عندما يرتدي الإفلاس ثوب الدين، فإنه يخلق بيئة سامة من الانقسام الطائفي الذي يعوق التقدم ويغرقنا في مستنقع التخلف.
في البداية، دعني أذكرك بأننا لم نتعرف على موضوع التحول الديني للمعيد بهندسة جنوب الوادي، هاني ملاك، من صفحته الشخصية المحدودة بقدر معارفه القليلين، وإنما عرفناه من خلال حملة جمع تبرعات نظمها طلاب كلية الهندسة في الجامعة التي يعمل بها.
للوهلة الأولى وبعد حذف الأديان من المشهد؛ يجمع الطلاب أموالًا للمعيد الخاص بهم. ونظرًا لأن هؤلاء طلاب جامعيين ولديهم مصالح تعليمية مشتركة مع المعيد الذي يصحح اختباراتهم، فمن المنطقي الافتراض أنهم ربما كانوا يحاولون تقديم رشوة مالية له، وهو أمر غير قانوني.
فما الحل لتجاوز قيود القانون؟
تصاغ الرشوة على شكل هدية، ويا حبذا لو أخذت شكلًا دينيًا لتحظى بالدعم الشعبوي.
أضف إلى ذلك أن هناك رحلتين عمرة مجانيتين قد قُدمتا بالفعل، إحداهما من شركة علام تراڤل، والأخرى من شركة الأراضي المُقدسة، وبالتالي، فإن هؤلاء الطلاب يجمعون نقودًا لغرضٍ آخر لأن العمرة جاءت بالمجّان.
كما أن هناك معرضًا للأثاث في طهطا، سوهاج، اسمه “موبليات التعلب” كان قد شارك بغرفة نوم هدية في استجابة عابرة للحدود الإقليمية والاقتصادية.
باعتقادي الشخصي، كل هؤلاء يعانقون الرشوة باسم الدين؛ فيرشون ويرتشون!
النقطة الثانية التي أود توضيحها هي ملاحظات مِهنية، لاحظتها بسبب كوني عضوًا مؤسسًا في مصريون ضد التمييز الديني
وناشطًا في مجال “حرية المعتقد”. هذا يعني أني قابلت مشاهير المتحولين دينيًا في جلسات تحظى بالثقة والأريحية بعيدًا عن دوائر الأضواء، وترتب على ذلك معرفة شخصية عميقة بظروف التحول الديني. أتحدث هنا عن معرفة ميدانية تتجاوز الأطر الرسمية المعلنة.
ومن خلال تلك الخبرات، يمكنني القول بكل ثقة أن التحول من دين إلى آخر يشكل مؤشرًا قويًا على وجود مشكلات اقتصادية أو اجتماعية، أو رغبة في السفر وتغيير المجتمع، أو أي دوافع أخرى غير مسألة القناعة العقائدية ومتداخلة معها. وأنا هنا لا أقول أن هذا هو السبب الرئيسي للتحول، لكنني ألاحظ هذا كنمط متكرر في جميع حالات التحول الديني.
يحفّز من هذا فكرة “الهدايا والمكافآت” الإيمانية، سواء أكانت اقتصادية أو حتى امتيازات اجتماعية، مثل اعتبار المتحول دينيًا قد خاض “تجربة إيمانية”، فيجيء به ليحكي تجربته الخاصة أمام جمهور غفير، ويتحول إلى “نجم شباك” عند الكنيسة أو المسجد، أو حتى الامتيازات التي يطمح إليها المتحول نفسه وإن لم ينلها، كل هذا يطيح ويهدم مسألة القناعة القلبية (على عكس المتحول إلى الإلحاد أو اللادينية، لأنه من الناحية الواقعية قد حقق خسائر اجتماعية ولم يكسب شيئًا على الإطلاق).
يتزامن مع كل ذلك مجتمع متدين ومحافظ و”حشري” بطبعه. بمجرد أن يسمع عن حالة تحول دينيّ، يعقد العزم على أن يدس أنفه ويفهم أسباب هذا التحول، تلك الأسباب التي لابدَّ أن تكون إيجابية تجاه الذات وسلبية تجاه المخالف. بالتالي، فهذا ليس فضولًا معرفيًا (إلا عند الفريق الفائز، الذي ينتظر في الحكاية دليلًا إعجازيًا أو روحيًا على صحة اعتقاده، يتسوله من الوافد الجديد)، أما الفريق الخاسر فيكون بالضرورة فضوله استنكاريًا. فضول مثل فضول المحقق أو وكيل النيابة في استجواب ضميري وتفتيشي نتيجته لابد أن تنتهي بأن هذا التحول نجم عن قِصر نظر صاحبه الذي أودى بنفسه إلى التهلكة، وغدًا يعض أصابع الندم أما اليوم فـ”خليه يغور”.
كمثال خفيف على ذلك، صديقة كاثوليكية استنكرت على المتحول دينيًا فرضية أنه أحب فتاة من دين آخر ويريد الزواج منها. استنكارها اتخذ شكل؛ “المشاعر تتغير وتتبدل”! حسنًا، إن سلّمنا جدلًا أنها تتغير وتتبدل، فلماذا إذن لا يوجد طلاق في الكاثوليكية؟! ونفس الأمر يمكن أن يُقال لأي أرثوذكسي من المؤمنين أن عبارة لا طلاق إلا لعلة الزنا
هي عبارة قالها المسيح وليس البابا شنودة! هذه الأفكار التي تعبر عن ازدواجية المعايير تستنكر الواقع ومشكلاته وحلوله بشكل مريض للغاية. بينما يمكن لشخص آخر أن يرى هذا سببًا كافيًا للتحول للإسلام الذي يتعامل بشكل عملي مع “تغير المشاعر” وتقلباتها بإمكانية الطلاق والتطليق والخُلع. أو على الأقل فالإسلام المعاصر ليس مثل المسيحية المعاصرة التي جعلت من الزواج “فخًا” تدخله ولا تخرج منه! ويقدم لنا “فقهاء التبتل” مشروع قانون مخالف للإعلان العالمي لحقوق الإنسان بجعل الأصل في الزواج هو الحظر لا الإباحة! في مصر ممنوع الزواج إلا بموافقة الكنيسة!
كما أن الدين مسألة حساسة للغاية عند معتنقيه، ومن ثم فإن مسألة إشهاره علنًا ونظام “زفّة المطاهر” التي يقوم به الفريق الفائز، يجب أن ندرك أنها على حساب مشاعر الفريق الآخر. ونعم، هناك أيضًا في “كأس الأديان” فرق ومباريات ومكاسب وخسارة وفريق فائز وفريق مهزوم، ومهما كانت روحك الرياضية، فإن هذا لا يعني سوى تقبلك للخسارة بمشاعر باردة بناءً على اعتقادك بأن المباريات لم تنته بعد ولا تزال هناك فرصة للتعويض قبل نهائي يوم القيامة. أيضًا يجب أن ندرك أن الدين والانتماء الديني مسألة دنيوية بحتة وليست أخروية، لأن المسألة الأخروية محسومة مسبقًا بأن مصيرك الشخصي لن يتأثر بمصير والديك أو أقربائك، فما بالك بشخص غريب عنك! إذن، فكل ما تبقى هو دنيوي بحت وقابل لكل وساخة وقذارة قد صارت بحكم التكرار أمرًا عاديًا للغاية! لن تتغير الرشوة وتصير حلالًا لأنها قُدمت في شكل رحلة عُمرة، ولن تتغير “زفة العريس” المفرحة بالنسبة لك عن أن تكون مؤذية لغيرك وتخالف القاعدة الذهبية لكل الأديان: عامل الآخرين بما تحب أن يعاملوك به
، ولن يتغير فضولك بنوعيه المعرفي والاستنكاري عن كونه دليلًا على ازدواجية المعايير، وتحتاج أولًا أن تعمل على تطوير نفسك وعلى تطوير مجتمعك وتُخلّصه من الازدواجية حتى يصبح كلامك معقولًا وقابلًا لطرحه علانية ومن الممكن احترامه!
علينا أن نأخذ موقفًا واضحًا من كل هذا؛ بعدم النبش وراء أسباب التحول الديني، على الأقل من باب احترام خصوصية الحق الشخصي. فالدين “حق شخصي” وليس حقًا عامًا، وعلاقتك بالله مبنيّة عليك وحدك وليس شخص آخر. وحتى الأسباب المادية المحتملة، سواء “قصة حب” أو “سفرية” أو غيرها، فهي أيضًا شخصية. إن التوغل في المسائل الشخصية لهذا القدر الموغر في تفتيش الضمائر دائمًا ما أراه تطفّل فضولي غرضه اللاواعي تسفيه وتسخيف أسباب التحول الديني. وفي ذلك عدم احترام لأوجاع الناس ومشاكلهم، ومن ثم حقهم في تحسين أوضاعهم، بما فيها الأوضاع الدينية أو الاجتماعية.
كيف تقيّم هذا المقال؟
← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←
المتوسط الحالي حسب تقييمات من القراء
كن أوّل من يقيّم هذا المقال
من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا
دعنا نعمل على تحسين ذلك
أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟