قرأت في احد الكتب الأدبية عبارة للكاتب الكبير أنيس منصور، توقفت عندها كثيرًا، بل إنني استخدمتها في كلمة عن حساب النفس في كل عام جديد، هذه العبارة هي: إني أقلب نفسي بيدي وأتفرج عليها.. برفق كأنني احبها، وبقسوة كأنني أكرهها
، فهي تصلح منهجًا لحساب النفس خصوصا للخدام علي اختلاف درجاتهم، فحساب النفس برفق حتي لا يسقط الإنسان في صغر النفس أو اليأس، وبقسوة حتي لا يتهاون أو يصاب بالاستهتار. تذكرت هذه المقولة لاستهل بها كلامي عن حساسية الضمير.
يحكي لنا التاريخ الكنسي قصة وقعت مع القديس الأنبا باخوميوس، أب الشركة، ويسرد لنا التاريخ بأن الأنبا باخوميوس لم يكن في قلايته وقت أن زاره ملك البلاد، إذ كان الأنبا باخوميوس ينعزل في مغارة بعيدة كل فترة. ولم يكن لدي الملك وقتًا وأراد الانصراف، فطلب الملك من تادرس تلميذ الأنبا باخوميوس أن يعطيه معطف [بالطو] معلمه الأنبا باخوميوس -كبركة- في مقابل أن يترك الملك معطفه الملكي الفخم ليستخدمه الأنبا باخوميوس في البرد بدلا من معطفه. وكان معطف الأنبا باخوميوس كراهب، قديمًا وليس في حالة جيدة، وانصرف الملك حاملًا معه معطف الأنبا باخوميوس، ولما عاد الأنبا باخوميوس إلى قلايته وشعر بالبرودة فطلب من تلميذه تادرس إحضار المعطف، فاحضر له تادرس تلميذه المعطف الملكي وقص عليه ما حدث مع الملك، فغضب الأنبا باخوميوس من تصرف تلميذه وانتهره قائلًا: هل هذا هو لباس الرهبان؟
فبكي تادرس طالبًا من معلمه السماح، ويقال أن الأنبا باخوميوس أفاق من غضبه وكان يصلي لمدة طويلة [حسب الرواية سبع سنوات] قائلًا: سامحني يا رب لأني أحزنت قلب تلميذي.
لماذا أذكر هذه القصة في هذا المقال؟ أذكرها مثالًا علي حساسية الضمير، والإحساس بمشاعر الغير، ومسئولية الآباء الروحيين نحو الرعية، فبمجرد أن شعر الأنبا باخوميوس بجرحه لتلميذه تادرس، شعر بتأنيب الضمير لأنه جرح مشاعر تلميذه وأحزن قلبه، وطلب من الرب المغفرة والسماح. منذ فترة رأيت بعيني رأسي وسمعت بأذني كاهنًا ينتهر طبيبًا شماسًا وشيخًا في سن الخامسة والثمانين من عمره، لأنه تأخر في إحضار الشورية، وفعل ذلك أمام كل الشعب دون مراعاة لمكانته، وسنه، فقد كان هذا الطبيب طبيبًا شهيرًا قبل أن يولد هذا الكاهن، وبعد القداس كأن شيئا لم يكن، انصرف الكاهن بكل كبرياء دون أن يطيّب قلب الشماس الشيخ، وطيبت قلب الرجل الشيخ الوقور الذي رفض أن يجلس في بيته بعد سن المعاش وفضل خدمة الكنيسة في ما تبقي من عمره.
والكتاب المقدس ذكر لنا في وصفه للرب يسوع المسيح له المجد: قَصَبَةً مَرْضُوضَةً لاَ يَقْصِفُ، وَفَتِيلَةً مُدَخِّنَةً لاَ يطفئ
(إنجيل متى 12: 20)
أما ما نراه الآن في خدامنا من مطارنة وأساقفة وكهنة ورهبان وخدام هو تجاهل تام لمشاعر الرعية، وبجرح الراعي أبناؤه بكل قسوة دون أي تأنيب للضمير، تري ما هي أسباب قساوة القلب التي نشاهدها في جميع الرتب الكهنوتية في كنيستنا القبطية الأرثوذكسية هذه الأيام، وكيف نصل إلي حساسية الضمير في الخدمة.
أري أن هناك أسبابًا كثيرة لقساوة القلب وعدم حساسية الضمير أو بالأحرى موت الضمير في رجال الكهنوت، ويشترك في المسئولية الرعاة والرعية. أوجز بعض هذه الأسباب في النقاط الآتية:
١. السلطة المطلقة، فالكاهن أو الأسقف تعود ان يسمع كلمات المدح فقط من المنافقين حوله، ويضيق صدره بأي انتقاد حتي لو كان الكاهن ملومًا، فقد تعود علي الطاعة العمياء من الشعب البسيط دون أي مناقشه، يأمر فيطاع، وإذا اعترض أحد فلن يأخذ البركة ويهدد أبناؤه مستخدمًا المقولة الشهيرة ابن الطاعة تحل عليه البركة.
٢. تكوين شخصية رجل الكهنوت والبيئة المحيطة التي نشأ فيها، وهل شبع من الحب العائلي أم انه عاني كثيرًا في صغره.
٣. بساطة غالبية الشعب وتعوده علي الخضوع الكامل الذي يصل إلى الخنوع والطاعة العمياء للكاهن ظنا منهم أنّه لا يخطئ مما يجعل الراعي يتمادى في تسلطه.
٤. خوف كثير من الشعب من غضب الكاهن وإن شيئًا سيئًا سيحدث لهم كانتقام من الله في حالة عدم الطاعة، ناسين أن الله عادل ويعامل الجميع كأبناء متساويين بغض النظر عن الكرامات الأرضية مما يشجع الآباء علي التمادي في السلطة وإلقاء الأوامر دون أي دراسة أو النظر في موائمة هذه الأوامر ومطابقتها لروح تعاليم الرب يسوع المسيح له المجد.
٥. الآباء المتسلطون، يتناسون أن الذي أوصلهم لهذه الكرامة هو صاحب الكرم لخدمة أولاده والوصول بهم إلى حضن الآب السماوي، بل ويتباهى بعضهم ويسرد كيفية معاملته الخشنة مع الشعب واصفا ذلك بالحكمة المطلوبة ظانًا أن هذا هو الحزم حتي يسيطر علي الرعية.
٦. تعود الآباء علي الخدمات الطقسية والتي قد تؤدى من البعض منهم في تسرع مخل ودون روح وتكاد لا تفهم ما يقال، وهؤلاء يكتفون بذلك معتقدين أن هذه هي الخدمة وكفي، ويضيق صدرهم بأي شكوي من الرعية.
٧. سطحية العلاقة مع صاحب الكرم وعدم التعمق في العلاقة بالثالوث القدوس ويكتفي ببعض التعبيرات الدينية والتي توهم الشعب بقداستهم وامتيازهم.
٨. السعي وراء جثث الآباء وبدلا من إكرامهم يقسمون رفاتهم بلا رحمة حتي يجذبوا الشعب إلى الكنيسة لأخذ بركة القديسين، مما يزيد من دخل الكنيسة المادي، من شموع وتبرعات وما شابه ذلك، حتي تجرأ البعض ووضعوا جوربًا [شراب] كان يرتديه أحد الآباء المتنيحين في أنبوبة تزف في تذكار نياحة القديس.
٩. تهاون قادة الكنيسة في أخطاء الآباء بل والدفاع عنهم مدعين أن هذه هي المحبة والستر وعدم نشر الغسيل الغير نظيف علي العلمانيين، بالرغم من قول الكتاب أفمت حراسًا علي أورشليم. مما جعل بعض الآباء يتهاونون في الخدمة ويعاملون الشعب بتسلط دون أي حساسية للضمير. هناك أسبابًا أخرى كثيرة، فالموضوع محتاج مراجعة علي أعلي مستوي في الكنيسة، لوضع حدودا فاصلة للعلاقة بين الرعاة والرعية.
١٠. تحويل بيت الآب السماوي الذي هو الكنيسة إلى بيت تجارة، بدأت في الأديرة ثم انتشرت في الكنائس، من جمعيات تعاونية لبيع المواد الغذائية والمشروبات مما اخل بشعور الفرد بقدسية الكنيسة وتميزها عن أي مكان في العالم.
في جميع ما أكتب عن الإصلاح الكنسي، لا أتطرق إطلاقًا إلى الأمور والخلافات اللاهوتية، لأننا لكي نتفق في الأمور اللاهوتية، لابد من إصلاح البيت من الداخل، حينئذ سوف تختفي الخلافات اللاهوتية بالإتضاع والانفتاح علي اللاهوت العالمي لفهم الآخر وبثقافة الحوار والوصول إلى مشتهي قلب ربنا يسوع المسيح وبروح المحبة الحقيقية التي هي رباط الكمال والاتحاد دون التفريط في أساسيات الإيمان المقدس.