايا التيارات السياسية التي لدينا، وتنقسم المواقف من اللاجئين إلى اتجاهين إما الرفض القاطع لوجودهم والمطالبة بترحيلهم، أو الترحيب الزائد عن اللازم، وكلاهما خطأ، إضافة إلى موقف الدولة المتسبب في هذا الجدال بسبب عدم تحديد قواعد قانونية واضحة لاستقبال اللاجئين من الدول المختلفة التي تعاني من مشاكل وحروب حولنا، والإصرار على عدم المهنية من قبل الحكومة المصرية بوصفهم بـ”ضيوف مصر”، فلفظة “ضيوف” ليس لها محل من الإعراب في القانون الدولي والاتفاقيات والعهود الدولية، ولكن لفظة “لاجئين” هي اللفظة الرسمية.
بداية حركة الهجرة واللجوء للبشر ممتدة عبر التاريخ، وليس فقط في التاريخ المعاصر، وفي جميع أرجاء الكوكب، وفي النصف الأول من القرن العشرين مع اندلاع الحربين الأولى والثانية، كانت مصر قبلة لعديد من الجنسيات مثل الأرمن، واليونانيين والإيطاليين، ومن بلاد الشام، وغيرهم من دول أوروبا المختلفة، واحدة من اللقطات الرائعة في السينما المصرية التي أبرزت هذا التنوع في فيلم “رسائل البحر” لشاعر السينما المصرية المخرج داود عبد السيد، حينما أراد “يحيى” بطل الفيلم أن يعرف ما في الرسالة التي وجدها وبأي لغة كتبت، فمرت على جنسيات من شرق أوروبا مثل المجر والتشيك وروسيا، ثم اليونان وإيطاليا وغيرهم، واختفى هذا التنوع مع الوقت بعد حركة الضباط الأحرار في 23 يوليو 1952م، وصرنا نتحسر على التنوع الذي كان في المجتمع المصري.
بعد الحرب الأهلية في سوريَا عام 2011 م، بدأ السوريون في النزوح بالملايين إلى مختلف البلدان بين تركيا ومنها إلى بقية دول أوروبا، والأردن ومصر ولبنان، وفيما يخص مصر لم يتم استقبالهم في مخيمات مثلما حدث في بعض البلدان الأخرى، ولكن دخلوا وسط المصريين وعاشوا على مدار أكثر من 12 عامًا، وصار لهم تجارتهم الخاصة، وسكنوا كثير من المدن الجديدة والأحياء المختلفة في القاهرة، وكان المصريين منفتحين على وجود السوريين في البداية، ومن بعدهم تواجد مجموعات من اليمنيين، إضافة لجنسيات أخرى من مختلف البلدان في إفريقيَا، وأخيرًا، العدد الأكبر من الوافدين على مصر؛ كان من السودان بعد اندلاع الحرب هناك في أبريل 2023، وقت تحوّل المِزَاج الشعبي العام، والذي في غالبيته يرفض وجود اللاجئين في ظل أزمة اقتصادية طاحنة، وارتفاع معدلات التضخم بشكل غير مسبوق على مدى الأعوام الثلاثة الأخيرة ووصول سعر صرف الدولار الأمريكي إلى نحو 50 جنيها مصريًا الآن.
كانت أزمة اللاجئين السوريين مثار جدل بين قادة الاتحاد الأوروبي على مدار السنوات الماضية، ورفضت بعض الدول استقبال لاجئين مثل المجر، في حين حاولت ألمانيا استقبالهم وتوزيعهم على بعض الدول الأوروبية الأخرى، لكنها وضعت شروط كأي دولة تستقبل لاجئين لتحصل على نصيب ممن يفيدون في سوق العمل، ومع ذلك حدثت مشاكل وتحولات مجتمعية هناك بسبب اختلاف الثقافة بين اللاجئين والمواطنين الألمان، وفي الحقيقة فهذا تعبير مهذب للإشارة لانتشار حوادث التحرش من قبل اللاجئين، وارتفاع ظاهرة العنف ضد المرأة في ألمانيا. وقررت بعض دول الشمال الأوروبي دفع معونات لدول أخرى حتى يظل اللاجئين بها، أو ليظلوا في بلدهم دون النزوح إليهم.
هناك تفاوت في أرقام اللاجئين في مصر، في حين أن تصريحات رسمية من مسؤولين بالحكومة المصرية أشارت إلى استقبال مصر لأكثر من 9 مليون لاجئ من مختلف البلدان، فإن المسجلين لدى مفوضية شئون اللاجئين التابعة للأمم المتحدة في مصر أقل من ذلك بكثير.
تستضيف مصر أكثر من ٧٥٦ ألف لاجئ وطالب لجوء مسجلين من ٦٢ جنسية مختلفة. مع نهاية أكتوبر ٢٠٢٣، أصبحت الجنسية السودانية هي الأكثر عددًا، يليها الجنسية السورية، تليها أعدادًا أقل من جَنُوب السودان وإريتريا وإثيوبيا، واليمن، والصومال، والعراق.
ارتفع عدد السوريين المسجلين مع المفوضية في مصر بشكل كبير من ١٢,٨٠٠ في نهاية عام ٢٠١٢ إلى أكثر من ١٥٣,٠٠٠ شخص في نهاية عام ٢٠٢٣، ممثلين خلفيات اجتماعية واقتصادية ودينية مختلفة.
نتيجة للأزمة في سوريَا والسودان، فإن مصر تستضيف الآن أكبر عدد من اللاجئين وطالبي اللجوء المسجلين في تاريخها. في الوقت نفسه، دفع تجدد الصراعات وانعدام الاستقرار السياسي في شرق إفريقيَا والقرن الأفريقي وكذلك الاضطرابات في العراق واليمن قد دفع آلاف الأشخاص من جَنُوب السودان وإثيوبيا والعراق واليمن إلى اللجوء إلى مصر.
حتى ٢٦ أغسطس ٢٠٢٤، وصل عدد اللاجئين المسجلين لدى المفوضية إلى ٤٦٩,٦٦٤ لاجئًا من السودان و١٥٧,٦٧٣ من سوريا و٤٥,٠٧٩ من جَنُوب السودان و٣٨,٩٣٨ من إريتريا و١٨,٧٢١ من إثيوبيا و٨,٦٤٩ من اليمن و٨,٤١١ من الصومال و٥,٧٢٢ من العراق وأكثر من ٥٤ جنسية أخرى.(مفوضية شئون اللاجئين بمصر)
بطبيعة الحال، يرجع هذا التفاوت في الأرقام بين ما تقوله الحكومة والمسجلين رسميًا لدى مفوضية شئون اللاجئين إلى عدم وجود إحصاء رسمي بكل من دخلوا مصر من قبل الحكومة. ويعيش كثيرون في مصر ويعملون دون إقامات أو أوراق ثبوتية. وفي عام 2024 الجاري، قررت الحكومة منح المقيمين على أراضيها فرصة لتسوية أوضاعهم القانونية واستخراج إقامات، أو ترحيلهم إلى بلدانهم. وكان من المفترض أن تنتهي المهلة في سبتمبر الماضي، قبل أن تمدها الحكومة عامًا خلال زيارة رئيس ألمانيا لمصر في نفس الشهر. وقد أثار هذا القرار سخطًا شعبيًا تجاه الحكومة، في ظل استمرار الأزمة الاقتصادية وارتفاع معدل التضخم، بالإضافة إلى ارتفاع أسعار العقارات المباعة والمؤجرة عدة أضعاف عن ثمنها الحقيقي، نتيجة ارتفاع الطلب من الوافدين الجدد واستعدادهم لدفع مبالغ أكبر من المعروضة بين المصريين.
هذا الوضع الفوضوي لم يتسبب فيه اللاجئين أو الوافدين إلى مصر من دول الصراع وحدهم، بل مسؤول عنه مسؤولية كاملة؛ الحكومة، التي من المفترض أن تنظم الأمور في أطر قانونية تحفظ النظام العام، ولا تترك الأمور مباحة على مصراعيها لتحولات ديموغرافية قد تنبئ بكوارث مستقبلًا، إذا ظل هؤلاء بصراعاتهم التي أتوا بها من بلدانهم إلى مصر.
نأتي إلى فريق الرافضين، فمصر تعاني من وضع اقتصادي صعب منذ عام 2011، وتفاقمت الأزمة الاقتصادية في عام 2022، وبدأ الجنيه في التهاوي أمام العملات الأخرى خاصة الدولار الأمريكي. وبالتالي، فإن جزءًا من سخط القطاع الرافض لوجود اللاجئين يكمن في الأزمة الاقتصادية أساسًا، بالإضافة إلى ممارسات بعض اللاجئين المستفزة تجاه مصر ومناصبتها العداء بالرغم من معيشة بعضهم على أراضيها.
أما فريق المرحبين فغالبيتهم من تيارات سياسية قومية ويسارية، ويتعاملون مع الموقف على طريقة المزارع الكريم في الريف المصري الذي يدعو كل من يمر عليه لتناول الطعام والشاي معه. هذا الكرم الريفي المصري الأصيل قد ينفع في الحالات الفردية، لكنه لا يصلح عندما تدعو الملايين للدخول إلى بلدك التي تعاني اقتصاديًا، وتفتقر إلى الموارد وتواجه أزمة مياه، خاصة وأن كل هؤلاء المرحبين ينتقدون الحكومة بسبب الأزمة الاقتصادية والأداء غير المرضي في حلها. إن ما ينفع في إدارة المنزل أو الحقل لا ينفع في إدارة الدولة، وهذه إحدى أزمات السياسيين والمثقفين في مصر.
وقعت مصر على اتفاقيات ومواثيق دولية عديدة، وتستضيف مقر مفوضية شؤون اللاجئين التابعة للأمم المتحدة. ولها وزن ودور في المنطقة المضطربة التي نعيش فيها، التي تشهد اندلاع الحروب من كل جانب. وبالتالي، تقع علينا مسؤولية كدولة وشعب لاستقبال اللاجئين ومساعدتهم، بالتنسيق مع المفوضية ووفقًا لإمكاناتنا وقدراتنا. ويجب ألا نتحمل عبئًا يفوق طاقتنا، وإلا انهرنا نحن أيضًا.
كيف تقيّم هذا المقال؟
← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←
المتوسط الحالي حسب تقييمات من القراء
كن أوّل من يقيّم هذا المقال
من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا
دعنا نعمل على تحسين ذلك
أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟
باحث وكاتب صحفي ومتابع للشأن الكنسي وشئون الأقليات