يرحل قداسة البابا كيرلس السادس بشيبة صالحة ـ 9 مارس 1971م – بعد مرحلة تأسيسية هامة في تاريخ الكنيسة والوطن، وبعد رحيل الرئيس جمال عبد الناصر بشهور قليلة ـ 28 سبتمبر 1970م ـ لتبدأ مرحلة جديدة على المستويين الكنسي والوطني تحمل متغيرات فارقة في كليهما، تراوحت بين المهادنة والمواجهات العاصفة.
لم يكن البابا الجديد ـ قداسة البابا شنودة الثالث ـ وجها غريبًا على الشارع القبطي فقد عرفه لنحو عشر سنوات (1962 ـ 1971) بصفته أسقفًا للتعليم، عبر اجتماعه الأسبوعي المستحدث، وفيه أسس لمدرسة جديدة في الوعظ كسرت النمط السائد قبلها، حين كانت اللغة المستخدمة قبله تعتمد الفصحى في أغلبها، وتدعمها بلغة الجسد وتنويعات نبرة الصوت، فإذا به يستخدم لغة تقترب من لغة الصحافة، وفي هدوء باعث للطمأنينة والثقة، يمكن أن توصف بالسهل الممتنع، لم تتنكر للفصحى ولم تقع في تعقيداتها، مدعومة بالحكايات وبعض من طرائف، تكسر الحاجز بين المنصة والقاعة، وكانت اختياراته ذكية، تتلامس مع شجن المتلقين واحتياجاتهم النفسية والروحية، في مناخ عام ضاغط، فمازلت أتذكر اجتماعاته الأولى المفتوحة للكافة في مطعم الكلية الإكليريكية، كانت تدور حول مزامير السواعي، وأكاد أتذكر تفاصيل حديثه عن مزمور يستجيب لك الرب في يوم شدتك…
، الذي تلامس مع كل فرد من الحضور، لعل من عوامل الإبهار آنئذ أن يتاح لنا أن نجلس إلى أسقف، يحادثنا ونسأله، في وقت كان للأسقف هيبته وشموخه.
لم يكن وصوله للكرسي البابوي رمية بغير رام، فالمتتبع لسيرته يجد أن سعيه لهذا بدأ مبكرًا، عقب رحيل قداسة البابا يوساب الثاني، 14 نوفمبر 1956م.، إذ كان اسم الراهب أنطونيوس السرياني ضمن قائمة المرشحين، ولم يكن قد مضى على رهبنته عامين، ومعه كمرشحين بعض من شباب الرهبان، الأمر الذي أقلق الكنيسة والحكام الجدد، ضباط يوليو، وكانوا شبابًا من جيلهم أيضًا، فكان أن تم تعديل لائحة انتخاب البابا البطريرك فيما يتعلق بشروط الترشح، السن ومدة الرهبة، ليحول دون ترشحهم، وقد كان، لكن الزمن يمضى وتسقط هذه الموانع لاستيفائهم تلك الشروط، عندما يرحل البابا كيرلس السادس ويقفز اسم الأنبا شنودة أسقف التعليم مجددًا في قوائم المرشحين، وهو نفسه الراهب أنطونيوس السرياني، وتأتي به القرعة الهيكلية إلى موقع البابا البطريرك.
في تقديري هذا الإصرار يعني أمرين؛ الأول أنه مؤمن ومرتكز على قول القديس بولس الرسول في رسالته الأولى لتلميذه تيموثاوس صَادِقَةٌ هِيَ الْكَلِمَةُ: إِنِ ابْتَغَى أَحَدٌ الأُسْقُفِيَّةَ، فَيَشْتَهِي عَمَلاً صَالِحًا
، والثاني أن لديه رؤية ملحة لإدارة الكنيسة وتصحيح ما يراه في إدارتها من عوار، متأثرة بالضرورة بتجاربه السياسية في شبابه، حين اقترب لفترة في بواكير شبابه من المجاهد الأكبر الزعيم مكرم عبيد في حزب الكتلة الوفدية، ولعل هذا أحد أهم الأسباب التي دفعته للرهبنة كطريق أوحد للوصول إلى إدارة الكنيسة، بعد أن فشلت محاولة جماعة مدارس الأحد في الدفع برائدهم الأستاذ حبيب جرجس إلى كرسي الأسقفية، وبعد فشل جماعة الأمة القبطية في فرض التغيير عنوة باختطاف البابا الأسبق الأنبا يوساب وإجباره على توقيع وثيقة تنازل عن موقعه.
استلم قداسة البابا شنودة الكنيسة وبها 27 مطرانًا وأسقفًا، وقام على مدى حبريته التي امتدت لنحو أربعين عامًا (1972 ـ 2012) برسامة 116 أسقفًا إضافة إلى رسامة خوري إبسكوبوس واحد، منهم خمسة أساقفة لإريتريا، والباقي لتغطية احتياجات الكنيسة بعد تقسيم إيبارشيات من رحل من المطارنة والأساقفة والبالغ عددهم 41، وتوسعات كنائس المهجر، إضافة إلى الأساقفة العموميين. [1].
كانت الإيبارشيات وقت تجليس قداسة البابا شنودة الثالث مترامية الأطراف، بعضها تشمل محافظة بأكملها، وبعضها تضم أكثر من محافظة، وكان غالبية الآباء المطارنة من الكهول الذين توالى رحيلهم، فيقوم قداسة البابا بتقسيم الإيبارشية التي يرحل مطرانها إلى كيانات رعوية (إيبارشيات صغيرة) ويقيم على كل منها أسقفًا، سعيًا لخدمة أفضل، فضلًا عن تقسيم إيبارشية البابا إلى أقسام تضم عدد من الأحياء يسند إدارتها لأسقف عام، دون تجليس، فتبقى كما هي إيبارشية أسقفها البابا، يديرها من خلال معاونيه الأساقفة العموميين. وهي رؤية تحتاج لتقييم ومراجعة بعد تراكم خبرات التطبيق وهي ليست في معظمها إيجابية.
كان من نتائج هذا التقسيم وقد صارت الإيبارشية تضم عددًا محدودًا من المراكز وما يتبعها من قرى، وفي إيبارشية البابا عدد يتراوح من عشرة إلى نحو عشرين كنيسة يديرها أسقف عام، كان من نتائج هذا أن تقلص دور الأب القمص (الإيغومانس) ليحمل الأسقف مهمة تلقي مطالب وشكاوى القسوس والرعية بشكل مباشر، الأمر الذي أربك سياق الخدمة، ومثل ضغطًا على الأب الأسقف، بجوار مهامه الرعوية الاعتيادية، واللافت قيامه بزيارات مكوكية لأقباط المهجر من أبناء إيبارشيته أو لكشف طبي دوري، أو لتغطية احتياجات الإيبارشية، من عطايا أقباط المهجر. وينعكس هذا سلبًا على واقع الخدمة في كثير من الأحوال. وتتحول رتبة القمصية إلى رتبة شرفية تعطى تكريمًا لكبار القسوس سنًا أو رسامة.
ومع التوسع في تقسيم الإيبارشيات تراجعت الشروط الموضوعية في الاختيار من الرهبان لرتبة الأسقفية، وصار لأبناء الطاعة حظًا أوفر من أصحاب الخبرة والحكمة والوعي في الاختيار، وكما أشرنا قبلًا فبعضهم دُفع إلى دخول الدير لشهور قد لا تتجاوز العام ليتم رسامته استيفاء لشرط الاختيار من بين الرهبان، رغم أن القوانين الكنسية ذات الصلة تسمح بالاختيار من المتبتلين دون رهبنة، وتاريخ الكنيسة يشهد لاختيارات عديدة حتى في رتبة البابا البطريرك من المتبتلين غير الرهبان.
كانت باكورة رسامات الأساقفة مبشرة بكتيبة خدمة يمكنها أن تقتحم حصون الانقطاع المعرفي والتراجع الذي طال، وتحديات المتربصين بالكنيسة، كتيبة تمتلك قاعدة روحية ومعرفية ولغة خطاب تؤسس لبناء لاهوتي وفكري أرثوذكسي يعيد التواصل مع التراث الآبائي والكتابي، إذ جاءت من رفاق مسيرة الخدمة والتكريس، قامات واعية وباحثة وباذلة، لكن يبدو أن الواقع كان ضاغطًا وأكثر تعقيدًا من الرؤى الطوباوية، فبدت الحاجة إلى تشكيل ظهير يدعم توجه القائد في مواجهة الحرس القديم، ومواجهة إرهاصات جماعات إرهابية بدت تتشكل في الأفق السياسي، لنجد خريطة رسامات الأساقفة تتشعب بين من يدركون مسؤولياتهم وصلاحياتهم، وآخرون يفتقرون للخبرة الرعوية في إدارة إيبارشياتهم، وبعضهم يديرونها برؤى رهبانية متعسفة لا تناسب طبيعة الخدمة خارج الأديرة، وبعضهم يديرونها برؤى ذاتية تفتقر للأبوة والوعي الآبائي المدرك لمسؤولية خلاص الرعية. كانت رسامات في أغلبها من شباب الرهبان، قليلي الخبرة ومن ثم الحكمة، يعيدون للذهن صورة أولئك الشباب الذين استشارهم رحبعام بن سليمان، وأخذ بمشورتهم متغاضيًا عن نصيحة الشيوخ، وكانت النتيجة وبالًا على مملكته. وأتذكر أن الرئيس السادات قال موجهًا كلامه لقداسة البابا في خضم التصعيد بينهما بيِّض لحاهم يا شنودة
.
قبل خريطة الرسامات تأتي خريطة الرهبنة؛ التي شهدت قفزات كبيرة بدأت مع مغامرة دخول الرواد الثلاثة متى المسكين ومكاري السرياني وأنطونيوس السرياني، وهم من هم في أوساط الشباب، ربما باستثناء الأول الذي تسلل خفية قاصدًا مناخًا ومكانًا يتيحان له تفرغًا كاملًا يتعرف فيه بعمق على حكاية الإنسان ما بين الخلق والسقوط والفداء كما تتكشف في أسفار الكتاب المقدس بحسب روايته التي سجلها مبكرًا بين رهبانه على شريط يحمل عنوان تأثير الإنجيل في حياته الرهبانية
.
اللافت أن أسوار دير السريان احتوتهم معًا في مرحلة من مراحل البدايات، لكن تأثيرهم قفز فوق تلك الأسوار وراح يتنسمه شباب جيلهم كرائحة بخور ذكية، فتأثر بهم العشرات من حملة الشهادات الجامعية بمختلف التخصصات وقصدوا الاقتداء بهم، فراحوا يطرقون أبواب الأديرة، في أفواج بعثت الحياة في صحرائها.
تجري في نهر المجتمع مياه كثيرة يضطرب معها الاقتصاد، ونعرف مصطلحات التضخم والبطالة، والهجرة إلى الخارج، وعلى هامش هذا يلجأ طيف من الشباب إلى الرهبنة، حيث المأوى والحياة حتى بتوفر الحد الأدنى من مقومات الحياة، وقتها، بغطاء يبدو روحيًا، ينخرطون في الحياة الرهبانية، وقد يصادف الحظ بعضهم فيقع عليهم الاختيار للخدمة خارج أسوار الدير. ومع انخراط الأديرة في تطوير ما كان يعرف بـ “عمل اليدين” كمصدر يوفر احتياجات الدير والرهبان من مأكل وضروريات الحياة، مع توفر خبرات المنضمين الجدد من المتخصصين في مجالات الزراعة والتصنيع الزراعي والإدارة، باحت الصحراء لهم بأسرارها، وعرفت الأديرة الزراعات المكثفة، ومشروعات الثروة الحيوانية والداجنة، ومن ثم مشروعات التصنيع الزراعي فكان قبول الهاربين من البطالة يسد احتياجاتها من الأيدي العاملة وبدون تكلفة تذكر، وعرفت الأديرة طريقها إلى دوائر التسويق المحلي وبعضها إلى التصدير.
لم تعد نذور الرهبنة قادرة على مقاومة التطورات المتلاحقة التي اقتحمت الأديرة، وهو في بعضه نتج عن سياسات إدارة الدير، بعد أن اتجهت الكنيسة لرسامة أسقف لكل دير، ليصير الاستثناء قاعدة، ويصير أسقف الدير في غالبية الأديرة أب اعتراف أوحد لكل رهبان ديره، وينزوي شيوخ الرهبان، ومعهم تتراجع التلمذة وتختفي، ويطرق الكهنوت قلالي الرهبان، رغم تحذيرات مؤسسي الرهبنة في القرون الأولى من هذا، واعتبروه علامة لاضطراب الرهبنة وربما انهيارها، وعرفت الأديرة قوائم انتظار رسامة رهبانها كهنة، وصار تخطي راهب منها في دوره عقوبة وعلامة غضب عليه من الرؤساء، وخلف الأسوار حكايات عن تداعيات ذلك تصل للاكتئاب وربما الموت كمدًا. وفي مقابل ذلك كان هناك البعض من الرهبان يرفضون الدخول في سلك الكهنوت حتى الشموسية، واحتفظوا بكونهم علمانيين، تأسيسًا على كون الرهبنة بالأساس حركة علمانية لا دخل للإكليروس في تأسيسها، ولم ينل غالبية مؤسسيها أية درجة كهنوتية.
تتحول الأديرة حثيثًا إلى مؤسسات اقتصادية منتجة، وتشرع أبوابها للزيارات والرحلات، فضلًا عن الخلوات الروحية التي تتيح للشباب الإقامة بالدير لبضعة أيام، وبين الرحلات والزيات والخلوات يتزايد اتخاذ روادها للرهبان الكهنة آباء اعتراف، بديلًا عن كهنة الكنائس المحلية، والتبريرات حاضرة في تنويعات روحانية تفتقر للتدقيق، وتأتي النتائج سلبية على الراهب الكاهن، والمعترف/ـة، والدير، والكنيسة المحلية، وتزيف الحياة الروحية بجملتها، وتعاني الأسر من شيزوفرينية أبناءها، بل وتختل الأسر الجديدة التي يكون أحد أطرافها من هؤلاء الشباب لتمزقهم بين مفاهيم الحياة المعاشة ونظائرها الرهبانية التي تزاحم أذهانهم.
كان من الطبيعي والحال كذلك أن تتراجع الحياة الرهبانية عما استقر في أدبياتها وتراثها، بعد أن زاحمتها أمور من خارجها، لعل أبرزها مغازلة الكهنوت للخدمة خارج أسوارها، واختفاء التلمذة العمود الفقري لنقل الخبرات الرهبانية من جيل إلى جيل، وطوفان الزيارات التي لا تنقطع، وما تحمله من اشتباكات مع النذور الرهبانية الأساسية، سواء وقت الزيارات أو بعد اختلاء الراهب إلى نفسه.
ومن الأمور التي زاحمت التزامات الرهبنة التقليدية ضغوط العمل المباشر، أو الإشراف عليه، في المشروعات المستحدثة، وهنا لابد أن نذكر أن هذه المشروعات بدأت في أديرة وادي النطرون انطلاقًا من دير “أبو مقار”، الذي لم ينتبه لتداعياتها وآثارها السلبية على المدى الطويل على طبيعة الرهبنة، ولم يقدم حلولًا توازن بين الالتزامات الرهبانية الحياتية للراهب، وبين متطلبات هذه المشروعات.
وكان من الطبيعي أن تتجه الأديرة إلى بناء كاتدرائيات داخل أسوارها والاحتفال بالأعياد والمناسبات في حضور غفير للمصلين من زوار الدير، وعلى أسوارها يتم إنشاء منافذ لتوزيع منتجات الدير بإشراف رهباني فيما يشبه سوق المدينة.
ومع اقترابنا من خريطة الرهبنة نستطيع أن نفهم خريطة الرسامات، واختلالاتها، من سبعينيات القرن المنصرم وحتى اللحظة. وهي اختلالات ستظل قائمة ما لم تلتفت الكنيسة إلى إعادة هيكلة منظومة الرهبنة، لتعيد لها انضباطها وخصوصيتها وعمقها تأسيسًا على نذورها الأولى، فيما يخص الرهبنة الديرية التقليدية، وهي حسب أدبياتها؛ العفة (البتولية)، العزلة، عدم القنية (الفقر الاختياري).
والتدرج في عودة رئاسة الدير لتسند إلى أحد رهبانها وليس برسامة أسقف لها، وفك الارتباط القسري بينها وبين الكهنوت.
وعلى جانب أخر تأسيس وتقنين نمط “الرهبنة الخادمة”، ولكنائس تقليدية تجارب ناجحة فيها، وهي تقدم خدمتها للمجتمع في دوائر التعليم والصحة والخدمات الاجتماعية للفقراء والمعوزين، والخدمات البحثية للكنيسة. وبطبيعة الحال تبقى نذورها قائمة فيما عدا العزلة إذ تقيم في بنايات خاصة وسط الناس في المدن والقرى حيث مجال عملها.
يبقى لنا في سياق التعرض لمرحلة التغيرات الاقتراب من المواجهات العاصفة، وتحديدًا قضيتان اشتعلت بهما تلك المرحلة، الأولى الجدل بين المدارس الفكرية داخل الكنيسة، الذي تصاعد إلى حد اتهام الفرقاء بالهرطقة، والثانية المواجهة بين الكنيسة والدولة التي تصاعدت وتفاقمت وانفجرت في قرارات رئاسية عنيفة في 5 سبتمبر، وسوف نقترب منهما في جزء ثالث من هذا الفصل، في مقال تال.
صدر للكاتب:
كتاب: العلمانيون والكنيسة: صراعات وتحالفات ٢٠٠٩
كتاب: قراءة في واقعنا الكنسي ٢٠١٥
كتاب: الكنيسة.. صراع أم مخاض ميلاد ٢٠١٨