المقال رقم 52 من 53 في سلسلة تاريخ الإخوان والسلطة
«( تاريخ الإخوان والسلطةwp-content/uploads/2024/09/تاريخ-الإخوان-والسلطة.webp

بينما كان المصريون يعيشون أيام ولاية مبارك الخامسة، واجهتهم حملة شرسة لتلميع صورة ابنه جمال. وكان الشعب هدفًا للمؤامرة بدعم مجموعة من المنتفعين الذين لا حدود لثرواتهم، وصوّروا جمال على أنه الاختيار الوحيد للأخذ بيد البلاد نحو مستقبل مشرق جديد.

لم يكن جمال مجرد الخبير الاقتصادي الكبير صاحب الحلول السحرية، بل كان أيضًا شابًا قويًا وصاحب مهارات في كرة القدم، معشوقة المصريين. ولكن كانت هناك مشكلة وحيدة، وهي ببساطة أن المصريين لا يحبونه. فجمال شخص فيه استعلاء داخلي بلا حدود، لا يتحدث مع أحد بسهولة، متحفظ للغاية، ولا يعرف كيف يضحك أو يداعب الآخرين، ثقيل الكاريزما إلى حد كبير جدًا، مفتقدًا القدرة على التواصل، ومفتقدًا للذكاء العاطفي.

لكن لم تكن شخصية جمال هي العقبة الوحيدة، فلابد للرئيس المصري أن تكون له سيدة أولى. أما جمال، الذي بلغ سن الرابعة والأربعين، لا يزال عازبًا. وجاءت خديجة محمود الجمال، ذات الثلاثة والعشرين ربيعًا، التي كانت أصغر بكثير من الرجل الطامح إلى الرئاسة، ولكن لا يعرف أحدًا بالضبط ما الذي جذب جمال إليها. لكن حدث ما حدث، وفي 4 مايو 2007، يوم ميلاد ال، أقيم حفل الزفاف الرئاسي في شرم الشيخ، المنتجع المفضل لدى مبارك الأب. وفي سبتمبر من نفس العام، انعقد المؤتمر الرابع للحزب الوطني ال، الذي أعلن فيه تولي منصب الأمين العام المساعد للحزب الوطني، كبداية النهاية لتولي الوريث عرش البلاد.

من هذا التاريخ، بدأ جمال مبارك يكوّن حكمًا موازيًا لرئاسة والده، حتى أن بعض أعضاء كانوا يطلقون عليه لقب “الرئيس” بوصفه الرئيس القادم. وكان الجميع يتعامل معه بصفته الرئيس الفعلي، فتعرض عليه التقارير الرئاسية قبل أن تعرض على والده، رغم أنه لا مجال له من عمل في ديوان رئاسة الجمهورية. كما أن كل تحركاته كانت مصحوبة بحرس جمهوري، رغم أنه ليس له أي صفة تنفيذية أو تشريعية. بل إن جمال مبارك في كل زياراته الميدانية كان يقوم باصطحاب الوزراء والمحافظين معه وكأنه رئيس للجمهورية، وليس رئيسًا للجنة في أحد الأحزاب التي يصل عددها إلى 25 حزبًا. بل الأدهى من ذلك أن جمال مبارك عمل زيارات رسمية قابل فيها عددًا من المسؤولين بالخارج، وكان على رأسهم رئيس أمريكا ونائبه ديك تشيني ووزيرة الخارجية الأمريكية كونداليزا رايس وذلك في زيارتين مستخدمًا فيها طائرة رئاسة الجمهورية. بل إن والده بدأ يصحبه في الرحلات الرسمية التي يقوم بها خارج البلاد، رغم أن جمال مبارك لم يكن حتى دبلوماسيًا!

وبدأ جمال يتخذ عددًا من الإجراءات الاقتصادية التي أدت إلى تدهور أحوال المعيشة في مصر وزيادة معدلات الفقر، في حين أن المقربين من جمال مبارك ينهبون المليارات. ومنها إقناع رئيس الحكومة الأسبق بتحرير سعر الصرف، وهو ما أدى إلى زيادة الأسعار لانخفاض قيمة الجنيه أمام الدولار، وبالطبع زاد هذا من حجم معدلات الفقر، وتآكلت الطبقة الوسطى المصرية، الحاضنة الأساسية للأطباء والمهندسين والمعلمين في مصر، وأصبحت في تعداد الفقراء. لكن هذا لم يحدث مع المقربين من جمال مبارك الذين حققوا أرباحًا تقدر بالمليارات من جراء قرار تحرير سعر الصرف، حيث تسرب الخبر إلى أصحابه وشركائه قبل التنفيذ بأيام قليلة، فأنهالوا على سوق العملة الأجنبية لشرائها بكل ما يتوافر لديهم من سيولة، وفي ساعات قليلة زادت ثرواتهم بنسبة 50%.

كارثة الدويقة

لم يكن التعذيب الممنهج في مصر يتم في أقسام الشرطة فقط، وإنما كان يتم في كل مكان في مصر بأيدي الإهمال الممنهج أيضًا، حتى تحولت جميع حدود العاصمة إلى مناطق عشوائية تمتد على مساحة شاسعة، بينما تحولت مدن كاملة إلى عشوائيات مكتظة. وصارت مصر تكتظ بـ 1221 منطقة عشوائية، وتزداد الاحتجاجات والمظاهرات وتعلو الهتافات ضد الفساد والقمع، ولكنه هتاف لا يجد من يسمعه أو يعيره اهتمامًا، غير قوات الأمن التي ترد على الاحتجاجات بمزيد من العنف والقمع، إلى جانب مهانة مستمرة حتى في سبيل رغيف من الخبز لا يصلح للاستعمال الي. حتى وصل الأمر إلى حالات وفاة وإصابات وعنف شهدتها طوابير الخبز في شوارع المدينة، تصاعدت بشكل خاص عام 2008، وكأن كل هذا لا يكفي لقهر المواطنين البسطاء، فيُزاد عليهم الإهمال والتقصير حتى عندما تأتيهم الكارثة.

في الساعة الثامنة والنصف صباحًا من صبيحة يوم السادس من سبتمبر عام 2008، انهار جزء ضخم من صخور جبل المقطم فجأة فوق رؤوس سكانه، لتسحق وجودهم ببشاعة، وتهرس الصخور تحتها 50 بيتًا بسكانها. في نفس الوقت، كانت قوات الأمن تلقي القبض على كل صحفي يقترب من موقع الحدث لتغطيته، وتتبعها بالقبض على العديد من سكان المنطقة الموتورين على ضحاياهم بتهمة إثارة الشغب. في الوقت نفسه، كانت الحكومة تتقاعس عن أداء واجبها في انتشال الضحايا، مما دفع ذويهم من البسطاء بإمكانياتهم المتواضعة إلى القيام بهذا العمل.

قام الأهالي بدور غير مسبوق في انتشال الضحايا لمدة 25 يومًا بعد الانهيار، إلا أنهم لم يستطيعوا التغلب على الصخور الضخمة وانتشال باقي الضحايا، رغم علمهم بوجود أحياء تحت الركام. فقاموا بالردم عليهم وهم أحياء، رغم أن الإعلام الرسمي أدعى أن قوات الإنقاذ المدني قامت بإخراج كل الأحياء من تحت الأنقاض. مع أن الرافعات والأوناش الضخمة التي أتت بها القوات المدنية لم تتحرك أصلًا، بل ظلت ثابتة في أماكنها، عدا ونش واحد تحرك ليهدم أكثر من 15 منزلًا لم تصبها الصخرة المنهارة بعد إخلائها من سكانها، دون إيجاد مأوى بديل لهم. ويحكي أهالي المنطقة المآسي التي شاهدوها أثناء انتشال الجثث والأشلاء من تحت الأنقاض، التي لا يزال الكثير منهم مدفونًا تحتها حتى اليوم.

بعد مرور عام على مأساة انهيار صخرة المقطم فوق منطقة الدويقة العشوائية، قرر أهالي المنطقة إقامة عزاء جماعي لأهاليهم الذين ماتوا تحت أنقاض الجبل المنهار. فمنعت الشرطة إقامة هذا العزاء بالقوة الجبرية، خوفًا من تحول العزاء إلى مظاهرات ضد النظام. وقام الضابط محمد خميس بحبس الداعين إلى إقامة هذا العزاء، بالإضافة إلى صاحب “الفراشة” التي عُهد إليها إقامة صوان العزاء.

في 16 سبتمبر 2014، وبعد مرور 6 سنوات على الكارثة، قضت محكمة النقض حكمًا نهائيًا بمعاقبة 5 من مسؤولي المحافظة، وهم اللواء أحمد حسين، رئيس حي منشية ناصر، والمهندس حمادة عبد الفتاح إبراهيم المصري، وممدوح سعد البكري، مدير منطقة الإسكان بالمنطقة، والمهندس مبروك عبد العظيم محمد الدفراوي، و مرشدي، المسؤول عن ملف الصخور بالحي، في قضية صخرة الدويقة، بالحبس سنة مع إيقاف التنفيذ.

إضراب ٦ أبريل

وسط هذا الركام، يضيء الشباب الساخط على الوضع المتردي في البلاد شمعة في الظلام، ويدعون إلى إضراب يوم السادس من أبريل 2008. ظهرت الدعوة من البداية على أيدي عمال غزل المحلة، عندما أعلنوا عن تنظيم إضراب شامل في هذا اليوم، ردًا على تردي أوضاع العمال في البلاد. استغل شباب المعارضة والمدونون الفكرة وتناقلوها فيما بينهم، مقررين تحويل الفكرة إلى إضراب عام شامل في جميع أنحاء البلاد. حتى أنشأت المدونة والناشطة السياسية إسراء عبد الفتاح صفحة “إضراب 6 أبريل” على موقع التواصل الاجتماعي Facebook. وفي غضون أيام قليلة، ارتفع عدد المنضمين إلى الصفحة إلى آلاف الأعضاء. وقبيل يوم 6 أبريل، تضاعفت الأعداد باطراد رهيب، حتى وصل العدد صبيحة يوم الإضراب إلى ما يقرب من ثمانين ألف عضو، وهو ما كان رقمًا قياسيًا في هذا الوقت مقارنة بعدد المشتركين المصريين على موقع التواصل وقتها.

وساعد على انتشار فكرة الإضراب رد فعل وزارة الداخلية نفسها، إذ قامت الداخلية بنشر بيان تحذيري يوم الخامس من أبريل بعد انتشار الدعوة على الإنترنت يحذر جموع المواطنين من المشاركة في مثل تلك الأعمال، مهددة المشاركين بأن يتحملوا عواقب المشاركة. وسعت إلى نشر البيان في جميع أنحاء مصر، مما ساعد على انتشار فكرة الإضراب نفسها، حتى لمن لم يكن يعلم به أصلًا. واستقبل الناس فكرة الإضراب بترحاب وسعوا لنشرها بصورة أكبر نتيجة للاحتقان الموجود أصلًا في الشارع.

في يوم السادس من أبريل، استبق الأمن النشطاء، وتم القبض على كل الوجوه المعروفة كوسيلة لتحجيم الإضراب قبل بدايته. حتى عمال المحلة تم حبسهم في مصانعهم ومنعهم من مغادرتها حتى نهاية اليوم خوفًا من مشاركتهم. لكن هذا لم يمنع خروج حوالي عشرين ألفًا من المواطنين الثائرين للتظاهر اعتراضًا على تردي الأوضاع الاقتصادية والمعيشية من غلاء الأسعار وتدني الأجور. وتعمد المشاركون عدم رفع أي شعارات سياسية أو أي انتماء سياسي حفاظًا على وحدة الصف، وعلى عدم الهجوم على مبارك بشخصه، فقط التنديد بالبطالة والفقر ومشاكل المواطنين بشكل عام. مما أدى إلى وجود قبول كبير في الشارع المصري لأن الإضراب ركز على مشاكل المواطنين. وقابلتهم قوات الأمن بالقنابل المسيلة للدموع والخرطوش والرصاص المطاطي والحَيّ، وأعتقل المئات منهم وأصيب العشرات في حرب شوارع حقيقية استمرت لمدة ثلاثة أيام متواصلة، وسط تعتيم إعلامي محكم، فلم يشعر باقي الشعب بالحرب الدائرة في المحلة حتى انتهت.

كان يوم 6 أبريل نموذجًا مصغرًا للثورة المصرية التي ستندلع بعد هذا التاريخ بعامين تقريبًا. ولولا بعض الظروف لتحول يوم 6 أبريل نفسه إلى ثورة تطيح بالنظام. وتم القبض على إسراء عبد الفتاح التي أنشأت الصفحة على موقع Facebook في مساء نفس اليوم 6 أبريل، وتم الإفراج عنها يوم 14 أبريل بعد ضغط إعلامي. وتيمنًا بالاسم، قام مجموعة من الشباب بإنشاء حركة شبابية معارضة للنظام حملت نفس الاسم حركة ٦ أبريل، وسيكون لها دور فعال في فعاليات المعارضة في السنوات السابقة للثورة.

في خضم تلك الأحداث، وفي حوار مع جريدة الراية الأسبوعية بتاريخ 14 يونيو 2008، أعتبر المحامي الإخواني، الذي أنشق عنهم لاحقًا، الأستاذ ، أن توريث الحكم لجمال مبارك أفضل من ذهابه إلى أي عسكري. وعندما سأله المحاور عن رأيه في جمال مبارك وفي بروزه السياسي خلال الفترة الماضية، أجاب نوح أنه يتمنى أن يعرفه عن قرب ويتكلم معه. وعلى حد تعبيره: أن جمال حتى الآن لم يتفاعل مع الشارع، وأظن أنه لو نزل إلى الشعب سيكسب كثيرًا. وقال ناصحًا جمال: أنه في حاجة إلى مجموعة تحيط به غير تلك التي تحيط به في الوقت الحالي، فلا يجوز أن يلتف حوله، وهو الذي يريد أن يرشح نفسه لرئاسة الجمهورية، نفر من رجال الأعمال فقط، إنما ينبغي أن تكون دائرته من العمال والفلاحين والموظفين والأفندية. وأشار إلى أن الإخوان مؤهلون لقيادة الدولة، لكنهم بحاجة إلى تدريب، مؤكدًا، فيما يشبه التحدي، أنهم لن يصلوا إلى الحكم مطلقًا.

ضرب غزة ٢٠٠٨

في 27 ديسمبر 2008، شن الجيش الإسرائيلي عملية عسكرية ممتدة على قطاع غزة، عُرفت باسم “بقعة الزيت اللاهب” أو “معركة الفرقان” كما أطلقت عليها المقاومة الفلسطينية، أو عملية “الرصاص المصبوب” كما أطلقتها القوات الإسرائيلية، وانتهت في 18 يناير 2009.

يتذكر الصحفي المعارض أحمد الدريني في مقالته: دليل الحيران في الرد على ردود الإخوان ذكرياته مع الإخوان في مظاهرات الحرب على غزة، فيقول:

كنا نقف معكم في نفس المظاهرات نهتف ضد تواطؤ مبارك على ضرب غزة الحبيبة عليكم، وكنتم تسكتون تمامًا حين نتعرض له، وحين ننظر إليكم مندهشين متسائلين: ‘سكتوا ليه؟' كنتم تقولون: ‘الإمام البنا نهى عن التجريح في الهيئات والأشخاص يا أخي!'

(أحمد الدريني، دليل الحيران في الرد على ردود الإخوان)

على الجانب الآخر، كان الشيخ يشيد بدور مبارك قائلًا:

أحيي في الله كلمات الرئيس مبارك، والله لله، حين قال بالأمس: لن تقف مصر مكتوفة الأيدي أمام حصار وتجويع الشعب الفلسطيني. كلمات رائعة يجب على الأمة أن تقدّرها، وأن نأخذ على يده، وأن نعينه ونساعده.

(الشيخ محمد حسان)

في المستقبل القريب، وبعد تولي الدكتور الحكم، سيتنافس الإخوان في التجريح في كل من يخالفهم ويعارض سياستهم، ناسين أن البنا قد نهى عن التجريح في الهيئات والأشخاص.

كيف تقيّم هذا المقال؟

← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←

المتوسط الحالي 5 حسب تقييمات 1 من القراء

كن أوّل من يقيّم هذا المقال

بما أن المقال أعجبك..

ربما اﻷفضل مشاركته مع دوائرك كي يحظى بانتشار أوسع

من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا

دعنا نعمل على تحسين ذلك

أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟

‎ ‎ جزء من سلسلة: ‎ ‎ تاريخ الإخوان والسلطة[الجزء السابق] 🠼 تعديل الدستور ٢٠٠٧[الجزء التالي] 🠼 البرادعي وحلم التغيير ٢٠٠٩
بيشوي القمص
[ + مقالات ]

صدر للكاتب:
كتاب: ﻻ أحد يتعلّم من التاريخ ٢٠١٧
كتاب: ﻻ أحد يتعلّم من التاريخ [قيصر جديد] ٢٠١٨
كتاب: ﻻ أحد يتعلّم من التاريخ [صراع العروش] ٢٠٢٢
كتاب: ﻻ أحد يتعلّم من التاريخ [العملية ظافر] ٢٠٢٤

‎ ‎ نحاول تخمين اهتمامك… ربما يهمك أن تقرأ أيضًا: ‎ ‎