المقال رقم 1 من 6 في سلسلة تحرير اﻹيمان من سلطة الدين
انتشر مؤخرا تحذيرًا على بعض المجموعات المسيحية بفايسبوك ضد ما أكتبه هنا على شبكة Theosis Across Borders، التحذيرات استهدفتني مع زميلة كاتبة بشكل خاص، واقترنت ببعض الشتائم والاتهامات بالهرطقة والإلحاد، أيضا طال التراشق عبارة "مؤمنين بأنه لا مقدس فوق النقد" الموجودة في صفحة «( من نحن؟ )». كما واتت بعضهم الجرأة للدخول على صفحاتنا ونشر صورنا الشخصية لكي يحفظ الناس أشكالنا ونوصم مجتمعيا ويتم نبذنا في أي كنيسة نتردد عليها.

مَنْ قَالَ لأَخِيهِ: رَقَا، يَكُونُ مُسْتَوْجِبَ الْمَجْمَعِ،
وَمَنْ قَالَ: يَا أَحْمَقُ، يَكُونُ مُسْتَوْجِبَ نَارِ جَهَنَّمَ.

(مت 5: 22)

الشك ليس خطيئة، <br>والإيمان ليس فضيلة 1لا أعلم كيف يدافع شخص -يرى نفسه مسيحيًا- عن الإيمان بهذا الشكل، متجاهلًا قول المسيح السابق، ثم يستمر معرفا نفسه كمؤمن مسيحي، أي يسير وفق تعاليم المسيح، راميا إخوته بالإلحاد هكذا بسهولة، ﻻ جهنم تهم ولا مجمع يلم. بالطبع أنا لست بملحدة كما سارع المتذاكين المذعورين بتعريفي، لكن، ماذا لو كنت ملحدة؟ ما سر الذعر الذي يدفعهم لتحذير الناس بهذا الشكل المؤامراتي؟ وإن تركوا العمل بتعاليم المسيح ربما لظنهم أنها تتكلم عنهم وحدهم كـ”أخوية” خاصة، فلماذا أيضا يتركون العمل بقول عن التعامل مع اﻵخر فهي تصلح مع الملحدين؟

مُسْتَعِدِّينَ دَائِمًا لِمُجَاوَبَةِ كُلِّ مَنْ يَسْأَلُكُمْ عَنْ سَبَبِ الرَّجَاءِ الَّذِي فِيكُمْ، بِوَدَاعَةٍ وَخَوْفٍ

(1 بط 3: 15)

نؤمن بحق اﻹنسان في الشك

نؤمن بقدسية الإنسان الذي صار باتحاد المسيح بطبيعته، أقدس من السماوات ومن الأرض ومن الشرائع. نحن نحترم رحلة كل إنسان نحو الله مهما كان مسماها، بل دعني أقول إني على قناعة تامة أن الملحد الصادق الذي يبحث عن الحق بإخلاص، هو عند الله أفضل من المؤمن المزيف الذي وجد نفسه على إيمانه بالصدفة. بل وأتصوّر أن الملحد الذي يتحمل النبذ المجتمعي، ويموت كل يوم بسبب ما يقابله من رفض، هو عند الله أفضل من المؤمن الذي يصدر إيمانه كشعارات ولافتات رغبة في القبول المجتمعي. بل أؤمن أيضا أنه لو انتهت حياة هذا الملحد أثناء رحلته المخلصة دون أن يصل إلى الله، هو ليس بمتروك لهوّة العدم؛ لأن الله أمين ويحترم الأمناء.

يؤسفنا في المجتمع الكنسي، إصراره على سياسات اﻹقصاء بدلا من إعلان الفشل بشكل مسؤول وناضج، تزعجنا أسئلة اجتماعية لأننا لا نتخيل لماذا يقوم المؤمنون الأصوليون بالوصاية على عقول غيرهم إن قام واحد بالتفكير فيما يرونه مسلمات؟ لماذا يقرنون القراءة النقدية بالكفر واﻹلحاد دوما؟ لماذا بدلا من المساعدة بتقديم اﻹجابات للمتسائلين، نجدهم يقومون بتجريم مبدأ السؤال من اﻷساس، ويعتبرون الشك من نواقض اﻹيمان؟ ألا تؤمن أن الله هو الراعي الصالح الذي يبحث عن الضال بنفسه؟ هل تشك في قدرة الراعي أن يجد الخروف الضال خاصة إن ضل بحثًا عن الحق ورغبة فيه؟ بل واﻷهم، هل تجد نفسك أصلح من الله حتى تقوم بدوره وتصحح على طرقه اﻷبعد من ضحالة تفكيرك؟

الشك ليس خطيئة، <br>والإيمان ليس فضيلة 3نعم، لا مقدس فوق النقد، ومن علمنا ذلك هو المسيح نفسه، فإن كنت لا تعرفنا وتعرفه، فاعلم يرعاك الله، أنه من أعطى الأولوية للإنسان فوق الشريعة، وهو من جعل الشريعة خادمة للإنسان، وهو من كان يعلم الشعب بالأسئلة، ويستثير فكرهم. وهناك نهر يجري من الكتب والأبحاث عن أطروحات المسيح الفكرية والفلسفية التي شابهت مناظرات و. فَإِنْ كَانَ دَاوُدُ يَدْعُوهُ رَبًّا، فَكَيْفَ يَكُونُ ابْنَهُ؟ (مت 22: 43) لكن، كما قال “ مخاطبًا المسيح:

أنت كنت تريد أن يهبوا لك محبتهم أحرارًا، لا أن ينصاعوا إليك عبيدًا حين تذهلهم قوتك. أنت أسرفت في تقدير البشر ووضعتهم في منزلة أعلى من منزلتهم، ذلك أن البشر عبيد رغم أنهم مفطورون على التمرد.

(فيودور دوستويفسكي  – )

لم يقدر الإنسان الحرية والكرامة التي وهبنا له المسيح، وبعضنا اختار، بحماقة، أن يُستعبد للديانة بل وللخرافة أيضًا. وفضّل تواضع العقل على التطور الفكري، بل وأصبح يتعامل مع الله على أنه مادة جامدة مقولبة.

الشك ليس خطيئة، <br>والإيمان ليس فضيلة 5ولعل خير مثال على ذلك هو ذلك الهجوم الحاد الذي نال ال من رابطة حين استخدم فرشاة في تدشين الأيقونات، وكأنه ارتكب جرمًا فادحًا أو بخر لصنمًا، مع إن تلك الرابطة نفسها لا تجرؤ على التحدث عن البابا الأسبق بأي سوء، بل وتعصمه من الخطأ. جرب أن تكتب أي تعليق على صفحتهم عن أي خطأ أو قصور حدث في عصر البابا الراحل بمنتهى الحيادية ودون أي تطاول، أو حتى جرب طرح فكرة أن ال، إنسان، مثله مثل كل البطاركة، له ما له وعليه ما عليه، وستجدهم يسارعون بحذف تعليقك وحظرك من التعليق مجددًا.

عن “مدرسة الإسكندرية”، قبل أن يديرها اﻷساقفة

الوصم باﻹلحاد، أو الهرطقة، أو التشويش اﻹيماني، أو عدم الاستقامة، هي ضريبة قديمة يدفعها كل المصلحين ولم يسلم منها حتى المسيح ذاته، والذي تمت محاكمته دينيًا بتهمة “التجديف”. مقدمو التهم لم يكونوا أشخاصا عاديين، بل ذوي رتب روحية مثل “رئيس الكهنة” (يعادل “أسقف” في المسيحية)، أو “رئيس السهندريم” (رئيس / بطريرك اليهود)، أما عن المجتمع المعاصر للمسيح فحدث ولا حرج. فاﻷناجيل تنقل لنا كلام المسيح نفسه أنهم يرونه: أكول، شريب خمر، مجالس للنساء. تهم عقائدية وأخلاقية جاهزة ومعلبة ومسبقة اﻹعداد كعادة كل جماعة عتيقة في الذعر من التفرد. لكننا اليوم لن نتكلم عن هذا، بل أجدادنا المحليين في ، وكيف أن الفلاسفة منهم يراهم الوثنيون من عبّاد .

في ذلك العصر، والذي كانت فيه اﻹسكندرية منارة العالم المسيحي قاطبة، كانت مدرسة الإسكندرية كما أسسها مار مرقس، بمثابة النقيض الموضوعي للإكليريكيات الحالية، والتعليم الكهنوتي عموما. إذ كانت مفتوحة لأي أحد بأي معتقد. الدراسة كلها بعيدة عن التلقين وقائمة على السؤال والجواب. يتعلم التلاميذ المبادئ الأخلاقية والقيم العليا، بينما يدرس الطلبة الرياضيات والمنطق والأدب والفلسفة. والمدهش فعلا  هو التعاون العلمي العجيب بين الـ”كاتشيزس” (الاسم الأصلي لمدرسة اﻹسكندرية) وبين الـ”سيرابيوم” (معبد “سيرابيس” أو المكتبة الصغرى، والتي حوت ٣٠٠ ألف مُجلد) ومن المهم هنا نوضح إن الإمبراطور الروماني “هادريان” (١١٧-١٣٨م) لم يلغ مرسوم سلفه “تراچان” (٩٨-١١٧م) بإلقاء المسيحيين إلى الوحوش في “الكولوسيم”، لذا كتب التاريخ الكنسي أن حكمه كان اضطهادا رابعا. لكن الشواهد التاريخية تؤكد عدم استجابه “هادريان” لوشايات عوام الوثنيين بسبب تصدي فلاسفة السيرابيوم للدفاع عن أصدقائهم فلاسفة الكاتشيزس. وسجل التاريخ للإمبراطور الوثني “هادريان” هذه المقولة الهامة:

إن عبّاد سيرابيس بالإسكندرية مسيحيون، كما أن أساقفة المسيحية يعبدون سيرابيس

(الإمبراطور الروماني “هادريان” (١١٧-١٣٨م) – لجنة التاريخ ج١ ص١٢١)

هذه الجملة من أخطر الجمل التي قيلت في القرن الثاني، وعلى لسان الإمبراطور الوثني نفسه، وليس مقصودًا بها الأساقفة لأن هذا العصر لم يكن به تعدد أساقفة وإنما أسقف واحد (بمثابة البطريرك حاليًا) وإنما المقصودين هنا هم فلاسفة “مدرسة الإسكندرية”، التي أسسها اﻹنجيلي .

وبالتوازي وفي نفس العصر، سجل التاريخ الكنسي وقتها اعتبار العلامة “إكليمندس السكندري“، أحد أشهر فلاسفة مدرسة الإسكندرية، أن الفلسفة: “علما إلهيًا“، وأن الفلاسفة هم: “أنبياء الوثنية“، وأن تعاليمهم: “تمهد الطريق للمسيحية بين الوثنيين“.

أنا أؤمن بالشك، وأشك في إيماني

( أوزجانوس)

لا إيمان دون شك لأن الإيمان يتطلب وجود الشك ليهزمه، مثلما يتطلب النور وجود الظلام ليصبح نورًا، وبقدر انتصار المؤمن على الشك يعظم إيمانه

(الفيلسوف واللاهوتي والناقد “”)

كما صارع يعقوب مع الله، واستحال بعدها رجلًا غير الذي كان في السابق، من حق كل إنسان أن يصارع. لقد كان إبراهيم صاحب أقوى إيمان عرفته البشرية، لكن الله امتحن إيمانه حين بعث فيه روح الشك في تحقيق الوعد الإلهي، مطالبًا إياه بأن يقدم ابنه الذي وعده أن يأتي منه النسل ذبيحة.

في كتابه “خوف ورعدة”، يتحدث “سورين كيركرجارد” عن هذا اليوم المشؤوم الذي كلم الله فيه إبراهيم، وعن سيل الأسئلة والشكوك التي اعترت عقل إبراهيم: هل وعد الله لإبراهيم لن يتحقق إن مات اسحق ولم يقم؟ هل يعتبر إبراهيم كل تلك السنوات من الانتظار وما تلتها من سنوات أمضاها في رعاية الابن هباء منثورًا؟ وكيف يسمح الإله الذي عرفه بتقديم الأبناء ذبائح بشرية؟ وهل يقدم إبراهيم نفسه ذبيحة فداء لابنه وبذلك يبقى الابن ويحقق الوعد؟ هل يقيم الله أسحق بعد الموت، ولكن كيف وإبراهيم لم ير في حياته معجزات إقامة موتى؟ وكيف سيعيش الفتى بعد النجاة من موقف مثل هذا؟ ولماذا هذا الامتحان وإثارة الشكوك في عقل الرجل المؤمن؟ ألا يكفي أنه يطيع الله ويسير على الطريق الصحيح؟ لماذا هذا التشتيت؟

دارت كل هذه الأسئلة وربما عشرات الأسئلة الأخرى في عقل إبراهيم في هذا اليوم، وفي عقل كل مفكر يقرأ القصة. فالله هو من يضع أمامنا الأسئلة والشكوك، ويشككنا في الإيمان لكي ننمو، ويبدو أن الطريق المفروش بالورود الذي يسير فيه الإنسان على خطى الهدى وهو على يقين تام من معتقداته، ليس هو الطريق المفضل لله كما توضح القصة.

هناك أجيال لا حصر لها تعرف قصة إبراهيم بحذافيرها، لكن كم من الناس أرقتهم هذه القصة؟

(سورين كيركرجارد)

نعم نؤمن بأنه لا مقدس فوق النقد
لا نُلزم أو ندعو لاتجاه فكري معيّن، بل ننادي بحرية إطلاق التعددية الفكرية وندين الوصاية على العقول وتتشابك أيدينا معلنين أن اختلافنا هو ثروتنا. لا ندّعي تمثيل الأقباط، ولا حتى نرى أننا نمثل مجتمع الشباب، إنما نُعبّر عن آرائنا الفردية المختلفة والمتعارضة أحياناً بكل حرية في شتى المجالات مؤمنين بأنه لا مقدس فوق النقد. بل نحاول تخطى مرحلة النقد إلى مرحلة الاقتراح ووضع الحلول علنا نفيد من يتابعنا ويملك صناعة القرار. نحاول أن ننشئ تجمعا كنسيا مستنيرا في عالم إفتراضي من الأفكار ودون حدود جغرافية، يمكن للجميع أن يدخلوه بلا ميزة وبلا حكم مسبق. نحاول أن نخلق عالما يمكن فيه لأيٍّ كان في أي مكان التعبير عن رأيه أو رأيها بغض النظر عن قدر تَفَرُدِ هذا الرأي، بلا خوف من أن يُكره على الصمت أو يجبر على التوافق مع غيره. ولا نملك من أدوات سوى: أفكار وأقلام. «( من نحن؟ )» - Theosis Across Borders

يتفاخر صنّاع هذا الموقع بأنهم صنعوا مساحة حرة للتفكير، التفكير في لماذا نؤمن بما نؤمن من مسلمات، وكيف نتطور، وكيف ننمو في الإنسانية. ولا أعتقد أن ما نكتبه سيؤدي بأحدهم إلى الإلحاد، لكنني على يقين أن هناك مئات الشباب ممن ألحدوا بسبب تحجر الرأي، وال، وسيطرة رجال السلطة الدينية على عقول الناس بزعم أنهم وحدهم من عرفوا الحق.

الشك وامتحان الإيمان هو فضيلة أخلاقية واجبة. الفيلسوف “ديكارت” الذي شك في كل شيء حتى في حواسه الخمسة، وفي فكرة وجوده في واقع حقيقي من الأساس، وشك في وجود إله وفي وجود إله صالح بالتحديد، مشيرًا إلى إمكانية وجود الإله كلي القدرة وكلي الشر، الذي يحرك الناس مثل العرائس ويخدعهم أنه صالح (The Evil Genius). لكن، ديكارت نجح في الوصول في النهاية إلى الإيمان بالخالق، وأصبحت نظريته الفلسفية من أقوى نظريات الفلسفة الوجودية في التاريخ.

النقد هو وسيلة الإصلاح، والاختلاف هو السبيل إلى النجاح والمعرفة. فأي شركة أو مؤسسة ناجحة دائماً ما تختار تعيين كوادر مختلفة لتستفيد من هذا الاختلاف وتنمو. نحن نرفض أن نكون أصداء لما نسمع دون وعي وامتحان للإيمان، والنقد جزء أساسي من الكتابة،

إن كتابة الكاتب لا تكون إلا نقدًا لما هو قائم؛ إذ لو كان الكاتب راضيًا بما هو قائم، ففيما حمله للقلم؟
إن كان ما هو قائم، قائم قبل أن يكتب، فلماذا يكتب؟

(زكي نجيب محمود (1905م – 1993م)

ﻻ أؤمن في مقال ﻻ يحرك جرحا؛ والكاتب الجيّد: ينكأه
على القلم أن يشكّل خطرا

(الكاتبة والروائية الجزائرية “أحلام مستغانمي”)

“وختامًا، نرحب بأي شتائم، أو رسائل كراهية، ويمكنكم إرسال شتائمكم من خلال التعليقات أو عبر البريد الإلكتروني للموقع، ودمتم في حماية الإيمان، أو دام الإيمان في حمايتكم.

ولا تعلموا أولادكم أقوالًا عن حكمة الصمتِ، فجميع قائليها جبناء عن مواجهة واقعهم، وهاربين من حمل نور “الكلمة”… بل كونوا أبناء الحيّاة الثرثارة… هؤلاء الساخرين في مواجهة الموت، والمناضلين ضد شيّاطين الخرّس… تكلموا كثيراً وإخطئوا كثيراً، فمن الأخطاء نتعلّم كل شيئ حسن… أنا أكتبُ على علمٍ بأنّني قد أموتُ بسببِ الكلمات، مطعوناً بخنجرِ النحو، مشوّها بمِشرط الإملاء، مصلوباً على خشبتين مُتقاطعتين من الفهم وسوء الفهم… لكنّ كُل هذا أهوّن من حياة فاقدة الروّح بين صمت القبور.

(باسم الجنوبي – عضو مؤسس في شبكة Theosis Across Borders)

كيف تقيّم هذا المقال؟

← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←

المتوسط الحالي حسب تقييمات من القراء

كن أوّل من يقيّم هذا المقال

بما أن المقال أعجبك..

ربما اﻷفضل مشاركته مع دوائرك كي يحظى بانتشار أوسع

من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا

دعنا نعمل على تحسين ذلك

أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟

جزء من سلسلة: تحرير اﻹيمان من سلطة الدين[الجزء التالي] 🠼 المسيح مدنياً
[ + مقالات ]
[ + مقالات ]