وُلد تولستوي في عام ١٨٢٨ ومات في عام ١٩١٠، ومن هذين التاريخين نرى أنه عاصر القرن التاسع عشر كله تقريبًا، ولكنه لم يكد يعيش في القرن العشرين، فقد مات قبل الحرب الكبرى الأولى بأربع سنوات، وما كان أحوجنا إلى أن نسمع صوته عن هذه المجزرة البشرية العظمى. ولكنه في القرن التاسع عشر رأى كثيرًا واختبر كثيرًا، فقد اشترك في حرب القرم في عام ١٨٥٤، ورأى بعد ذلك حرب السبعين بين فرنسا وألمانيا، ورأى أحد القياصرة يُقتل، ورأى تحرير العبيد في عام ١٨٦١، واصطدم بالكنيسة وطرد منها، واصطدم بعائلته حين أراد تسليم أرضه المورثة للفلاحين وانهزم، وصمت.
وكان طيلة حياته في النصف الثاني للقرن التاسع عشر ضمير أوروبا، يرتئي الرأي ويعظ الموعظة، ولكنه قلَّما كان يزيد على ذلك، وهنا أكبر إهماله أو خطئه، كان ضمير أوروبا، كما كان غاندي -منذ ١٩٢٠ إلى ١٩٤٨- ضمير الهند والعالم، كلاهما تولستوي وغاندي، صورتان لشخص واحد، هما صورة الأستاذ وتلميذه، ولكن هذا التلميذ؛ غاندي، حاول أن يجعل آراء تولستوي ومواعظه أعمالًا منفَّذة.
في هذه الحياة الطويلة التي عاشها تولستوي رأى أهوالًا من الشقاء البشري كان أولها حرب القرم، فإنه يذكر أنه عقب هذه الحرب لم يُطق إلا أن يأخذ قلمه ويكتب، وأن ينذر قلمه لمحو هذا الشقاء البشري؛ أي الحرب، ولكن حرب القرم يمكن، بالمقارنة إلى حروبنا الجديدة التي تخيم على عالمنا العصري، بالذرة المنشقة والذرة الملتحمة، يمكن أن تعد مباراة في كرة القدم، ولو أن تولستوي كان حيًّا في أيامنا، وكان يسمع أو يقرأ ما يقال عن الحرب المنتظرة، لطالب بإرسال جميع المسئولين إلى المارستان.
إنها الحرب التي جعلته يقول في عام ١٨٥٤: لم أتمالك أن أتناول القلم وأكتب، وكل رجل شريف له قلم يجب أن يقول مثل هذا القول هذه الأيام.
والحرب بؤرة لمشكلات عديدة، اضطر تولستوي، كما يضطر غيره في مثل هذه الظروف، إلى أن يشتبك فيها، فاشتبك في معنى الدين، ودلالة الفن، وهدف الثقافة، وأسلوب العيش، وعادات الحب والزواج، وكتب القصة الفنية، والرسالة المناقشة وحاول أن يحس وفق ما يقول ويؤمن، ونجح قليلًا وفشل كثيرًا.
نجح من حيث إنه عمَّم الإيمان بأن المجتمع يعاني من الأسواء، ويحمل من الأوضار ما يجب أن يبعثنا على إصلاحه، فكانت بذلك مؤلفاته إيحاءً للثورة، وفشل من حيث إنه كان يعتقد الاعتقاد الديني بأن إصلاح الفرد يؤدي إلى إصلاح المجتمع… ولم يفقه قط إلى أن الفرد مسيَّر بعادات المجتمع وأساليب عيشه، ونظم أخلاقه وعاداته، وأنه لن يتغير إلا إذا غيره المجتمع أو هيأ له أسباب التغير.
كان تولستوي مثاليًّا ولم يكن ماديًّا.
•••
نجد في حياة تولستوي ظروفًا أو حوادث رسمت له خطوط حياته، فإن حرب القرم بفظائعها جعلته كاتبًا يكتب عن قهر وإلزام؛ لأنه لا يُطيق الصمت، وهذه الحال أعظم ما يهيئ التفوق والنبوغ في الكاتب. ثم رأى هول النظام الإقطاعي في روسيا، والرق الزراعي الذي كان يقضي بخضوع الفلاحين لصاحب الأرض، لا يتركونها إلى غيرها؛ إذ هم عبيد تملكهم الأرض ولا يملكونها. وقد أُلغي الرق في عام ١٨٦١، ولكن تولستوي حرر عبيده تطوعًا قبل أن يُسن هذا القانون.
ورأى تولستوي في حياته الأدبية صراعًا بين المستغربين والمستشرقين، فإن دعاة الإصلاح انقسموا فريقين: أحدهما يقول بالتزام روسيا لمبادئها الشرقية، والآخر يقول بأخذها بالأساليب الغربية، وهذا التردد أوقع بالشعب في بلبلة كسب منها الرجعيون؛ أي القيصريون والكنسيون، أليست القيصرية والكنيسة مؤسستين شرقيتين وطنيتين يجب المحافظة عليهما؟ ولذلك كان القول بتحرير العبيد من الرق الزراعي، وتعليم المرأة في الجامعات، والتفكير الاجتماعي في معاني الدين، بل البرلمان نفسه، كل هذا كان من بدع المستغربين الذين يعدون خونة للمبادئ الشرقية الروسية. وكان في الجانب الآخر دعاة الحضارة الغربية العصرية الذين أخذوا بالمذهب الماركسي في الاشتراكية، والذين كانوا يطالبون بإلغاء القيصرية واحتضان الثقافة العلمية الأوروبية.
وانتقلت هذه المعركة إلى الأدب الروسي واحتلَّت مركز المناقشة فيه، ففي ناحية نجد دوستويڤسكي ينعي على أوروبا ماديتها ويدعو روسيا لاستيفاء شرقيتها، ومن ناحية نجد تورجينيڤ يدعو إلى الغرب.
ومن هنا نشأت كلمة «العدمية: النيهلزم» التي سكَّها تورجينيف؛ كي يبين البلبلة أو اليأس الذي يقع فيه شبان روسيا في النصف الثاني من القرن التاسع عشر حين كان يحملهم قنوطهم على طلب العدم؛ لأن الوجود لا يطاق، الوجود لا يطاق إزاء ناس أشرار يطلبون بقاء القيصرية والكنيسة المستبدين، وبقاء الرق الزراعي، وبقاء المرأة للبيت، وبقاء الاستسلام والخضوع والرضا بالفقر.
•••
لكل كاتب أب روحي ينتمي إليه، أو هو يعتقد أنه ينتمي إليه، وفي هذا الانتماء أُنْسَةٌ تتولد منها شجاعة وإصرار، وإحساس بالسلامة بالبعد عن الأخطار. ولا عبرة بأن يكون الأديب المنتمي مخطئًا، وإنما العبرة بالإيمان. وكان الأب الروحي لتولستوي چان چاك روسو، كما كان الأب الروحي بعد ذلك لغاندي، تولستوي نفسه.
وقد صرح تولستوي بأن في شبابه كان يعبد روسو، وأنه كان يحمل ميدالية عليها صورة هذا الأديب الفرنسي العظيم، ولقد قال في أحد مؤلفاته: إني أحس، وأنا أقرأ لبعض الصفحات من روسو، كأني أنا قد كتبتها.
ونحن نجد بين الاثنين قاسمًا مشتركًا، فإن كلا منهما وجد في الرجوع إلى بساطة الحياة حلًّا للعُقد الاجتماعية التي أوجدتها الحضارة العصرية، والتي جعلت حياتنا شاقة بالطموح المسرف، والمباراة القاتلة، واتخاذ القصد المخطئ في الجهد لجمع المال، والعيش في البذخ. لقد دعا روسو إلى العودة إلى الطبيعة وإلى المعيشة الساذجة، وقد عاش روسو في هذه الطبيعة الساذجة حين آثر الريف على المدينة، والالتصاق بالأرض والإنتاج الزراعي على مركبات الحضارة العصرية التي كثيرًا ما تستحيل إلى عُقد، ونحن نجد في اعترافات روسو، ثم اعترافات تولستوي، أمكنة عديدة للمشابهة، ولكن يجب أن نسأل قبل أن نلتفت إلى هذه الاعترافات: لماذا كتبها روسو وتولستوي؟ بل لماذا كتب غاندي، تلميذ تولستوي، اعترافاته أيضًا التي سماها «تجارب في الحياة»؟
السبب هو القلق، فإن هؤلاء الثلاثة الذين هدفوا إلى الطمأنينة والسلام والسعادة في كتابتهم، كانوا قلقين لهذا السبب نفسه؛ أي إن جهدهم لتحقيق الطمأنينة والسلام والسعادة قد أحالهم إلى مفكرين مكافحين مخاصمين للمجتمع الذي عاشوا فيه، وقد تألموا جميعهم، فإن روسو طورد كما لو كان مجرمًا، بل إنه عاش بعض سني حياته وهو مختبئ أو هارب، وتولستوي طورد من الكنيسة التي كان يرفع دينها إلى أعلى مرتبة، وأما غاندي فقد ضُرب وحُبس، ثم أخيرًا قُتل.
ولسان هؤلاء الثلاثة جميعًا يقول، كما كان يقول أرميا: «ربي، لم جعلتني مشاقًّا لأهلي؟» أي ربي، لم جعلتني على شقاق مع مجتمعي؟
ولكن أرميا كان يجهل أن كل من يطلب الإصلاح والتطور والارتقاء لن يمكنه أن يؤدي هذه الرسالة إلا بعد شقاق بينه وبين أهله. وهؤلاء الأهل، أو هذه الشعوب والمجتمعات، بعد أن تضرب النبي أو الفيلسوف والأديب، وتحبسه وقد تقتله، بعد ذلك تقيم له التمثال الذي يخلِّد صورته وتحتفل بذكراه وتدرس أقواله. وعظماء الأدباء في أيامنا هم الأنبياء، وهم الفلاسفة.
•••
لما كان تولستوي في شبابه وجد نفسه نبيلًا ممتازًا على الشعب بالثروة والمقام، وله عبيد زراعيون يجري عليهم حكم الرق، فأعتق عبيده هؤلاء. ولكنه بعد ذلك وجد أن المباراة التجارية الجديدة، واستخدام رأس المال الوطني والأجنبي، وظهور طبقة جديدة من الأثرياء الذين يطلق عليهم اسم «بورجوازيين»؛ وجد أن المناخ الاقتصادي الاجتماعي الجديد، على ما يزينه من طلاء الحضارة والثقافة، هذا المناخ أسوأ من المناخ الزراعي القديم، فكره الحضارة الغربية العصرية ودعا دعوة الحياة الساذجة الفطرية، دعوى روسو قبل مائة سنة.
وهنا نحتاج إلى أن نتلبث قليلًا ونبحث الموقف السيكلوجي، فإن چان چاك روسو حين خبر المظالم الملوكية والإقطاعية في فرنسا، وحين شاهد البذخ النجس في الطبقات البشرية إلى جنب الفقر الساحق المهين في عامة الشعب، حين رأى ذلك قال إن الحضارة كلها نجاسة يجب أن نتجنبها ونعيش في سذاجة، لا نشتري الذهب، ولا نبني القصور، ولا نأكل على الموائد المطهمة، ولا نقتني الحرير.
وكذلك تولستوي حين رأى غزو النزعات التجارية، والجشع؛ أي الاستكثار من الثراء بالمباراة القاتلة وسحق الفقراء من العمال، ثم ما ينبني على ذلك من مدن يحيا فيها الأثرياء مع التعطل والدعارة إلى جنب آلاف العمال الجائعين الذين يعيشون في البدرومات، حين رأى ذلك قال أيضًا بأن حياة الريف خير من حياة المدن، وأن الصناعات الصغيرة في القرى خير من المصانع الكبيرة في المدن.
وقد تعلم هو صناعة الأحذية كي يحس راحة الضمير، وكان يحرث الأرض، وكان يقول إن المتمدنين الغربيين يلعبون الألعاب الرياضية؛ لأنهم لا يؤدون أعمالًا مجهدة، ولو أنهم كانوا يعيشون مثل الفلاحين على الأرض لما احتاجوا إلى الرياضة البدنية.
ثم جاء غاندي فأحب تولستوي كما كان هذا يحب روسو، وأسس مزرعة باسم «مزرعة تولستوي» حين كان في أفريقيا الجنوبية يدرس مشروعاته في مقاومة الشر بالخير، وكان يعمل ويجرب في أساليب الحياة التي أصبحت مذهبًا عاش به الهنود، فلبسوا الخيش وأكلوا الخضراوات، وصاروا يغزلون وينسجون كي يستغنوا عن الأقمشة الإنجليزية الواردة إليهم من إنجلترا.
•••
أرجو ألا يفهم أحد أني أمدح هؤلاء الثلاثة على الخطط الأساسية التي زعموا أنها تصلح للحياة العالمية، وإنما وجدت أنه يجب كي نفهم تولستوي أن نذكر هذا الاتجاه الذي لم يخل منه عصر، ويكفي أن نقرأ قصة «نشيد الإنشاد» في التوراة كي نعرف أن هذا الاتجاه قديم؛ إذ إن هذا السفر لا يعدوا أن يكون دعوة إلى الطبيعة والسذاجة والقناعة ضد الحضارة، وفي قلب كل منا شيء يهفو إلى هذه الحياة، ونحن نزداد تفكيرًا فيها عندما نجد أن مركبات الحياة المتمدنة قد استحالت إلى عقد يعسر علينا حلها، وأننا نقع في مضاعفات تقلقنا وتؤسينا وتمرضنا.
التفكير في العودة إلى الطبيعة، والتفكير في القناعة بحياة الريف، والتفكير في لبس الخيش وطعام النبات، كل هذا هروب من عُقَد الحضارة العصرية ومضاعفاتها والعجز عن حلها.
أما متى وُجد الحل فإن أحدًا لا يفكِّر كما فكَّر هؤلاء الأبطال الثلاثة.
•••
تمتاز القصة الروسية على وجه عام بالواقعية، وهذا هو الأثر الذي تخلِّفه قراءة قصة روسية عند القارئ العربي الذي يعرف الآداب الروسية، وتولستوي واقعي يتعمق البواعث الخفية، ويكشف عنها في صراحة كثيرًا ما فزعت منها الطبقات الحاكمة في روسيا. وهو في كل ما يكتب لا ينسى أن ينبِّه إلى أن الحضارة العصرية غير إنسانية، وأشخاص قصصه فضلاء مستقيمون إذا كانوا فلاحين ساذجين مثل «لڤين» في قصة «أنا كارنينا»، وهم أرذال منحرفون إذا كانوا متدينين مثل «فردمنسكي» في هذه القصة نفسها، وهذا تحيز واضح له أصول في روسو معلمه الأول.
ثم هو، مثل روسو قبله، ومثل غاندي بعده، شعبي؛ أي مع عامة الشعب والفقراء والمسحوقين والمحرومين، ومن هنا دعوته إلى تبسيط اللغة الروسية، بل إن كراهيته لشكسبير تعزى إلى حدٍّ بعيد، إلى أن هذا الشاعر الإنجليزي يتعالى على الشعب ويسميه غوغاء لا يفهمون، وإلى أن معظم أبطاله ملوك وأمراء. بل إنه يسرف هنا حتى يقول إنه يفضِّل أغاني الشعب الروسي العامية على أشعار جوتيه شاعر ألمانيا العظيم، وأسلوبه لهذا السبب شعبي، هو حديث يكاد يكون عاميًّا، لا نجد فيه تلك الكلمة المضيئة أو العبارة المزوقة التي اعتدنا أن نجدها في كتب الأدب الأخرى، ولكنه في كل ما يكتب سيكلوجي عميق لا يعلو عليه هنا غير دوستويڤسكي الذي عرف سيكلوجية فرويد قبل فرويد.
•••
وربما يكون من المنير هنا أن نقارن بين تولستوي ودوستويڤسكي، فإن كلاهما كاتب عظيم من كتَّاب القصة، بل لا نغالي إذا قلنا إنهما أعظم كاتبين للقصة في العالم كله، ومع ذلك أنا أوثر عليهما جوركي، ولكن ليس ذلك لأنه يعلو عليهما في فن القصة؛ وإنما لأني أجد فيه مزاجي ونزعتي واتجاهي في الثورة التي لا يرضى عنها تولستوي أو دوستويڤسكي المسيحيان.
وهناك فرق أصيل بين دوستويڤسكي وبين تولستوي، ذلك أن دوستويڤسكي يهدف إلى إيجاد أشخاص، بل أبطال، لكلٍّ منهم شخصيته الفذة التي يختلف بها عن سائر المجتمع، فهم فلاسفة أو مجرمون أو حتى مجانين، ولكنهم عباقرة، ولكن عبقريتهم في الإحساس أكثر مما هي في العقل. هم أذكياء في الإحساس فإن «رسكلنيوف» بطل «الجريمة والعقاب» وهي القصة التي كنت أول من حاول ترجمتها في عام ١٩١٢، هذا البطل يقتل امرأة عجوزًا عن تعقُّلٍ منطقي، ولكنه يعترف بعد ذلك بالجريمة، ويرضى بحكم الإعدام أو النفي المؤبد عن إحساس إنساني. ولهذا المؤلف أشخاص متدينون في قصته العظيمة «الإخوة كرامازوف» تتأمل دينهم العميق فتشك في إيمانهم: هل هم مسيحيون أم إنسانيون؟ وهل ينشرون النور أم الظلام؟ نحن نقرؤه ونحن نعاني لذة أليمة، وكأننا في قبضة محلل سيكلوجي نستجيب لأسئلته بومضات الذهن وارتجاف القلب.
جميع أبطال دوستويڤسكي شواذ، مرضى، ولكنهم عبقريون أذكياء. أما تولستوي فمن الشعب يكتب للشعب، رجاله عاديون، وهو يعبر عن أعمالهم وصفاتهم بلغة شعبية بعيدة عما يسميه الاحتيالات البلاغية. المثل الأعلى عند دوستويڤسكي هو الرجل الشاذ الذكي الذي يحس أكثر مما يتعقل.
والمثل الأعلى عند تولستوي هو الرجل العادي الذي لا يشذ عن المجتمع، ولكن هذا المجتمع يجب أن يكون ساذجًا يحيا في الطبيعة والصلاح، هو الرجل الطيب في معنى الطبيعة الشعبية، بل أكاد أقول العامية. البطل عند دوستويڤسكي هو من ينفصل عن المجتمع، والبطل عند تولستوي هو من يندمج في المجتمع. وأحسن أشخاص القصص عند تولستوي هو «ليڤين» صاحب الأرض في قصة «أنا كرنينا» وهو مزارع طيب يتسم بأفكار عرفية؛ أي اجتماعية، عن الحب والزواج والعائلة والصلاح، هو تولستوي نفسه وسائر المزارعين.
وأحسن الأشخاص عند دوستويڤسكي هو الطالب «رسكلنيكوف» القاتل الفاجر الذي يقتل العجوز كي يسرق أموالها؛ لأن حياتها «لا تزيد في القيمة على حياة برغوث» أليس هذا هو المنطق؟ منطق العقل وحده. ولكن دوستويڤسكي يعود بعد ذلك فيشرح في أكثر من مائتي صفحة أن هذا المنطق خطأ.
وأبطال دوستويڤسكي يختلفون في معاني الحب من أشخاص تولستوي؛ البطل عند دوستويڤسكي يحب المرأة البغيَّ، ويعبدها؛ لأنه يعبد آلامها وينغمس في دموعها، ويكرع تعاستها، وكأنه يبكي في هذا الحب تعاسة الناس وبغاء حياتهم وجوعهم، وهو يستنبط من هذا الحب المعاني الإنسانية التي تجعلك تسمو على نفسك.
أما أبطال تولستوي فيحبون هذا الحب الأفلاطوني الذي يتوهم الناس أنه الحب السطحي، مع أن أفلاطون قصد منه إلى الحب الشامل للإنسان والحيوان والنبات، والصدق والشرف، والحقيقة والفن والطبيعة، الحب عند تولستوي هو الحب للناس أولًا، ثم بعد ذلك لهذا الكون بكل ما فيه من مخلوقات، ولهذا السبب كان تولستوي يقيس كل شيء بقيمته للشعب، فالكتاب أو الصورة أو اللحن إنما هي جميعها وسائل لزيادة الاتحاد، بل الاندغام بين أفراد الشعب، وعنده أنَّا كلما اندغمنا في الشعب كنا أسعد، وكلما انفصلنا كنا أتعس، ومن هنا كراهيته لشكسبير الذي يكتب أحيانًا في وقاحة، ويصف الشعب أنه غوغاء، وكذلك كراهته لجوته، حتى قال إن الأغاني الشعبية الروسية تحوي من الفن أكثر مما تحويه أشعاره.
وكذلك احتقاره لما كان يسميه «الاحتيالات البلاغية»؛ لأن فنون البلاغة للخاصة وليست للشعب، ثم أخيرًا نجده يحرث الأرض ويصنع الأحذية بيديه، إنه يريد أن يكون من الشعب ويؤدي الأعمال الشعبية، وهو هنا بالطبع مسرف. ولكنَّ لهذا الموقف وجهًا يستحق أن نبحثه من ناحية المزاج النفسي والإحساس العاطفي، وليس من ناحية الارتقاء البشري والتقدم العلمي، بل إن لهذا الموقف مغزًى لا يُستهان به حين نتأمل خطط غاندي الشعبية في الهند والنتيجة التي انتهت إليها.
•••
تغمر إحساسات الحب حياة تولستوي، الحب الأفلاطوني الذي يشمل الحياة والطبيعة: حب روسو. وأكبر الظن أن روسو هو الذي نبَّه ذهنه إلى الحب، أو هو الذي أيَّده وبعث فيه الاستطلاع والتعرف؛ ولذلك لا نستغرب من تولستوي أن يلتفت إلى معاني الحب التي دعا إليها الإنجيل، ولكن التفاته هذا أدى به إلى الاصطدام بالكنيسة. والواقع الذي يثبته تاريخ أوروبا أنه كلما اقتربنا من الإنجيل، وحاولنا أن نفهم تعاليمه منه مباشرة، ونقرؤه مثل أي كتاب آخر، كلما فعلنا ذلك، ابتعدنا عن الكنيسة، ونعني بالكنيسة هنا كهنتَها، فإن لوثر، المصلح البروتستانتي، حين شرع يدرِّس الإنجيل مباشرة طردته الكنيسة الكاثوليكية، وكذلك فعلت مع رينان، وكذلك فعلت الكنيسة الأرثوذكسية مع تولستوي.
إن للكهنة تفسيرات «رسمية» للإنجيل، فمن تجرأ من المسيحيين على أن يفهم كلمات الإنجيل، خارج هذه التفسيرات الرسمية، فإنه عندئذٍ يكون عرضة للوم والحرم، وليس هذا شأن الكنيسة أو الكنائس البروتستانتية، التي تعلمت من طرد لوثر ألا تطرد أحدًا يخالفها. وكان طرد تولستوي أو إلقاء الحرم عليه، قائمًا على أنه نظر إلى المسيح النظرة الإنسانية، ووجد في الأخلاق التي دعا إليها، وعمادها الحب، أخلاقًا لا تحتاج إلى وحي إلهي، بل إنه يقول إنه هو نفسه؛ أي تولستوي، كان يمكنه أن يقول بما قال به المسيح في الأخلاق دون أن يحتاج إلى وحي إلهي؛ لأن هذه الأخلاق هي أفضل ما نعرف وأليق ما تكون للمجتمع البشري، هي أخلاق علمية.
وهو يقول في إحدى مذكراته حين كان يقاتل في حرب القرم حوالي عام ١٨٥٥:
خطرت بذهني فكرة، هي تأسيس ديانة جديدة تتفق والحال الحاضرة للنوع البشري، أعني الديانة المسيحية التي تتطور من العقائد الجامدة ومن الغيبيات، بحيث تصير ديانة عملية لا تهبنا سعادة المستقبل [بعد الموت]، وإنما سعادة الحاضر على هذه الأرض.(ليڤ نيكولاياڤيتش تولستوي)
وهو يستخلص من موعظة الجبل في الإنجيل هذه الوصايا الخمس:
(١) لا تغضب.
(٢) لا تَزْنِ.
(٣) لا تُقْسِم.
(٤) لا تقاومِ الشر.
(٥) لا تكن عدوًّا لأحد.
هذا هو كل ما يؤمن به من الإنجيل، وما عدا ذلك فزيادات يمكن الاستغناء عنها. ولكن تولستوي مع ذلك لم يجابه كل الحقائق، ولو كان قد فعل لاستقر على العلم وحده.
•••
حقيقة الموت من أعظم الحقائق التي تواجهنا عندما نفكر في الحياة البشرية، لماذا نموت؟ ولماذا نخاف الموت؟
وقد فكر تولستوي كثيرًا في هذا الموضوع، وله قصة تسمى «ثلاث توبات» توضح لنا رأيه في الموت، وقد كتبها في عام ١٨٥٨.
والموتات الثلاثة هي موت سيدة ثرية متمدنة، وموت فلاح فقير ساذج، ثم موت شجرة. وهو يصف تدرج الموت، منذ بدايته حتى نهايته، في هذه الأحياء الثلاثة، وله نظرية في ذلك هي أنَّا نتألم من الموت ونخشاه؛ لأننا نحيا في الحضارة على وعي بأن كلًّا منا فرد منفصل، ويزداد هذا الإحساس إذا كنَّا متمدنين متعلمين؛ ولذلك تخشى في السيدة الموت.
أما الفلاح؛ فلأنه ساذج، يحيا مع الطبيعة ولا يحس فرديته إلا بمقدار صغير؛ أي إنه ليس على وعي خاص بحياته، هذا الفلاح يتحمل الموت ويستقبله بأقل الألم وأقل الخوف.
أما الشجرة التي تخلو من الوعي، وليس لها أي إحساس بفرديتها؛ إذ هي جزء متم لا ينفصل من الطبيعة، هذه الشجرة لا تحس بتاتًا بالموت، ونحن حين نقطع غصونها ونكسر ساقها لا نجد فيها ما يدل على ألم أو خوف.
والمغزى الذي يستخرجه تولستوي من هذه المقارنة بين الموتات الثلاث، أنه كلما ازددنا ثقافة وتمدنا ومعرفة، ازددنا أيضًا وعيًا وانفصالًا من المجموعة البشرية، ونحن نتألم لهذا الوعي والانفصال وقت الموت، ولكن لو كان وعينا وانفصالنا ضعيفين أو معدومين لكنَّا مثل الفلاح، بل مثل الشجرة؛ لأن موتنا جزئي إذ نحن أحياء في المجتمع أو الطبيعة لأننا لم ننفصل منهما، إذ يكون موتنا بمثابة من تكسر أصبعه أو يده فقط.
إن تولستوي طبعة أخرى لروسو، إنه يمدح الحياة البدائية، بل يمدح الطبيعة غير الواعية، ويجد فيها الفلاح آلام الموت والشقاء من الخوف من العدم.
وهو بالطبع لا يؤمن بالغيبيات التي تلي الموت، ولا يشتهي، ولا ينتظر أطباق الحلوى بعد الموت، هذه الأطباق التي يعتقد بعضنا أنها تخفف من ألم الموت وتزيد الخوف منه، مع أن الواقع يثبت غير ذلك.
•••
إن تولستوي يستحق النقد هنا.
ذلك أنه نظر إلى الموت من حيث إنه مواجهة العدم للإنسان، وأنه نهائي ليست بعده حياة أخرى، ولكن عبرة الموت يجب أن تنعكس على الحياة.
إذن ما دامت الحياة تنتهي بالموت انتهاء تامًّا؛ فيجب لذلك أن نحيا حياتنا بأقصى وأعمق ما نستطيع، وأن نجعل من هذه الدنيا نعيمًا لأبناء البشر، نحيا في سعادة وسلام وعلم وثقافة واستمتاع، ونعمُّ الخيرَ والعدل، ونتحمل نحن وحدنا المسئولية في كل ذلك بدلًا من إلقاء المسئولية على قوات غيبية، ولكن تولستوي لم يكن يرتفع إلى هذا التفكير؛ لأنه لم يكن ثوريًّا، والثورة وحدها؛ أي السعي لإيجاد ثورة تغير المجتمع، هي التي نقلت الاهتمام النفسي والذهني من التفكير في الدين إلى التفكير في الدنيا.
وكراهة تولستوي للثورة يعود إلى إيمانه المطلق بأن الشر يجب ألا يقاوم، وأن الموقف السلبي من المظالم والشرور جميعها هو الموقف الذي اتخذه بعد ذلك غاندي، وقد اتخذه غاندي نقلًا عن تولستوي.
لم يكن تولستوي يؤمن بالثورة؛ إذ كان يقنع بالإيمان بالمسيحية، بالإخاء المسيحي، ولكننا مع ذلك نظلمه إذا قلنا إنه لم يعمل لتعجيل الثورة، ذلك أنه عمم السخط بين طبقات المثقفين في روسيا؛ لأنه أبرز مظالم المجتمع والحكومة والكنيسة، وهذا السخط كان الاختبار الذي سبق الانفجار بالثورة.
لم يكن اشتراكيًّا، ولم يكن له برنامج، ولم يكن له كفاح عملي مذهبي سوى تسليم الأرض للفلاحين، وقد حاول هو نفسه أن يفعل ذلك واصطدم بعائلته التي منعته من إنفاذ نيته. لم يكن تأثيره إرشاديًّا للثورة، ولكنه كان إيحائيًّا.
•••
ولا نستطيع أن نقول إن غاندي قد أرشد الثورة في الهند بالتعاليم التي أخذها عن تولستوي، وإنما قصارى ما نقول عنه إنه أوحى بها ولونها بلون الوداعة التي انتهت بالمقاطعة، مقاطعة الإنجليز المستعمرين.
وكلاهما؛ أي تولستوي وغاندي، يجهل الأساس الوحيد الذي تنبني عليه المجتمعات وتتغير بتغيره وتتطور بتطوره؛ هذا الأساس هو الأساس الاقتصادي. كان كلاهما «مثاليًّا» وليس «ماديًّا»، كان كلاهما يطلب الأخلاق ثم الإصلاح، الأخلاق عند كلٍّ من تولستوي وغاندي تؤدي إلى الإصلاح، وهذا هو الخطأ الفادح؛ لأن الأخلاق ليست شيئًا سوى الثمرة أو الثمرات، التي يثمرها النظام الاقتصادي، فإذا كان هذا النظام حسنًا عادلًا فإن الأخلاق تكون حسنة عادلة. كان كلاهما يطلب إصلاح الفرد، ثم يؤدى ذلك في منطقه إلى إصلاح المجتمع، ولكن العكس هو الذي نؤمن نحن به الآن، فإننا نقول إننا نحتاج إلى مجتمع عادل لكي يتعلم أفراده بنظامه، محض نظامه، ويمارسون العدل في علاقاتهم الواحد مع الآخر.
موقف غاندي وتولستوي هو الموقف المسيحي، وهو أن على الفرد واجبات إذا أداها صار المجتمع صالحًا. ولكن هل نجحت المسيحية في ذلك؟ إنها لم تنجح، بل انتهت بعد ألفي سنة من تعاليمها باختراع القنابل الذرية الهيدروجينية، أقوى أسلحة الشر في تاريخ العالم.
إن أسوأ ما في تولستوي وغاندي معًا أنهما لم يفهما، ولم يدرسا التفسير الاقتصادي للتاريخ، ولكن هل معنى هذا أنهما لم يخدما عصرهما؟ لا؛ لأن الواقع أنهما كما قلنا، أوجدا سخطًا أدى إلى اختمار، ثم انتهى الاختمار بالانفجار، فكانت الثورة الاشتراكية في روسيا، ثم ثورة الاستقلال في الهند.
السخط جعل الناس يفكرون ويغضبون، وانتهى التفكير والغضب إلى الثورة التي شبَّت بعد وفاة تولستوي بسبع سنوات في عام ١٩١٧. ولكن هذا السخط الذي جعل الناس يفكرون ويبتكرون جعل تولستوي نفسه يبتئس ويشقى؛ إذ كان هو يسخط ويتآكل ببخاره؛ لأنه لم يكن له برنامج اجتماعي للثورة، ولذلك أيضًا وجدناه بعد حياة بلغت ٨٢ سنة ينهض من فراشه في الفجر ويترك بيته وأولاده ويفر إلى حيث لا يعرف؛ إذ لم يكن له وجهة ولم يكن له قصد، كان يريد الفرار فقط، فر من الحياة البائسة إلى الموت، ومات.
وبموته أثبت أن ما كان ينشده من الارتباط العضوي بالمجتمع، على الطريقة التي رسمها لم يعد ممكنًا؛ لأنه لم يعد من الممكن أن ننزل عن وعينا بالنزول عن ذكائنا وثقافتنا، ونحيا حياة الفلاح أو حياة الشجرة، ولكن هناك ارتباطًا آخر يحسه الرجل المثقف الواعي في أيامنا، هو هذه الاشتراكية التي ننشدها، فنحن في حياتنا، بل كذلك في موتنا، أجزاء متممة للمجتمع، نرقى برقيه… فلا نشقى من الحياة، ولا نخاف من الموت.
ومع كل ما ذكرت عن تولستوي وروسو وغاندي، ومع كل ما نجد في حياتهم وتعاليمهم من أخطاء، فإننا نهفو إليهم كما نهفو إلى النسيم المنعش، لما نجد فيهم من إخلاص وسذاجة وحب تفسدها علينا الحضارة العصرية.
كيف تقيّم هذا المقال؟
← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←
المتوسط الحالي حسب تقييمات من القراء
كن أوّل من يقيّم هذا المقال
من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا
دعنا نعمل على تحسين ذلك
أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟
المعرفة عقل وتجربة واختبار، ولكن العقيدة تلقين وإيحاء وتكرار.