ارهاصات التحولات بدأت، في تقديرى، قبل هذا التاريخ، حين تجمعت تيارات كنسية عدة في سعي عزل أو تحجيم البابا يوساب الثاني، ما بين جماعة الأمة القبطية التي ترجمت سعيها على الأرض باقتحام مقر البابا وإجباره على التوقيع على وثيقة تنازل عن موقعه البابوي، واقتياده إلى إقامة جبرية في أحد أديرة الراهبات بمصر القديمة، وهي وقائع مازالت بحاجة إلى فحص لمعرفة مدى اتصالها بالأجهزة المعنية في ذاك الوقت. وبين جماعة مدارس الأحد التي جندت مجلتها للهجوم المتصاعد على قداسته بمقالات نارية تحفيزية ضده. وبين المجمع المقدس الذي قرر تحديد إقامته وإيداعه المستشفى القبطي حتى وفاته.
كان السبب المعلن الذي تم ترويجه آنذاك فساد حاشيته، واتهامه بالسيمونية، فيما تم إغفال ما أنجزه في رعايته للإكليريكية، وحرصه عليها، ونقلها من مقرها القديم إلى مقرها بالأنبا رويس في قرار حاسم وعاجل، وتدشينه لمعهد الدراسات القبطية، ودعمه لبيت التكريس بحلوان، وتواصله مع حكومة الثورة لإقرار إجازات رسمية لأعياد الأقباط، واهتمامه بضبط ترتيب الخدمة بالإسكندرية بشكل نظامي مقنن.
ظني أن طرقه لأبواب التواصل مع الكنائس الأرثوذكسية بعائلتيها، وحصوله على إجازات علمية عليا من جامعات اليونان التي تم ابتعاثه إليها ـ من مدرسة الرهبان ـ وهو بعد راهبًا، هو الذي حرك الجناح المحافظ ضده، حتى إلى تحالف الفرقاء.
وعندما نقترب من المراحل اللاحقة فنحن لا نقترب من أشخاص بل من قرارات وردود فعل في دائرة عملهم، ونقر ابتداءً باحترامهم وتقديرهم، بعيدًا عن الشخصنة. ولا يمكن لمنصف أن لا يشهد للتطور الذي لحق بالكنيسة ونقلها إلى دوائر أرحب على الأقل جغرافيًا سعيًا لخدمة الأجيال المصرية الجديدة التي راحت تسعى في كل بقاع العالم، عملُا أو هجرة بتعدد الدوافع والأسباب.
لم يكن اسم الراهب مينا البرموسي (القمص مينا المتوحد)، على قائمة المرشحين للكرسي البابوي بعد رحيل البابا يوساب الثاني، وكانت الكنيسة والدولة ينظران بتوجس للمرشحين من شباب الرهبان، فاتفقا على تعديل لائحة انتخاب البابا البطريرك بما يحول دون أحقية هؤلاء الشباب في الترشح، وقد كان، لتصدر اللائحة المعدلة عام 1957م وقد أضيف فيها ضمن شروط الترشيح أن لا يقل سن المرشح عن أربعين عامًا وألا تقل مدة رهبنته عن خمسة عشر عامًا، وهكذا تم استبعاد أسماء كل الشباب إجرائيًا؛ ليقفز أمامهم اسم مرشدهم الراهب القمص مينا المتوحد، ولم يكن مرشحًا، فسعوا لدى بعض المطارنة ونجحوا ـ من خلالهم ـ في طرحه كمرشح، وتُجرى الانتخابات ويكون اسم القمص مينا ضمن الثلاثة مرشحين أصحاب أعلى الأصوات وتأتي القرعة الهيكلية، وهو إجراء مستحدث وقتها، ليفوز فيها الراهب القمص مينا المتوحد، ويحمل اسم البابا كيرلس السادس في 10 مايو 1959م.
وتسترد به الكنيسة عرفها المستقر بأن يكون البابا من الرهبان الذين لا تعلو رتبتهم الكهنوتية عن رتبة “القمص”، بعد ثلاثة بطاركة اختيروا من المطارنة، كان البابا الجديد رجل صلاة، ويرسي تقليدًا جديدًا بإقامة قداس يومي، سرعان ما انتقل إلى بقية الكنائس بالقاهرة، ثم أغلب ايبارشيات الكنيسة.
وعندما نقترب من دائرة قداسة البابا كيرلس السادس، لابد أن تتوقف عند القمص صليب سوريال، أحد مؤسسي مدارس أحد الجيزة، وخدمة القرية، وهو ابن خالة البابا كيرلس، ومهندس ضبط العلاقات داخل الكنيسة آنئذ، مع رفيق خدمته الأستاذ سعد عزيز (الأنبا صموئيل أسقف الخدمات فيما بعد)، ولكونه خريج كلية الحقوق جامعة فؤاد الأول (القاهرة) فقد كان له دور رئيس في توثيق طيف كبير من القوانين الكنسية خاصة فيما يرتبط بالأحوال الشخصية، وأُسند إليه عام 1964م تدريس مادة القانون في الكليات الإكليريكية بمصر والخارج.
وكان الدينامو في سعي المصالحة بين قداسة البابا كيرلس والأب متى المسكين، ونجح في مسعاه ليتم الصلح في العيد العاشر لرسامة البابا، الذي يرسله إلى دير القديس أبو مقار، بموافقة الأنبا ميخائيل مطران أسيوط ورئيس الدير. وهو الذ قدم حلًا فقهيًا يعطي للبابا حق رسامة أساقفة عموميين، بالإرادة المنفردة، فكانت رسامة أسقفى التعليم (الأنبا شنودة)، والخدمات (أنبا صموئيل)، في 30 سبتمبر1962م.، ثم بعدهما في 10 مايو 1967م رُسم أسقف البحث العلمي (أنبا غريغوريوس)، باعتبارهم يؤدون خدمات عامة في عموم الكنيسة معاونة للبابا البطريرك، دون أن يسند لهم إيبارشية معينة.
وفي الدائرة الحيوية للبابا كيرلس نلمح شخصية أخرى كان لها دورها في مطبخ إدارة الكنيسة وهو الاستاذ الدكتور حنا يوسف حنا، الذي يرقى في علاقته بالبابا إلى اعتباره تلميذًا له، ومن فرط محبته لأبيه البابا كان كلما ذكر اسمه ينعته بـ “العظيم عند الله والناس”، وكان مقربًا من الرئيس جمال عبد الناصر في نفس الوقت.
ويُذكر له أنه اقترح على البابا تعيين الراهبين مكاري السرياني وأنطونيوس السرياني في سكرتارية البابا، كنوع من تقدير سعيهما لطرح اسم الراهب القمص مينا المتوحد في قائمة المرشحين للبابوية، إضافة إلى الدفع بدماء شابة في منظومة إكليروس الكنيسة، بما يملكان من طاقة وقدرة تنظيمية وعلاقات متعددة يمكن توظيفها لخدمة الكنيسة، واستجاب له البابا، ثم عاد بعد فترة ليقترح عليه رسامتهما أسقفين ليصيرا أعضاء بالمجمع المقدس ومن ثم يدعمان قرارات قداسته داخل المجمع، وللمرة الثانية يستجيب له البابا.
وحسب القمص صليب سوريال كان للدكتور حنا يوسف حنا دورًا لوجيستيًا فاعلًا في نقل ما يخص الأب متى المسكين ورهبانه من دير الأنبا صموئيل لدير الأنبا مقار بشاحنات واحدة من الشركات التي يشرف ويراجع حساباتها.
لم يختلف قداسة البابا كيرلس عن سابقيه في الموقف المناوئ للمجلس الملي باعتباره رقيبا ماليًا على البابا، في مناخ مجتمع أبوي، خارج الكنيسة وداخلها، وظني أن لهذا علاقة ما بصدور القانون رقم 264 لسنة 1960م الذي أنشأ هيئة الأوقاف القبطية، ليدير ويشرف على أوقاف الكنيسة، وهي المهمة التي كان يقوم بها المجلس الملي العام، ضمن عديد من المهام الأخرى، واللافت أن المجلس الملي يتم اعتماد تشكيله بقرار من وزير الداخلية، فيما يتم تشكيل هيئة الأوقاف القبطية بقرار جمهوري يعتمد ترشيحات الكنيسة.
والمتابع لمهام المجلس الملي العام يلحظ تقلصها بالتتابع، بدءًا من صدور القانون رقم 462 لسنة 1955 الذي يقضى بإلغاء المحاكم الشرعية والمحاكم الملية وإحالة القضايا المنظورة أمامها للمحاكم الوطنية، ثم تشكيل هيئة الأوقاف القبطية التي أشرنا إليها قبلًا، ثم تتوالى القرارات الاشتراكية التي كان من نتائجها إحالة تبعية المدارس القبطية لوزارة التربية والتعليم، والمستشفيات القبطية لوزارة الصحة، ولم يتبق للمجلس سوى الوجاهة الاجتماعية، واعتبار أعضائه من المقربين للكنيسة الأمر الذي يدفع بهم الى رأس القائمة التي يُختار منها المعينون في البرلمان او غيره من المؤسسات الرسمية في الدولة.
ولا يمكن الاقتراب من هذه المرحلة دون ذكر حدثين كبيرين في تاريخ الكنيسة، الأول وضع حجر أساس الكاتدرائية المرقسية بالعباسية وهي المقر الرسمي للبابا البطريرك، فى 24 يوليو 1965م مواكبًا للاحتفال بذكرى ثورة يوليو 52، في رسالة ذات مغزى للعالم أجمع، وحضر الاحتفال مشاركًا في وضع حجر الأساس الرئيس جمال عبد الناصر، والإمبراطور هيلاسيلاسي إمبراطور إثيوبيا، والعديد من رؤساء الكنائس في العالم.
والثاني عودة رفات القديس مرقس الرسول مؤسس الكنيسة المصرية وأحد كتاب الإنجيل الأربعة، وكان البابا كيرلس السادس قد انتدب وفدًا رسميا للسفر إلى روما لتسلم الرفات من البابا بولس السادس، يتألف من عشرة من المطارنة والأساقفة بينهم ثلاثة من المطارنة الإثيوبيين، إضافة إلى ثلاثة من كبار أراخنة الأقباط. وعادوا به في 24 يونيو 1968م، وتم استقبال الرفات في احتفال مهيب بدأ من مطار القاهرة حتى الكاتدرائية المرقسية، في ثاني يوم لافتتاحها رسميًا، الذي تم في حضور الرئيس جمال عبد الناصر، والإمبراطور هيلاسيلاسي.
وفى مشهد مهيب وضع صندوق الرفات في المزار المعد له تحت الهيكل الكبير ووضع الصندوق في جسم المذبح الرخامي القائم في وسط المزار وغطي بغطاء رخامي ومن فوقه مائدة المذبح.
على الجانب الآخر في مقابل الإنجازات التاريخية نرصد أمورًا أسست لإشكاليات تحتاج مراجعة وإعادة هيكلة، لعل أهمها قرار البابا كيرلس إغلاق مدرسة الرهبان بحلوان وعودة الرهبان الدارسين فيها إلى أديرتهم ـ وقد أشرنا إلى هذا قبلًا ـ وقيل في تبرير ذلك أنها صارت عبئًا على ميزانية الكنيسة، وهناك من يرى أن إغلاقها يأتي في سياق قرار البابا بعودة الرهبان إلى أديرتهم دون استثناء، وقد أشار القمص صليب سوريال، في واحدة من محاضراته المسجلة، إلى حوار له مع قداسة البابا عن استثناء الأب متى ورهبانه من قرار العودة للدير تأسيسًا على أنهم يقومون بدور بحثي آبائي تكريسي -بحلوان أيضًا ـ لكن الأب البطريرك رفض أية استثناءات.
وعادت الكنيسة للاختيار من الرهبان دون إعداد أو تأهيل للانتقال من مناخات الرهبنة إلى الفضاء الرعوي، وهو الأمر الذي تفاقم فيما بعد، إلى حد دفع من يراد رسامته أسقفًا لدخول الدير لشهور استيفاءً لشرط الاختيار من بين الرهبان، وكان لهذا أثره المربك للكنيسة.
ثمة أمرًا آخر يبدو ظاهريًا أنه تعميق للروحانية وهو تعميم آداء صلاة القداس يوميًا، ومن البديهيات أن من يقترب من هذا الأمر سعيًا للعودة إلى اقتصار آداء القداسات على أيام الأحد والأربعاء والجمعة، سيواجه بهجوم ممتد بأنه لا يستوعب روحانية الطقس وأهمية الليتورجية، وقد يتهم بإضعاف الكنيسة وكسر وصية الكتاب أنه ينبغي أن يُصلى كل حين.
ومن يعود للكنيسة الأولى يتيقن أنها كانت تجتمع في يوم الرب للصلاة وكسر الخبز، وأن إضافة يوم الجمعة، مؤخرًا، جاء تلبية لاحتياج الرعية التي صار قطاع كبير منها يعمل بوظائف حكومية أو في هيئات وشركات خاصة إجازاتها الأسبوعية الجمعة، فقررت الكنيسة إتاحة صلاة القداس لهم يوم الجمعة بل ونقلت أو أضافت خدمة مدارس الأحد إلى يوم الجمعة لكون إجازات المدارس الجمعة.
والكاهن القبطي مثقل بالتزامات رعوية وطقسية تبتلع يومه وجل حياته، ما بين صلوات القداسات والعشيات، وصلوات الجنازات والأكاليل ومسحة المرضى وحل مشكلات الأسر سواء الأزواج أو الأبناء، ورعاية المعوزين وخدمة الكلمة في الاجتماعات المتنوعة وترتيبها، فضلَا عن مسؤولياته الأسرية، وعلاقته بإخوته الكهنة وبأبيه الأسقف، وقبل هذا كله هو محمل بكيف يرضي الرب!، وغالبًا ما تتضارب وربما تتعارض هذه الدوائر وبعضها، وهو ما رصده أبينا الأسقف الأنبا بيمن أسقف ملوي بالمشاركة مع القمص يوسف أسعد في كتابهما الكاهن القبطي (1986).
وحتى تلتزم الكنيسة بشيوع القداس اليومي من جانب، وزيادة أعداد الرعية من جانب آخر، كان من الضروري زيادة رسامات كهنة الكنائس، واتجهت الكنيسة ـ في تلك المرحلة ـ إلى الاختيار من خارج صفوف الإكليريكيين، اكتفاءً بكونهم خدام بمدارس الأحد واجتماعات الشباب، ظنًا أن مؤهلاتهم الدراسية العليا في الجامعات تكفي، ولم يكن هذا صحيحًا، لتشهد الكنائس تراجع التعليم المرجعي والاستغراق في نسق التأملات المفتوحة وفق خلفيات كل كاهن. ولم ننتبه إلى أن هذه الرسامات تقلص الحضور القبطي المجتمعي في مختلف المجالات التي يُرسم كوادرها كهنة.
وفي مرحلة لاحقة انحصرت الرسامات ـ خاصة في إيبارشية البابا ـ في خريجي القسم المسائي من الكلية الإكليريكية ـ الذي يلتحق به حملة المؤهلات الجامعية ـ وكانت وقتها لا تعدو مستوى اجتماعات الشباب، لافتقارها للكوادر المؤهلة للتدريس بها. الأمر الذي انعكس على خريجي القسم النهاري ـ عصب الكلية ـ فراحوا يبحثون عن رساماتهم في الأقاليم أو يستسلمون للبطالة أو اللجوء لتحويل المسار بالسعي لاكتساب مهارات لأعمال أخرى. ولنا عودة لإشكاليات التعليم في الجزء التالي من هذا الفصل.
استحداث رسامة أسقف عام، أسقف تسند إليه مهام كنسية عامة بدون إيبارشية، أفرز العديد من الأزمات، لعل أبرزها تنازع الاختصاصات مع أساقفة الإيبارشيات، وكان هذا واضحًا في عمل أسقف التعليم، في جولانه بالإيبارشيات المختلفة والاجتماع مع شبابها ورعيتها لإلقاء محاضراته، وهو الأمر الذي أثار قلق أساقفة تلك الإيبارشيات، واعتباره تدخل في أعمالهم، حتى أن بعضهم منعه من دخول إيبارشيته، ويسجل التاريخ تصادمه مع قداسة البابا نفسه، الأمر الذي دعاه لرسامة أسقف للبحث العلمي، تحجيمًا لصلاحيات أسقف التعليم، الذي اعتبره اعتداء على صلاحياته باعتبار أن البحث العلمي ومعهد الدراسات القبطية ضمن اختصاصاته، وانعكس هذا على علاقة الأسقفين حتى بعد تجليس أسقف التعليم بطريركًا، ما دفع البابا الى الأمر برجوع أسقف التعليم إلى ديره، الذي شن حملة هجوم ضارية على البابا في مجلة الكرازة في إصدارها الأول.
اللافت أن رسامة الأساقفة العموم لم تتوقف بعد رحيل البابا كيرلس بل استمرت حتى اللحظة، بل تطورت إلى رسامتهم بدون مهام محددة، لحين تجليسهم على الإيبارشيات التي يرحل أساقفتها، وهو أمر يحتاج مراجعة وضبط على القوانين والأعراف الكنسية المنظمة لضوابط اختيار الأساقفة ودوائر مسؤولياتهم، باعتبارهم رعاة لرعية.
وشهدت حبرية البابا كيرلس إقبال الشباب على الرهبنة انبهارًا بتجربة الرواد الثلاثة؛ الأب متى المسكين والراهبان مكاري وأنطونيوس السريانيين، (الأنبا صموئيل أسقف الخدمات، والأنبا شنودة أسقف التعليم فيما بعد)، وإن تعددت الدوافع والأهداف، في ظل مجتمع عام ضاغط وطارد، وفي المقابل اتجهت الكنيسة لتعميم رسامة أساقفة للأديرة، بعد أن كانت أغلبيتها يتولى إدارتها أحد رهبانها، وكان لهذين المتغيرين انعكاساتهما على الأديرة، سلبًا وإيجابًا وهو ما سنعرض له ضمن أطروحات الجزء التالي من هذا الفصل.
صدر للكاتب:
كتاب: العلمانيون والكنيسة: صراعات وتحالفات ٢٠٠٩
كتاب: قراءة في واقعنا الكنسي ٢٠١٥
كتاب: الكنيسة.. صراع أم مخاض ميلاد ٢٠١٨