كانت حرب فلسطين على الأبواب، ورأى البنا ضرورة اشتراك الجماعة في الحرب ضد عصابات الصهاينة، فحاول البنا إقناع النقراشي عن طريق الصديق المشترك مكرم عبيد، بضرورة مساعدة جيش الإخوان للجيش المصري، فرفض النقراشي الفكرة ضاحكًا من سذاجة البنا الذي تصور أن شخصًا بذكاء النقراشي ودهائه يمكن أن يقع في هذا الفخ الساذج، فعاد البنا وعرض وضع عشرة ألاف شاب تحت تصرف الجامعة العربية للمساهمة في تحرير فلسطين، فرفض النقراشي أيضاً هذا الاقتراح.
بالرغم من رفض النقراشي للجيش الشعبي المزعوم بقيادة البنا، لم يستطع البنا تفويت الفرصة فأرسل ميلشياته للحرب، وسافرت أول مجموعة من المتطوعين من الإخوان المسلمين إلى أرض فلسطين عقب قرار التقسيم مباشرة في يناير عام 1948م، وخلال الحرب قام جمال عبد الناصر، العضو بجماعة الإخوان، بتدريب العديد من عناصر الإخوان الذين شاركوا في الحرب وأمدهم بالسلاح.
أثناء حرب فلسطين 1948م طلب الشيخ الإخواني سيد سابق من الضباط الإخوان الهجوم على الإسرائيليين كصفوف متجاورة تصديقًا لآية قرآنية تصف المؤمنين بالصفوف المنتظمة، فصُدم الضباط لأن هذا سيؤدى لأبادتهم بالرشاشات… أصر سيد سابق ورفض الضباط، وترك بعضهم الجماعة لاحقًا معتبرينها متخلفة بشدة وتخلط الواقع بالخيال(أحمد حمروش، ثورة يوليو وعقلية مصر)
في نفس الوقت، جمع فاروق مستشاريه ليبحث معهم ما يجب أن يفعله إزاء فلسطين، فقالوا أن التيار الشعبي المصري تجاه فلسطين أقوى من أن يقاوم، ولكن يمكن استيعابه وإجهاضه بأن تكون أنت يا جلالة الملك صاحب الجيش الذي يدخل فلسطين مقاتلًا، فلا يزايد عليك الإخوان المسلمون، ولا يكسبون على حسابك ورقة يمكن أن تكسبها أنت، فقرر فاروق دخول القوات المصرية إلى فلسطين.
ولم ينس حسن البنا في وسط المعركة نفاق الملك، فتنشر صحيفتهم صورة فاروق بملابسه العسكرية، وتتبع حركاته في الجبهة ولقائه بالعسكريين وحديثه معهم وزيارته للجرحى في المستشفيات العسكرية، وكتبت جريدة الإخوان بمناسبة ذكرى تولي فاروق سلطاته الدستورية تقول؛ إذا كانت الأحداث الماضية وعلى رأسها الحرب ثم يوم 4 فبراير المشؤوم، قد أظهرت وطنية الملك المُفدى في أحلى صورة، فقد كللت معركة فلسطين هامته بفخار تزهو به مصر ويباهي به التاريخ، قدنا يا مولاي ما شئت، فالأمة من ورائك والله من حولك خير حافظ وأقوى معين
لكن إعلان فاروق دخول مصر الحرب، جعل البنا يدرك أن البساط سينسحب من تحت أقدامه، ولا فائدة لاستمرارهم في أرض المعركة، كونهم سيذوبون وسط الجيوش العربية السبعة ولن يتصدروا المشهد، ولهذا أصدر حسن البنا أوامره بسحب قوات المتطوعين بفلسطين وعدم الاستمرار في إرسال قوات أخرى.
كنا نتدرب في بعض المعسكرات بأسيوط استعدادًا للسفر إلى أرض المعركة في فلسطين حين جاءنا القرار بوقف التدريب وإخلاء المعسكرات من المتطوعين، وقد كان لهذا القرار الذي أصدره المرشد العام أثر مدوي في قواعد الإخوان حتى إن البعض منهم قد اتهمه بالخيانة، وبعد أن استوعب حسن البنا كل المهاجمين وحركة التمرد في صفوف الإخوان، عقد كتيبة ليلية لأعضاء الجهاز الخاص ليقول لهم أن العمل هنا في مصر وليس في فلسطين، وإن الطريق إلى القدس لابد أن يمر عبر القاهرة، وما يحدث الآن في فلسطين إنما هو مؤامرة لتسليمها إلى اليهود بأسلوب يحبط الإرادة العربية والإسلامية لعدة أجيال قادمة، وقال كلمته الشهيرة؛كنا نعمل على تنظيف سلم الحياة في مصر بالتربية من أسفل إلى أعلى، فأبى النظام إلا أن يقنعنا بأن السلم لا ينظف إلا من أعلى إلى أسفل.(المستشار الدمرداش زكي مرسي العقالي، أحض أعضاء التنظيم السري)
خسر العرب الحرب وعادت ميلشييات الإخوان من فلسطين بعد أن حقق البنا هدفين؛ أولهما هو زرع خلايا إخوانية انطلقت من فلسطين، لتغزو عددًا من دول العالم الإسلامي، وثانيهما لتؤسس قاعدة التنظيم الدولي للإخوان فيما بعد، ويُذكر أنه بعد انتهاء حرب فلسطين وهزيمة الجيوش العربية مجتمعة أمام العصابات الصهيونية، رفضت كتائب البنا تسليم سلاحها وأبت إلا أن تدخل مصر حاملين أسلحة الجيش المصري التي جرى إمدادهم بها إبان الحرب على أيدى أصدقاءهم من العسكريين المصريين وعلى رأسهم جمال عبد الناصر، ولم يتم تسليمها إلا بعد مفاوضات عدة مع البنا، وافق بعدها على تسليم سلاحهم للجيش المصري.
بعد الحرب تدهورت سمعة الملك فاروق بشدة بالرغم أنه عند توليه العرش قبل 12 عامًا كان يتمتع بشعبية جارفة نادرًا ما يتمتع بها ملك في التاريخ، لكن الطفيليين الذين أحاط بهم فاروق عرشه قادوه إلى طريق الملاهي الليلية، وبدأت الإشاعات تنتشر حول سلوك فاروق الشخصي ولم يكن هناك من ينكر أن فاروق يتصعلك، وأعد الوفديين ملفًا كاملًا حول السلوك الاجتماعي للملك، لإقناع أعلى سلطة روحية في العالم الإسلامي وهم كبار علماء الأزهر بأن الملك لا يتصرف حسبما يقتضى أن يتصرف ملك مسلم، وبدأت القصص تنتشر حول إهمال الملك لزوجته وأنه يعيش حياة عابثة في قصر عابدين.
بعد حرب فلسطين وجد فاروق نفسه متورطًا في عمولات من صفقة الأسلحة الفاسدة للجيش المصري بفلسطين وكانت القضية منظورة أمام المحاكم، وكان فاروق في هذا الوقت في منتصف 1948م قد بلغ الغاية في المجون والفجور وقد شاعت فضائحه الأخلاقية في شتى أنحاء مصر، ثم جاءت الضربة القاضية وهي طلاق فاروق وفريدة في 17 نوفمبر 1948م وزواجه بالملكة الجديدة ناريمان، وانطلقت المظاهرات ضد فاروق عندما طلق زوجته الأولى تهتف؛ خرجت الطهارة من بيت الدعارة
، في الوقت ذاته، كانت مجلة الدعوة
التابعة للجماعة تهنئ فاروق بعيد جلوسه على العرش، وتنشر صورة الملك في وسط الصفحة.
عيدان سعيدان، احتفل يوم الأحد الماضي في جميع أنحاء وادي النيل بعيد جلوس حضرة صاحب الجلالة الملك فاروق الأول على عرش أجداده العتيد… كما احتفل بزواج جلالته بحضرة صاحبة الجلالة الملكة ناريمان… والدعوة إذ تتقدم بعظيم التهنئة بالعيدين، تبتهل إلى الله العلى الكبير أن يحفظ ذات الملك، وأن يجعل أيامه كلها أعياد سعيدة، وأن يعزه بالإسلام ويعز الإسلام به.)مجلة “الدعوة” تهنئ الملك فاروق)
بعد انتهاء الحرب أصبحت الجماعة قوة لا يستهان بها، فأصبحت تضم 600 ألف أخ عامل والمؤازرون ضعف هذا العدد، ولها ألفان شعبة في مصر، وخمسون في السودان، وشعب في كل الدول العربية وأندونيسيا وسيلان وأفغانستان وتركيا وأوروبا وأمريكا، وأنشأت الجماعة أعدادًا كبيرة من المستوصفات والمدارس والأندية والجمعيات الاجتماعية وشركتان للإعلانات وثالثة للطباعة ورابعة للنشر تصدر الصحيفة اليومية ومجلة أسبوعية ومجلتين شهريتين وكتبًا إسلامية وعدة شركات منها أربع شركات كبرى للمناجم والنسيج والتجارة واستصلاح الأراضي بنجع حمادي.
تفجيرات داخل مصر
في يوم 18 مارس 1948م انفجرت قنبلة في دار المعهد البريطاني بالقاهرة، ووُجدت في اليوم التالي قنبلة أخرى لم تنفجر بمبنى كلية فيكتوريا بالإسكندرية، وفي 4 أبريل 1948م حدث ما يعرف بـجرائم الأوكار
في شبرا وروض الفرج وشارع السندوبي ووكر الجيزة، ثم ألقيت 3 قنابل بالإسماعيلية يوم 16 أبريل 1948م، وفي 20 يونيو 1948م فجر قسم الوحدات بالتنظيم الخاص عربة يد محملة بالمتفجرات في حارة اليهود بالقاهرة وأحدثت بها تلفيات كبيرة، وبعد أن ذهبت الظنون أن تلك الحارة قد أخذت نصيبها ولن تنفجر مرة آخري، عاد قسم الوحدات وفجر عربة يد محملة بالمتفجرات في حارة اليهود في 22 سبتمبر 1948م فقتل 20 وأصيب 61 شخص، ولما عجز البوليس في الحادث الأول عن الوصول إلى شيء أعلن أن الحادث وليد خلاف طائفي بين اليهود، فهم يضربون بعضهم بعضًا، وأن اليهود القرائين قد نسفوا محل لليهود الربانين، فلما وقع الانفجار الثاني استمر البوليس يقول إن الربانيين انتقموا من القرائين بنسف مماثل.
وبين حادثي حارة اليهود فجر قسم الوحدات أيضا تريسكل ممتلئًا بالمتفجرات أسفل محلات اليهود المدنيين شيكوريل وأركو في 19 يوليو 1948م، وكان ذلك في إحدى ليالي شهر رمضان فأفشى بالمحل الخراب، وفي 20 يوليو 1948م نسف شارع فؤاد، وتم القاء القنابل على محلات داود عدس في 28 يوليو 1948م الواقعة بشارع عماد الدين، وفي 13 أغسطس 1948م نُسفت محلات بنزايون بشارع قصر النيل وجاتينيو بشارع محمد فريد المملوكين ليهود مصريين، وترتب عن الانفجار موت عشرات المصريين وجرح 28 مواطن مصري، ونُسفت دور سينما مملوكة لليهود أيضًا، وتم تعطيل سفينة يهودية في ميناء بورسعيد، ونُسفت بعض المساكن في حارة اليهود مرة أخرى.
وفي 3 أغسطس انفجر مبنى شركة أراضى الدلتا بالمعادي في ضواحي القاهرة، ومحطة تلغراف ماركوني التي اعتبرت مركزًا للاتصالات اليهودية فأصيب ثلاث ضحايا، ووقع انفجار يوم 24 أغسطس في مطار الإسكندرية بينما كانت طائرة النقراشي القادمة من القاهرة تستعد للهبوط، ولم يُنشر النبأ في الصحف ولكن السفارة البريطانية سجلت الحادث في برقياتها، وفي 28 سبتمبر وقع انفجار بمصنع للزجاج بحلمية الزيتون تملكه محلات شيكوريل.
ويعترف المستشار صالح أبو رقيق عضو مكتب الإرشاد في مقال نشره بجريدة الأحرار المصرية في 11 من أغسطس عام 1986 بأنه لا يستطيع إنكار ما قام به الإخوان من أعمال صاحبها العنف، ولكنه يبرر ذلك بأنها؛ كانت كلها وطنية تتجلى فيها الفدائية
وفي يوم 8 أكتوبر 1948م قادت الصدفة رجال خفر السواحل الذين كانوا يفتشون العزب القريبة من الإسماعيلية بحثًا عن المخدرات، إلى العثور على كمية كبيرة من الأسلحة والمتفجرات في عزبة الشيخ محمد فرغلي قائد كتائب الإخوان في الإسماعيلية، وكانت الأسلحة في مخبأ تحت الأرض مبني بالخرسانة، فأصدر النقراشي قرارًا عسكريًا في 28 أكتوبر سنة 1948م بحل شعبتي الإخوان المسلمين في بورسعيد والإسماعيلية مهد الحركة، وقام رجال البوليس والمباحث بغلق جميع الشُعب في هذه المنطقة والتحفظ على جميع الأوراق الخاصة بالإخوان، وانطلقت حملة أمنية ضدهم طالت جميع المشتبه فيهم لكن بدون دليل واضح يدين قادة الجماعة.
وبدا أن هناك إرهاصات كثيرة عن عزم الحكومة لحل جماعة الإخوان المسلمين، وبالرغم من ذلك تمادى التنظيم الخاص أكثر وأكثر، فألقى شباب التنظيم قنبلتين يدويتين على منزل عبد الفتاح عمرو باشا في 2 نوفمبر، وقبض رجال الشرطة على 350 من أعضاء الجماعة في القاهرة يوم 4 نوفمبر لمنعهم من القيام بمظاهرة احتجاجًا على إغلاق شعبتي الجماعة في الإسماعيلية وبورسعيد، وألقوا القنابل على مكاتب الصحف الأجنبية في مصر يوم 11 نوفمبر من العام ذاته 1948م، وفي 12 نوفمبر 1948م أمر عبد الرحمن السندي بنسف مكاتب شركة الإعلانات الشرقية التي يملكها اليهود آنذاك ويرأسها اليهودي هنري حاييم.
وجرى تنفيذ تفجير شركة الإعلانات بسيارة بيك أب ممتلئة بصناديق المتفجرات يقودها “علي الخولي” حتى حشرها في بوابة المبنى الكبير للشركة، وقال بأن بها ورق للشركة ثم تظاهر بتعطليها، وانصرف بحجة إحضار مفك وبعض الأدوات اللازمة لتشغيل السيارة، وبعد انصرافه انفجرت وخربت الدار، وظلت السماء تمطر حجارة من حطامها لدقائق بعدها، وقُتل في الحادث بعض المواطنين منهم الشرطي المصري المكلف بالحراسة، وفي سابقة نادرة أعترف بعض المؤرخين من قادة الجماعة فيما بعد بان الجماعة هي المسئولة عن نسف مكاتب شركة الإعلانات إلا انهم حاولوا التخفيف من المسئولية بقولهم أن النسف تم في وقت الراحة حتى لا يصاب أحد!، وعرض النقراشي مرة أخرى مكافأة 10 ألاف جنيه لمن يرشد عن الفاعل بلا جدوى.
كان مقررًا أن يفتتح صاحب الجلالة البرلمان في 19 نوفمبر 1948م، غير أنه تلقى تهديدات بالقتل، فأوفد في اللحظة الأخيرة ابن عمه وولي عهده الأمير محمد علي إلى البرلمان كي يفتتح الدورة نيابة عنه، وجاء ذلك بعد اتخاذ تدابير أمنية لم يسبق لها مثيل على طول الطريق الذي كان مقررًا أن يسلكه الملك، وفُتشت المباني تفتيشًا دقيقًا بما في ذلك مبني الجامعة الأمريكية، وأُبلغت الجامعة أن يبقى الطلاب في قاعة المحاضرات بين العشرة والنصف صباحًا حتى الواحدة والنصف بعد الظهر، واعتبرت الجامعة هذا الإجراء غير عملي فعطلت الدراسة في ذلك اليوم، وحذر البوليس سكان المنازل على جانب الطريق من استقبال الغرباء وأمروا بألا يلقوا زهورًا خلال مرور الموكب الملكي، وامتنع الملك والوزراء عن الظهور في أي مكان عام خوفًا من رصاص الإرهابيين.
قضية السيارة الجيب
في 15 نوفمبر 1948م قرر أحمد عادل كمال، العضو بالتنظيم الخاص، وبناء على أوامر عبد الرحمن السندي أن ينقل بعض الأوراق الخاصة بالنظام وبعض المعدات وبعض الأسلحة والمتفجرات من شقة “عادل النهري” بحي المحمدي، إلى شقة إبراهيم محمود علي ويعمل ترزيًا بالعباسية، إلا أن السندي لم يوفر له وسيلة مناسبة لنقل العهدة، وبالصدفة قابل “أحمد عادل كمال” الأخ “مصطفى كمال عبد المجيد” وكان من إخوان النظام، وكانت في عهدته سيارة جيب مملوكة للنظام، مشتراه حديثًا من مخلفات الجيش الإنجليزي ولم تكن لها أرقام، واتفقوا على استخدام السيارة في النقل بمساعدة “طاهر عماد الدين” أحد إخوان النظام، وبالفعل تم نقل كل الأوراق والأسلحة من شقة المحمدي إلى السيارة التي أقلتهم إلى منزل “إبراهيم محمود علي” رقم 38 شارع جنينة القوادر بحي الوايلي بالعباسية، لتودع هذه الموجودات أمانة عنده، وكان ذلك حوالي الساعة الثالثة ظهرًا.
كان إبراهيم يسكن في بيت رجل يريد إجباره على إخلاء مسكنه لابنته التي على وشك الزواج من مخبر في البوليس السياسي يدعى “صبحي علي سالم”، وحضر المخبر بالصدفة لزيارة بيت صهره في نفس وقت تفريغ الحمولة ورآها، فارتاب في محتوياتها، وهاله الأمر عندما تبين أن الأمر أكبر من مجرد سيارة بدون أرقام، فقد كان في السيارة كمٌ هائل من الأسلحة والمتفجرات، ولمح أحد أفراد المجموعة المخبر وهو يعبث بمحتويات السيارة، وتأكدوا أن أمرهم قد أنكشف، خصوصًا أن الرجل قد أختفى عن أنظارهم، فظنوا أنه قد ذهب لإبلاغ رؤسائه، فحاول أحمد عادل كمال ورفاقه إعادة كل الحمولة إلى العربة للهرب، ولسوء حظهم لم يدر المحرك بسبب بطارية السيارة، وعاد المخبر وراح يصرخ أنهم صهاينة لحمل الناس على الإيقاع بهم، فتركوا كل شيء وانطلقوا، والمخبر والناس من خلفهم يطاردونهم، حتى قبضوا على أحمد عادل كمال وطاهر عماد الدين، أما مصطفى كمال عبد المجيد فقد استطاع الفرار، وعاد إبراهيم محمود إلى محله حتى قبض عليه ليلًا، وبتفتيش السيارة بواسطة البوليس اتضح أنها تحمل 28 مسدسًا يدويًا ورشاشان ومدفعان برن و2700 قطعة ذخيرة و48 قنبلة يدوية وصندوقين من مادة الجلجنايت أحدهما مرتبط بجهاز تفجير زمني وكمية من الخناجر.
أبلغ مصطفى كمال عبد المجيد -الهارب- أحد الأخوة ويدعى سعد كمال صاحب ورشة سيارات في شارع أحمد سعيد قرب تقاطعه بشارع الملكة نازلي [شارع رمسيس حاليًا] بواقعة ضبط السيارة، وأعطاه فكرة عن محتوياتها، وبالصدفة كان هناك اجتماع في نفس اليوم لقيادة النظام بمنزل مصطفى مشهور، الذي يقع منزله قريبًا من ورشة سعد كمال، فتوجه الأخ سعد كمال إلى منزل الأخ مصطفى مشهور دون أن يعلم شيئا عن الاجتماع المنتظر بمنزله، ليبلغه بواقعة ضبط السيارة، كما توجه مصطفى كمال عبد المجيد إلى منزل محمود الصباغ دون أن يعلم هو أيضًا شيئا عن هذا الاجتماع، ليبلغه بواقعة ضبط السيارة، وكان ذلك قبل موعد اجتماع قيادة النظام بما يقرب من ساعتين.
فقام مصطفى مشهور بإخلاء منزله من أي أوراق لها علاقة بأعمال النظام، تحسبًا أن يفتش البوليس منزله لأنه من الإخوان المعروفين، فوضع كل الأوراق في حقيبة، وترك رسالة في منزله أنه سيعود حالًا لحضور الاجتماع، وذهب ليودعها عند قريب له لا علاقة له بالإخوان، وبالصدفة وبدون أي أتفاق، كان أحمد عادل كمال ومصطفى وطاهر وإبراهيم يرتديان بنطلونًا من “الفانلة” الرصاصي وبلوفر، فلما فر مصطفى تناقل الناس أن شخصا يرتدى بنطلونا “فانلة” وبلوفر قد فر، وبالصدفة أيضًا ودون أن يدرى، مر مصطفى مشهور حاملًا حقيبته الجلدية من نفس الشارع الذي تم ضبط السيارة الجيب فيه، وتصايح به الناس أنه هو الهارب المطلوب فقبضوا عليه، وشهد الشهود الذين استحضرهم البوليس أنه كان مع المجموعة المقبوض عليها في السيارة.
في نفس الوقت ذهب محمود الصباغ وأحمد زكي حسن وأحمد حسنين من قيادة النظام إلى منزل مصطفى مشهور لينتظروه في حجرة الصالون، وذهب البوليس يفتش بيت مشهور، فوجد هؤلاء هناك فاصطحبهم إلى قسم بوليس الوايلي. أما عبد الرحمن السندي تأخر عن موعد الاجتماع، فلما ذهب ووجد البوليس يحيط بالمنزل فلم يدخل وأستمر في طريقه وعاد إلى منزله ولم يقبض عليه في هذا اليوم، ليتم القبض عليه بعد ذلك بأيام قليلة عندما ورد اسمه في التحقيقات، وكانت تلك بداية النهاية.
أدى استجواب المقبوض عليهم إلى العثور على عدد من الوثائق شملت رسوم وخرائط للأهداف الحيوية التي يزمع التنظيم الخاص للجماعة مهاجمتها أو تفجيرها مثل السفارة الفرنسية والتي كان مقررًا إلقاء القنابل عليها يوم 15 نوفمبر، والسفارة البريطانية يوم 19 نوفمبر، والسفارة الأمريكية يوم 12 أو 22 من نوفمبر، بالإضافة إلى منازل النحاس والنقراشي وإسماعيل صدقي وشريف صبري ومكرم عبيد [السياسي الوحيد الذي سار في جنازة البنا بالرغم من تهديد البوليس باعتقال كل من يسير في جنازته] وعبد الرحمن عمار وعبد الفتاح عمرو وحسن فهمي رفعت وكيل الداخلية السابق، وعدد من أقسام الشرطة، وتم العثور على خريطة الشركة الشرقية للإعلانات ومبانيها ووُجدت بالسيارة شفرة الإخوان وخططهم السرية.
وثبت من الوثائق المضبوطة أن الإخوان المسلمين هم المسئولون عن حوادث الانفجارات التي وقعت في القاهرة خلال الشهور الستة الأخيرة، واعترف الشبان بأنهم نفذوا الهجمات التي تعرضت لها بعض المنشآت، وأظهرت هذه الوثائق أسماء أعضاء التنظيم الخاص ورئيسه عبد الرحمن السندي، ولم تعلن الحكومة عن ضبط السيارة الجيب إلا بعد وقت مناسب حتى استطاعت القبض خلال تلك الساعات على 32 من قيادات التنظيم ومن بينهم السندي الذي حل محله في القيادة المهندس سيد فايز بعد القبض عليه.
وهكذا أنكشف النظام الخاص بسقوط السيارة الجيب في قبضة رجال الأمن العام، وفي 25 سبتمبر 1949 وضع النائب العام محمد عزمي بك تقرير الاتهام في هذه القضية، فقدم 32 متهما وعلى رأسهم السندي ومحمود الصباغ ومصطفى مشهور [المرشد الخامس فيما بعد] بتهمة الاتفاق الجنائي علي قلب نظام الحكم، وتخريب المنشآت الحكومية، وأقسام ومراكز البوليس، وقتل عدد كبير من المصريين والأجانب، وذلك عمدًا مع سبق الإصرار والترصد، وتعريض حياة الناس وأموالهم عمدًا للخطر باستعمال القنابل والمفرقعات في عدد من السفارات والقنصليات الأجنبية، وفي 21 نوفمبر 1948 نشرت الصحف نبأ أذاعته وزارة الداخلية يقول إنه قد تم ضبط سيارة جيب بها كميات كبيرة جدا من المتفجرات الخطرة والأوراق في دائرة قسم الوايلي أمام أحد المنازل وتبين أن راكبي السيارة الذين تم القبض عليهم من جماعة الإخوان المسلمين.
وبدلًا من أن تؤثر الجماعة السلامة حتى تمر العاصفة، حركوا مظاهرة ضخمة للإخوان بكلية الطب بجامعة الملك فؤاد في 4 ديسمبر 1948، فقاد اللواء سليم زكي حكمدار شرطة القاهرة قوات الأمن لفض المظاهرة بنفسه، وإذا بطالب ينتمي لجماعة الإخوان المسلمين يلقى عليه بقنبلة من الطابق الرابع فسقطت بين قدميه وانفجرت فمات على الفور، ويستهين محمود الصباغ بالأمر ويقول في مذكراته؛ كان إلقاء القنابل في المظاهرات من جانب المتظاهرين في هذه الأيام أمرًا عاديًا
، وأغلقت الحكومة جامعة الملك فؤاد بما فيها كلية الطب إلى أجل غير مسمى.
ثبت إقدام أفراد الجهاز السري للجماعة على اغتيال اللواء سليم زكى متعمدين، بالرغم أن اللواء سليم زكى لم يقم بأي تحرك ضد الطلبة، ولم يفعل أكثر من أنه نصحهم بالتزام الهدوء وأنهم أحرار في الإضراب أو مغادرة الجامعة، في نفس الوقت الذي ألقيت عليه القنبلة التي أدت لقتله، وإصابة 8 من الضباط و54 من الجنود و74 طالب.(اللواء حسن طلعت، مدير المباحث العامة، في كتابه: في خدمة الأمن السياسي)
وصورت جريدة النداء الحادث على هيئة مجموعة من القنابل اليدوية وخلفها صورة ترمز إلى شخصية المرشد العام للإخوان المسلمين وجاء تعليق الجريدة الممهور باسم المصري أفندي الذي يبدى إعجابه ودهشته لأن تلك القنابل لها ذقن
، وردت صحيفة الإخوان بأن؛ النحاحسة [إشارة إلى مصطفي النحاس] لا يتورعون من إلقاء الاتهامات تمشيا مع أخلاقهم.
صدر للكاتب:
كتاب: ﻻ أحد يتعلّم من التاريخ ٢٠١٧
كتاب: ﻻ أحد يتعلّم من التاريخ [قيصر جديد] ٢٠١٨
كتاب: ﻻ أحد يتعلّم من التاريخ [صراع العروش] ٢٠٢٢
كتاب: ﻻ أحد يتعلّم من التاريخ [العملية ظافر] ٢٠٢٤