من أخطر ما تسلل إلى البعض ربط الزواج والتناسل بالخطية، وأن الجنس كغريزة جاء عقابًا نتيجتها، بينما يخبرنا سفر التكوين في إصحاحه الأول:

وَقَالَ اللهُ: «نَعْمَلُ الإِنْسَانَ عَلَى صُورَتِنَا كَشَبَهِنَا، فَيَتَسَلَّطُونَ عَلَى سَمَكِ الْبَحْرِ وَعَلَى طَيْرِ السَّمَاءِ وَعَلَى الْبَهَائِمِ، وَعَلَى كُلِّ الأَرْضِ، وَعَلَى جَمِيعِ الدَّبَّابَاتِ الَّتِي تَدِبُّ عَلَى الأَرْضِ».
فَخَلَقَ اللهُ الإِنْسَانَ عَلَى صُورَتِهِ. عَلَى صُورَةِ اللهِ خَلَقَهُ. ذَكَرًا وَأُنْثَى خَلَقَهُمْ.
وَبَارَكَهُمُ اللهُ وَقَالَ لَهُمْ: «أَثْمِرُوا وَاكْثُرُوا وَامْلأُوا الأَرْضَ، وَأَخْضِعُوهَا، وَتَسَلَّطُوا عَلَى سَمَكِ الْبَحْرِ وَعَلَى طَيْرِ السَّمَاءِ وَعَلَى كُلِّ حَيَوَانٍ يَدِبُّ عَلَى الأَرْضِ».
وَرَأَى اللهُ كُلَّ مَا عَمِلَهُ فَإِذَا هُوَ حَسَنٌ جِدًّا. وَكَانَ مَسَاءٌ وَكَانَ صَبَاحٌ يَوْمًا سَادِسًا.

(سفر التكوين 1 : 26 ـ 28 و 31)

وفي ذات السياق يحذرنا ال من هذا الفكر المختل:

وَلكِنَّ الرُّوحَ يَقُولُ صَرِيحًا: إِنَّهُ فِي الأَزْمِنَةِ الأَخِيرَةِ يَرْتَدُّ قَوْمٌ عَنِ الإِيمَانِ، تَابِعِينَ أَرْوَاحًا مُضِلَّةً وَتَعَالِيمَ شَيَاطِينَ، فِي رِيَاءِ أَقْوَال كَاذِبَةٍ، مَوْسُومَةً ضَمَائِرُهُمْ، مَانِعِينَ عَنِ الزِّوَاجِ

(رسالة بولس الأولى الى تيموثاوس 4 : 1 ـ 3).

ويضع القديس بولس الزواج في سياق أشمل ضمن محددات حياتنا التي تقودنا للارتباط بالمسيح

لِيَكُنِ الزِّوَاجُ مُكَرَّمًا عِنْدَ كُلِّ وَاحِدٍ، وَالْمَضْجَعُ غَيْرَ نَجِسٍ. وَأَمَّا الْعَاهِرُونَ وَالزُّنَاةُ فَسَيَدِينُهُمُ اللهُ.
لِتَكُنْ سِيرَتُكُمْ خَالِيَةً مِنْ مَحَبَّةِ الْمَالِ. كُونُوا مُكْتَفِينَ بِمَا عِنْدَكُمْ، لأَنَّهُ قَالَ: «لاَ أُهْمِلُكَ وَلاَ أَتْرُكُكَ»
حَتَّى إِنَّنَا نَقُولُ وَاثِقِينَ: «الرَّبُّ مُعِينٌ لِي فَلاَ أَخَافُ. مَاذَا يَصْنَعُ بِي إِنْسَانٌ؟»
اُذْكُرُوا مُرْشِدِيكُمُ الَّذِينَ كَلَّمُوكُمْ بِكَلِمَةِ اللهِ. انْظُرُوا إِلَى نِهَايَةِ سِيرَتِهِمْ فَتَمَثَّلُوا بِإِيمَانِهِمْ.
يَسُوعُ الْمَسِيحُ هُوَ هُوَ أَمْسًا وَالْيَوْمَ وَإِلَى الأَبَدِ.
لاَ تُسَاقُوا بِتَعَالِيمَ مُتَنَوِّعَةٍ وَغَرِيبَةٍ، لأَنَّهُ حَسَنٌ أَنْ يُثَبَّتَ الْقَلْبُ بِالنِّعْمَةِ، لاَ بِأَطْعِمَةٍ لَمْ يَنْتَفِعْ بِهَا الَّذِينَ تَعَاطَوْهَا

(رسالة بولس إلى العبرانيين 13: 4-9)

ولست بحاجة إلى التأكيد أنه لا علاقة لهذا التحذير وبين الرهبنة، التي تعد اختيار شخصي كطريق يرى صاحبه أنه ينتهي به إلى التعرف على والارتباط بشخص الرب يسوع المسيح، وتعميق الشركة مع الثالوث، وترك الكل لأجل الواحد، ويتضح مضمونها من نذورها التي تشكل حياة الراهب “العفة والبتولية، النسك، العزلة، الفقر الاختياري، الطاعة”.

الرهبنة حركة بدأت وتشكلت خارج الكنيسة  ـ المؤسسة ـ التي اعتمدتها كواحدة من المسارات إلى المسيح. وفي تعرضه للمفهوم الكنسي لمعنى النسك، يخبرنا كتاب “حياة الصلاة” باكورة كتابات الأب ـ الذي كتب مقدمة طبعته الأولى قداسة البابا ـ بأن:

هذا الاصطلاح بدأ يأخذ صفته الكنسية ـ قبل تأسيس الرهبنة ـ في فى القانون 51: أيما أسقف أو قس أو شماس أو من كان من زمرة الكهنوت بالجملة أو أي فرد من الشعب، امتنع عن الزيجة واللحوم والخمر، لا لغرض النسك بل لكونه يشمئز منها على أنها دنسة مرذولة، ناسيًا ما قيل بأن كافة الأشياء هي حسنة جدًا… فإما أن يتقوَّم أو يُقطع ويُطرح من الكنيسة.

(الأب متى المسكين، )

ويتوسع الكاتب في عرض المفهوم الكنسي لكلمة نسك، فيراه يشمل كل ممارسة صادقة لأي وصية إنجيلية… ويشير إلى أن الصبر على الآلام والتعذيب والسجن حفظًا للإيمان يعتبره نسكًا، كما يعتبره ال “أعظم نسك”.

ويواصل الكاتب:

الذي يداوم على الصلاة والطلبة مثل حنة النبية تعتبره الكنيسة “ناسكًا”

(ال: عظة 1: 19)

الذي يهب ممتلكاته للفقراء ويختار حياة الفقر لنفسه تعتبره الكنيسة “ناسكًا”

(العلامة : تاريخ الكنيسة 76: 41)

الذي يعيش منكرًا لذاته تعتبره الكنيسة “ناسكًا”

(القديس الإسكندري: شرح انجيل يوحنا 13 : 35)

الذي يمارس الفضيلة الإنجيلية هو في الحقيقة ناسك لأنه يدرب ويضبط نفسه

(القديس : شرح أعمال الرسل 2: ب)

الذي يتخصص في خدمة الفقراء حبًا في التقوى تعتبره الكنيسة “ناسكًا”

(المؤرخ يوسابيوس: شهداء فلسطين: 11).

الذي يتخصص في دراسة الكتاب المقدس واهبًا حياته لهذه الدراسة يعتبره العلامة “ناسكاً”. 

(الأب متى المسكين، حياة الصلاة الأرثوذكسية)

ويعلق الكاتب على هذه الاستشهادات بقوله:

على الرغم من هذا المعنى المتسع لكلمة “ناسك”، فإنها يمكن بكل سهولة اقتصارها على كل مسيحي يجاهد ليحفظ وصية المسيح بإيمان وحب، أيًّا كان وأينما كان وكيفما كان!!.

(الأب متى المسكين، حياة الصلاة الأرثوذكسية)

وفيما يتعلق بالحياة الرهبانية وارتباطها بالنسك فيقول الكاتب:

أما الذين أرادوا أن يتوفروا على تطبيق الحياة النسكية، أي الحياة المسيحية، توفرًا دقيقًا كاملًا: فيصبح عليهم أن ينزحوا من الدنيا ويسكنوا القفار والجبال، فيعتبرهم “” أنهم هم الذين يشهدون بأنهم “مختارون أكثر من المختارين” حيث صارت لهم قوانين نسكية خاصة.

(الأب متى المسكين، حياة الصلاة الأرثوذكسية)

ويختتم الكاتب سطوره:

أما القوانين النسكية بالنسبة للمسيحى العادى فهى وصايا الإنجيل.
أما القوانين النسكية بالنسبة للرهبان والمتوحدين فهي ضمانات إضافية تكفل ـ لهم ـ تنفيذ وصايا الإنجيل الأساسية.

(الأب متى المسكين، حياة الصلاة الأرثوذكسية)

ويتضح من هذا أنه لا تحسب رهبنة، تلك الحياة المنفصلة عن وصايا الإنجيل.

كيف تقيّم هذا المقال؟

← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←

المتوسط الحالي حسب تقييمات من القراء

كن أوّل من يقيّم هذا المقال

بما أن المقال أعجبك..

ربما اﻷفضل مشاركته مع دوائرك كي يحظى بانتشار أوسع

من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا

دعنا نعمل على تحسين ذلك

أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟

كمال زاخر
كاتب ومفكر قبطي في التيار العلماني المصري  [ + مقالات ]

صدر للكاتب:
كتاب: : صراعات وتحالفات ٢٠٠٩
كتاب: قراءة في واقعنا الكنسي ٢٠١٥
كتاب: الكنيسة.. صراع أم مخاض ميلاد ٢٠١٨