المقال رقم 64 من 63 في سلسلة تاريخ الإخوان والسلطة
«( تاريخ الإخوان والسلطةwp-content/uploads/2024/09/تاريخ-الإخوان-والسلطة.webp

في صباح اليوم الثالث من الغضب، كانت حركة المرور في ميدان التحرير طبيعية، بالرغم من قوات الأمن المتربصة في الميدان، وبدا واضحًا أن الحكومة قد بدأت تعي خطورة ما يحدث في الشارع، خصوصًا مع الدعاوى المنتشرة لمظاهرات عاصفة في اليوم التالي الذي لُقب بـ”جمعة الغضب”.

وعقد ، الأمين العام للحزب الوطني، اجتماعًا لهيئة مكتب الحزب لمناقشة التطورات الأخيرة وكيفية مواجهتها. أما البرامج التليفزيونية الصباحية فقد قللت من شأن الأحداث في اليومين السابقين من حيث أهميتها وعدد المشاركين فيها، وصرحت أن الأمر قد انتهى وأن الحياة قد عادت لطبيعتها مرة أخرى تمامًا، إمعانًا في إحباط الثائرين، مما يعكس خوفًا حقيقيًا مما يحدث على أرض الواقع.

استمرت الأحداث كما في اليومين السابقين، حصار كامل لنقابة المحامين في القاهرة ومنع الدخول إليها أو الخروج منها. وعلى النقيض، كانت حالة من الهدوء الحذر في الإسكندرية.

أما في السويس، فكانت حرب الشوارع بين المتظاهرين وقوات الأمن على أشدها، والسيارات المحترقة تملأ الميادين من جراء الاشتباكات، والمشهد ينذر بنهاية قريبة في الأفق، مما حدا بالشرطة إلى قطع الكهرباء والمياه وشبكات الهاتف المحمول والإنترنت عن السويس بأسرها. وسرت أنباء عن فرض حظر تجوال في جميع أنحاء مصر، نفاها بعد ذلك التليفزيون الرسمي للدولة.

في الرابعة عصرًا، خرج صفوت الشريف من اجتماع هيئة مكتب ليؤكد أن قيادات مصر والحزب الحاكم لا تعرف الهروب، نافيًا ما تردد من إشاعات حول هروبهم للخارج، على حد نص كلامه الذي أصبح مسار سخرية فيما بعد.

مفيش عندنا بطحة عشان نخاف منها، إحنا حزبنا كله وعطاءنا كله لخدمة هذا الوطن، إحنا موجودين أهو… وسنظل كذلك.. واقفين.. شامخين.. من أجل الوطن.. محتوين.. حاضنين الناس. أنا امبارح قلت إن مطالب الناس فوق رؤوسنا.

(صفوت الشريف، ٢٧ يناير ٢٠١١)

في التاسعة والنصف مساءً، سادت حالة من الترقب في مطار القاهرة، فالجميع في انتظار وصول د. ، الذي صرح فور وصوله بأنه سيشارك في اليوم التالي، الجمعة، في المظاهرة الكبرى المزمع قيامها من أجل الحرية والية وال. وأكد البرادعي أن التغيير قادم لا محالة وليس ثمة خيار آخر.

كانت الدعوة لمظاهرات جمعة الغضب قد بدأت من تحديدًا، وانتشرت الدعوة على موقعي الفيسبوك وتويتر لمظاهرة ضخمة غير مسبوقة في جميع أنحاء مصر يوم الجمعة 28 يناير، تنطلق في جميع أنحاء البلاد وتخرج من جميع الكنائس والمساجد في مصر، ويشارك فيها كل قوى الشعب المعارضة للنظام.

حتى جماعة الإخوان التي أعلنت مقاطعتها للثورة منذ البداية، عدلت عن رأيها وقررت المشاركة في هذا اليوم، وأعلنت أنها جزء من التظاهرات الشعبية لكنها لا تقودها، وحددت الجمعية الوطنية مطالبها بالتغيير الحقيقي السلمي.

كانت فكرة مظاهرات جمعة الغضب هي التجمع في الكنائس والمساجد ثم الانطلاق، فصلاة الجمعة للمسلمين وقداس الجمعة للمسيحيين هو التجمع الوحيد الذي لا يستطيع الأمن فضه تحت أي مسمى، كان تجمعًا طبيعيًا يحدث كل أسبوع، وكانت فكرة وائل غنيم هي استغلال هذا التجمع التلقائي.

حل مساء الخميس سريعًا، وخرج وائل غنيم لتناول العشاء بصحبة بعض الزملاء في مطعم مجاور على نيل الزمالك، وأمضى معهم القليل من الوقت، ثم اتجه عائدًا للمكتب سائرًا على الأقدام بعد منتصف الليل بقليل، وفي الشارع المظلم الهادئ المؤدي للمكتب، فوجئ وائل بثلاثة أشخاص يهجمون عليه ويقيدون حركته ويكتمون فمه لمنعه من الصراخ، حاول أن يستغيث ولكن هيهات، ثم تحدث أحدهم في جهاز إرسال قائلًا: تمام يا باشا، إحنا جاهزين، هنا أدرك وائل أنه قد تم القبض عليه، واستولى الخاطفون على حاسوبه المحمول، ثم دفعوه داخل سيارة، ثم أمروه أن يرفع قميصه على رأسه ليغطي به عينيه، وأحكم أحدهم الأمر بأن عقد حزام البنطلون بقسوة حول رأسه، وأجبره بكفه على أن يحني رأسه إلى أسفل وقال: إياك أن تنطق بكلمة واحدة.

لم يكن وائل الوحيد في تلك الليلة الذي أُلقي القبض عليه، فبعد عودة البرادعي مباشرةً من المطار، كان في انتظاره عدد من قيادات ، وعدد من قيادات حملته الانتخابية، وعدد من قيادات الذين قرروا الاشتراك في مظاهرات الجمعة بعدما تأكدوا بنسبة كبيرة من نجاح المظاهرات، وفداحة الخسارة الأدبية والشعبية التي ستصيبهم إن لم يشاركوا فيها. وبعد انتهاء الاجتماع مع البرادعي، خرجت المجموعة كلها لتجد قوات الأمن في انتظارهم ليتم القبض عليهم جميعًا.

في حدود الساعة الواحدة ليلًا من فجر الجمعة، بدأت موجة من الاعتقالات الواسعة لعشرات النشطاء السياسيين من شباب الثورة ومن كافة الأحزاب التي أكدت مشاركتها في هذه التظاهرات، وبعض من قيادات جماعة الإخوان المسلمين.

وأصدرت وزارة الاتصالات أمرًا فوريًا إلى شركات الهاتف المحمول الثلاث في مصر: موبينيل وفودافون واتصالات، بوقف الاتصال عبر الهواتف المحمولة وخدمة الرسائل النصية القصيرة في جميع أنحاء الجمهورية المصرية. وأصدرت الوزارة أوامر مماثلة إلى شركات مزودي الإنترنت الأربعة الرئيسية في مصر: “تي إي داتا” و “لينك دوت نت” و “فودافون” و “اتصالات”، بغلق الإنترنت نهائيًا وإلا سيتم قطع الكوابل الأرضية وتحطيم أجهزتهم القابعة في سنترالات وزارة الاتصالات في جميع أنحاء الجمهورية. فلم تجد أي شركة بدًا من الانصياع المباشر للأوامر، ولم ينجُ من هذا العزل الجبري سوى شركة صغيرة من مزودي الإنترنت تدعى “نور” ذات عدد محدود من العملاء، أغفلتها السلطات في ظل الأحداث الراهنة.

لأول مرة في مصر، تحدث حالة عزل كامل للجميع بلا إنترنت ولا هاتف نقال ولا رسائل قصيرة ولا أي وسيلة للاتصال بالغير غير الهاتف الأرضي، في أمر أشبه بالعودة إلى عصور ما قبل التاريخ. حتى القنوات الفضائية المؤيدة للثورة لم تسلم من محاولات التشويش المستميتة، تتفاداها القنوات بتغيير التردد بين الحين والآخر والإعلان عن التردد الجديد.

كانت القنوات كلها بلا استثناء مشتعلة، بعضها يدافع عن مبارك ويدين الحركة الثورية الوليدة، والبعض الآخر يؤيد الثورة مثل قنوات “الرأي” و “الجزيرة مباشر مصر” ويستقبل الاتصالات من جميع معارضي مبارك من جميع أنحاء العالم. كانت لهجة المتصلين العنيفة السافرة تؤكد بالفعل أنها النهاية، حتى المذيع نفسه قاطع على نفسه أي طريق للعودة. ووصلت الإثارة لأشدها في ليلة لم تعرف فيها القاهرة النوم، فما كان يحدث كان يفوق أي خيال.

كيف تقيّم هذا المقال؟

← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←

المتوسط الحالي 0 حسب تقييمات 0 من القراء

كن أوّل من يقيّم هذا المقال

بما أن المقال أعجبك..

ربما اﻷفضل مشاركته مع دوائرك كي يحظى بانتشار أوسع

من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا

دعنا نعمل على تحسين ذلك

أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟

‎ ‎ جزء من سلسلة: ‎ ‎ تاريخ الإخوان والسلطة[الجزء السابق] 🠼 الأربعاء ٢٦ يناير
بيشوي القمص
[ + مقالات ]

صدر للكاتب:
كتاب: ﻻ أحد يتعلّم من التاريخ ٢٠١٧
كتاب: ﻻ أحد يتعلّم من التاريخ [قيصر جديد] ٢٠١٨
كتاب: ﻻ أحد يتعلّم من التاريخ [صراع العروش] ٢٠٢٢
كتاب: ﻻ أحد يتعلّم من التاريخ [العملية ظافر] ٢٠٢٤

‎ ‎ نحاول تخمين اهتمامك… ربما يهمك أن تقرأ أيضًا: ‎ ‎