- كيف نشأت الجماعة؟
- ما بين العنف والنفاق
- الإخوان والعمل السياسي
- نشأة النظام الخاص
- المواجهة الأولى
- الإخوان المسلمين والبرلمان
- الإخوان وحكومة النقراشي
- الإخوان وحكومة صدقي
- انشقاق البنا والسكري
- الإخوان والدم
- قتل الخازندار
- الإخوان والحرب
- حل الجماعة
- ما بعد حل الجماعة
- أُكِلت يوم أُكِل الثور الأبيض
- نسف محكمة الاستئناف
- حادث حامد جودة
- الهضيبي مرشدا
- الإخوان وعبد الناصر
- عبد الناصر مرشدا
- اعتقال الهضيبي
- نهاية شهر العسل
- التنظيم السري من جديد
- الحل الثاني للجماعة
- قطب وناصر
- أزمة مارس ١٩٥٤
- حادثة المنشية
- محكمة الشعب
- عزل نجيب
- تنظيم ٦٥
- إعلام المؤامرة
- السادات رئيسا
- عودة الروح
- دولة العلم والإيمان
- من الجماعة إلى الجماعة
- دماء جديدة في جسم منهك
- التنظيم الدولي
- الانقلاب على السادات
- مبارك رئيسا.. بالصدفة
- سياسات مبارك مع الإخوان
- سياسات مبارك مع المعارضة
- قضية سلسبيل
- إيد واحدة
- الوريث
- إعادة توزيع المعارضة
- حركة كفاية
- ☑ الانتخابات الرئاسية ٢٠٠٥
في العام 2004، عرضت السينمات المصرية الفيلم الكوميدي “خالتي فرنسا”، الذي تدور أحداثه حول الخالة “فرنسا” التي تعمل بلطجية بالأجرة لمن يدفع. يتم استئجارها من قبل الأمن المصري والنظام للتحرش والفتك بالمعارضات، وضربهن وسحلهن في أثناء وقوفهن أمام لجان الانتخابات للتنديد بالتزوير الفج في أحد الانتخابات المصرية. ربما لم يتخيل أي من مشاهدي الفيلم، ولا حتى كاتب الفيلم ذاته، أن هذا المشهد سيحدث بحذافيره بعد عام واحد من عرض الفيلم. ففي 25 مايو 2005، قامت أجهزة الأمن وقوات الشرطة، لأول مرة في تاريخ مصر، باستخدام التحرش الجنسي وتسهيل استخدامه لمجموعات من البلطجية في مواجهة المتظاهرين والمتظاهرات المعارضين للاستفتاء على تعديل المادة 76 من الدستور.
تجمعت مجموعة صغيرة من المتظاهرين للإعلان عن رفضهم لتعديل المادة 76 من الدستور أمام ضريح سعد زغلول وأمام نقابة الصحفيين. فتصدت لهم حشود من العصابات المأجورة من العاطلين والبلطجية، وتعرضوا لهم وللصحفيين للضرب المبرح، وتعمدوا هتك العرض العلني للنساء تحديدًا، وضربهن وتمزيق ملابسهن والتحرش الجنسي بهن. كان ذلك بقيادة شخصيات معروفة في الحزب الوطني الحاكم وقيادات أمنية كبيرة، وتحت حراسة وحماية قوات أمن هائلة حاصرت مبنى النقابة، وعلى مرأى ومسمع من إسماعيل الشاعر، رئيس مباحث القاهرة آنذاك. ومنعت قوات الأمن المتظاهرين من الهروب ورفضت تقديم النجدة لهم.
أشهر من تعرضن للتحرش هي الصحفية نوال علي، التي تم تمزيق الجزء العلوي من ملابسها بالكامل. رفض قسم شرطة قصر النيل تحرير محاضر بالواقعة. أدانت نقابة الصحفيين والعديد من الكتاب والناشطين ومنظمات حقوق الإنسان ما حدث، وطالبوا بإقالة وزير الداخلية ومحاكمة المسؤولين. في حين ادعى صحفيو الجرائد القومية أن نوال وغيرها مزقن ملابسهن “لإفساد عرس الديمقراطية”!! في عام 2009، توفيت نوال حزنًا وكمدًا على ما أصابها من انتهاك واعتداء، دون أي أمل في إقامة العدل.
قدم العديد من الضحايا بلاغات إلى النائب العام، اتهموا فيها كلًا من ماجد الشربيني، أمين الشباب بالحزب الوطني، ومجدي علام، ومحمد الديب من قيادات الحزب الوطني، بالإضافة إلى عدد من ضباط الشرطة والمباحث، منهم أحمد العزازي، ونبيل سليم، وعبد الله الوتيدي، بأنهم كانوا يقودون البلطجية بأنفسهم وبتحريضهم للاعتداء عليهم. كما اتهمت عبير العسكري، إحدى الضحايا، المحامي علي الصغير، عضو نقابة المحامين، بأنه ضربها بنفسه. وفي الجمعية العمومية الطارئة لنقابة الصحفيين يوم 1 يونيو عام 2005، لمناقشة الاعتداءات على صحفيات من أعضاء النقابة يوم الاستفتاء والتحرش بالصحفية نوال علي وتمزيق ملابسها أمام النقابة، تقدم عدد كبير من الصحفيين إلى مجلس النقابة بطلب لسحب الثقة من الصحفي أحمد موسى، لإقدامه على نشر خبر في صفحة الحوادث بـ”الأهرام” مفاده أن الصحفية نوال هي التي مزقت ملابسها بإرادتها.
هذا “الأربعاء الأسود” سيدخل التاريخ، ليس باعتباره يومًا للاستفتاء على تعديل دستوري، ولكن باعتباره اليوم الذي جرى فيه لأول مرة استخدام هذا السلاح الحقير بشكل علني وجماعي في الطريق العام.
لاحقًا في مارس 2013، وفي حكم غير مسبوق، أصدرت اللجنة الإفريقية لحقوق الإنسان والشعوب التابعة للاتحاد الإفريقي قرارًا بإدانة الحكومة المصرية بشأن الاعتداءات الجسدية والجنسية التي تعرضت لها عدد من الصحفيات والناشطات السياسيات في أحداث الأربعاء الأسود في أثناء مظاهرات الاحتجاج على تعديل الدستور في 25 مايو 2005. وانتهى القرار، المكون من 74 صفحة، إلى إدانة الحكومة المصرية بانتهاك ثمانية من مواد الميثاق الإفريقي لحقوق الإنسان والشعوب، ومطالبة الحكومة بإعادة فتح التحقيقات في الاعتداءات التي كان النائب العام قد أغلقها في 2005 وتقديم الجناة للمحاكمة، مع تقديم تعويضات لكل من الشاكيات الأربع في الدعوى.
وكانت المبادرة المصرية للحقوق الشخصية، بالاشتراك مع المركز الدولي للحماية القانونية لحقوق الإنسان “إنترايتس”، قد أقامت الدعوى رقم 323 لسنة 2006 ضد الحكومة المصرية أمام اللجنة الإفريقية في مايو 2006، نيابة عن أربع من الصحفيات، وهن: شيماء أبو الخير، عبير العسكري، إيمان طه، ونوال علي، التي توفيت في 2009، واللاتي تعرضن وأخريات من الصحفيات والناشطات إلى الاعتداء الجسدي والجنسي في أثناء تظاهرات معارضة للاستفتاء على تعديل الدستور في 25 مايو 2005.
اتفاقية تصدير الغاز المصري لإسرائيل
كأن النظام الحاكم لم يكن يكفيه ما وصل إليه معظم أفراد الشعب من قهر وإحباط وضيق حال، فقرر أن يزيدهم سببًا إضافيًا للإحباط. ففي 30 يونيو 2005، وقعت الحكومة المصرية اتفاقية مع إسرائيل تقضي بتصدير 1.7 مليار متر مكعب سنويًا من الغاز الطبيعي إليها لمدة 20 عامًا، وبثمن يتراوح بين 70 سنتًا و1.5 دولار للمليون وحدة حرارية، بينما يصل سعر التكلفة إلى 2.65 دولار. أي أن الحكومة وقعت على بيع الغاز بأقل من ثمن تكلفة استخراجه. كما حصلت شركتا “الغاز الإسرائيلية” و”غاز شرق المتوسط” المسؤولة عن تنفيذ الاتفاق على إعفاء ضريبي من الحكومة المصرية لمدة 3 سنوات، من عام 2005 إلى عام 2008.
الجدير بالذكر أن شركة “غاز شرق المتوسط” هي شراكة بين رجل الأعمال المصري حسين سالم، مالك أغلب أسهم الشركة، ومجموعة “ميرهاف” الإسرائيلية، وشركة “أمبال” الأمريكية الإسرائيلية، وشركة “بي تي تي” التايلندية، ورجل الأعمال الأمريكي “سام زيل”. وقد أثارت هذه الاتفاقية حملة احتجاجات كبيرة، ودفعت عددًا كبيرًا من نواب مجلس الشعب المصري إلى الاحتجاج وتقديم طلبات إحاطة ورفع دعاوى قضائية لوقف تصدير الغاز. وبالفعل، حكمت محكمة القضاء الإداري المصرية بوقف قرار الحكومة بتصدير الغاز الطبيعي إلى إسرائيل، إلا أن الحكومة المصرية قدمت طعنًا لإلغاء الحكم للمحكمة الإدارية العليا، التي قضت بإلغاء حكم المحكمة الإدارية.
حريق مسرح بني سويف
قبل الانتخابات الرئاسية المصرية بيومين، وفي 5 سبتمبر 2005، في نهاية عرض مسرحية “من منا؟” عن قصة “حديقة الحيوان” في قاعة الفنون التشكيلية الملحقة بمبنى قصر ثقافة بني سويف، وخلال تحية الممثلين للجمهور في نهاية العرض، شاءت الأقدار أن تسقط شمعة من يد أحد الممثلين لتلتهم النيران ستارة المسرح، وتصاعدت ألسنة الدخان لتشعل المسرح كله في دقائق معدودة، فغيبت نيران الحريق اثنين وخمسين شهيدًا، من بينهم كتاب ونقاد ومخرجون وأساتذة متميزون في المسرح المصري والعربي. وتمكن رجال الإطفاء من إخماد الحريق بعد ساعتين من اندلاعه، ولكن بعد فوات الأوان.
ذكر تقرير لجنة تقصي الحقائق الصادر عن “جماعة 5 سبتمبر” التي تشكلت بعد الحادث أن عربات الحماية المدنية التي تبعد عن موقع الحريق مسافة 5 دقائق، تأخرت في الوصول بما لا يقل عن 50 دقيقة. وبعد وصول العربات، حاول عمال الإطفاء استخدام الخراطيم لإطفاء الحريق، لكنهم لم يجدوا مياهًا. لتكشف تلك الحادثة مدى التردي والترهل اللذين أصابا جميع المؤسسات في ظل حكم مبارك. والطريف والمؤلم كذلك أن بعض سيارات الإسعاف ظلت رابضة أمام المستشفى بلا حراك، حتى لا يفوتها شرف المشاركة في المشهد الإعلامي المتجمع بعد الحادث، مدعية أنها قامت بنقل المصابين من مكان الحادث إلى ساحة المستشفى. وهكذا، أصبح مصير المحروقين معلقًا بالمحاولات العشوائية التي قام بها المتواجدون في محيط المسرح لنقل المصابين، إضافة إلى رفض موظفي المستشفى استقبال الضحايا إلا بعد الانتهاء من الإجراءات القانونية، الأمر الذي كلفهم نصف ساعة أخرى أضافت أرقامًا إلى قائمة القتلى.
أخيرًا، دخل المصابون إلى المستشفى ليجدوا أنفسهم في بيئة لا يتوافر فيها الحد الأدنى من الرعاية الصحية، مما أضاف إلى عدد الموتى رقمًا جديدًا. والجدير بالذكر أن بعض الضحايا قد لقوا حتفهم دهسًا بعد أن دب الذعر في صفوف المشاهدين. وقد قال محافظ بني سويف إن هناك أشخاصًا توفوا اختناقًا، بينما قالت مصادر طبية إن بعض الجثث تفحمت ويصعب التعرف عليها. وذكر تقرير لجنة تقصي الحقائق أنه حينما زار وزير الصحة ومحافظ بني سويف المصابين، دبت الحيوية في العاملين بالمستشفى في نوبة نشاط بيروقراطي لا يعرفون العمل إلا حين يظهر الرؤساء. وقد تم توثيق تقرير تقصي الحقائق بشهادات شهود عيان كانوا متواجدين في مكان الحادث، وتم تقديم نسخة منه إلى النائب العام لما يتضمنه من شهادات يمكن اعتبارها أدلة جديدة تستلزم إعادة فتح التحقيق في القضية. بالطبع، توقع الجميع أن يقيل مبارك وزير الثقافة فاروق حسني لمسؤوليته عن تلك الكارثة، الذي تكرم بالفعل بإعلان مسؤوليته الأدبية عن الحادث، إلا أن الرئيس مبارك أعفى وزير ثقافته المفضل لديه من المسؤولية، ورفض قبول استقالته، وأغلق ملف تلك الكارثة نهائيًا.
الانتخابات الرئاسية 2005
حين اقترب موعد انتخابات الرئاسة في سبتمبر 2005، قال البعض إن الوقت قد حان كي يخطو جمال خطوته الكبيرة، لكن العجوز لم يكن ليستسلم بسهولة. كان من الواضح أن مبارك يريد البقاء أكثر في الرئاسة، بل كان هناك دائمًا تأكيدًا من مبارك ملخصه أنه ليس ثمة من يمكن أن يحل محله، وأنه الوحيد القادر على إدارة شؤون مصر. الرئيس الذي كان ذات مرة قد تعهد بألا يبقى رئيسًا إلا لولاية واحدة، كان هو ذاته في وسط حملة انتخابية لولاية خامسة، وكانت لديه أيضًا مفاجأة أخرى للناخبين، فهذه المرة وبعد تعديل الدستور، سُمح لهم أن يصوتوا لصالح مرشحين آخرين.
المشكلة هي أن شروط الترشح كانت مدروسة جيدًا، بحيث لم يستطع الترشح سوى أشخاص ليست لديهم فرص كبيرة لمنافسة الرجل الذي حكم البلاد لمدة ربع قرن من الزمان. كان مبارك قد تجاوز الثمانين من عمره، وهو سن لا يسمح له بالذهاب إلى دورة المياه منفردًا. فحاول الحزب الوطني أن يجدد الدماء المتجمدة في عروقه من خلال “نيولوك” جديد يظهره بمظهر الشباب. فظهر مبارك مرتديًا قميصًا أبيض وربطة عنق، بدون البدلة الرسمية، ووجه مشدود وشعر مصبوغ ومصفف بعناية. وقام أحمد عز بتمويل جانب كبير من الحملة الانتخابية لمبارك على طريقة “الفكر الجديد”، ولم يبخل أحمد عز بالهدايا الثمينة وأجهزة الهواتف الخلوية الفاخرة على العديد من الإعلاميين الذين شاركوا في هذه الحملة، وأصبحوا من مشاهير التلفزيون والصحافة بعد ذلك، مثل لميس الحديدي وآخرون. كل ذلك حتى تخرج الحملة الرئاسية لمبارك متقنة ومقنعة.
لكن، وبالرغم من كل التدابير التي قام بها عز، لم يخلُ الأمر من بعض السقطات الكارثية. ففي 22 أغسطس 2005، وفي إطار حملته الانتخابية المصطنعة، وفي طريقه إلى خيمة اللقاء الجماهيري في مزرعة المغربي بالنوبارية، توقف الرئيس حسني مبارك لدقائق أمام كوخ صغير على رأس حقل لاحتساء كوب من الشاي مع أسرة المزارع كمال المراغي وزوجته سناء. وأكد المزارع البسيط على شاشة التليفزيون المصري سعادته بلقاء مبارك للمرة الثانية، حيث حظي بلقائه في المرة الأولى، مثلما قال، عندما سلمه الرئيس عقد خمسة أفدنة من الأرض المستصلحة منذ 15 عامًا.
وقامت أسرة كمال بإعداد الشاي لمبارك على “كانون” (موقد حجري بدائي)، وراح الرئيس يتناوله وهو يتجاذب أطراف الحديث مع المزارع. وتوجه مبارك للشاب كمال بأسئلة عن كيفية تسويق المحاصيل. وبعد أن أجاب المزارع على أسئلة الرئيس، وعده مبارك بأن الأحوال ستكون أفضل عندما تدخل الشركات الكبيرة في عملية النقل والتسويق، ووعد بتقديم مزيد من القروض لشباب الخريجين. وخرج مبارك محملًا بدعوات الفلاحين البسطاء بالنجاح في سباق الانتخابات من واقع تجربتهم في الأرض الجديدة.
في اليوم التالي، عندما ذهبت الصحافة لإجراء مقابلة مع المزارع البسيط الذي استقبل مبارك في “عشته” البسيطة، لم يجدوا لا “العشة” ولا “الكانون”، ليكتشفوا أن المزارع كمال المراغي ليس فلاحًا، وإنما هو أمين شرطة تم تجهيزه وتلقينه من قبل الحملة الانتخابية لتمثيل دوره في المسرحية الهزلية.
تنافس محبو مبارك ومنظروه على الإنحياز الإعلامي له. فأفرد مصطفى بكري، رئيس تحرير جريدة الأسبوع
، الصفحة الأخيرة من الجريدة لتسبح وتمجد بحمد مبارك في أعداد متتالية. وخرج في لقاءات عديدة يشيد بحرص السيد الرئيس على تمثيل مشرف للمعارضة وتحريضه على تطور العملية السياسية
، كما قال نصًا في أحد لقاءاته على قناة المحور. وخرج بكري مرات عديدة مهاجمًا الحكومة، كونها دائمًا تفشل في تنفيذ توجيهات سيادة الرئيس، كنوع من المعارضة الكرتونية القبيحة. وكان مصطفى بكري يفتخر دائمًا بشدة قربه من مبارك، ويدلل على ذلك بأن مبارك كان يختصه هو وعدد محدود من الصحفيين بالسفر معه للخارج دون غيرهم.
لم يتوقع مبارك، وهو يعدل الدستور ويعيد تفصيله ليصبح على مقاس وريثه جمال، وليصبح منافسته رابع المستحيلات، أن يتجرأ أحدهم ويستغل الفرصة لصنع هذا المستحيل. لكن بالفعل، نجح شخص واحد أن يعبر هذا المستحيل ويحقق بعضه؛ هو المعارض المصري د. أيمن نور، الذي نجح في أن ينافس مبارك في الانتخابات الرئاسية 2005، في ظل وجود نظام لا يريد بديلًا حقيقيًا له ينافسه على منصبه، بل كان يريد كومبارس ليلعب دورًا معينًا في مسرحية الانتخابات الكوميدية سيئة النص، أدى معظم أبطالها دورهم بكفاءة، حتى أن أحد أبطال المسرحية وأحد المرشحين لانتخابات الرئاسة، الشيخ الكهل أحمد الصباحي، رئيس حزب الأمة المصري في هذا الوقت، ذو الـ95 عامًا، أعلن أنه سيصوت في الانتخابات الرئاسية لصالح مبارك، بالرغم من أنه لم يتنازل عن ترشيح نفسه للمنصب.
لكن أيمن نور لم يكن كومبارسًا وقتها، وأصر على أن ينافس الأسد في عرينه وعلى منصبه. كان أيمن نور يرى نفسه بديلًا حقيقيًا لمبارك، والحقيقة أنه كان أمل المعارضة في ذلك الوقت، فهو الوحيد الذي أشعل نيران الأمل وأزال الخوف المتراكم من 24 عامًا، وهي سنوات حكم مبارك وقتها. وأصبح نور أمل شباب المعارضة، وفجأة وجد مبارك أمامه منافسًا حقيقيًا، يحمل درجة الدكتوراه في القانون في الأربعين من عمره، مما يجعله قادرًا على المنافسة بقوة في المعركة القادمة. والحقيقة أن أيمن نور فعل ما لا يمكن أن يفعله الآخرون، فقد طاف بعدد كبير من قرى ومدن مصر في وقت محدود جدًا، في نفس الوقت الذي كان يدير فيه حملة انتخابية جيدة بميزانية محدودة، مما وضع النظام في مأزق حقيقي، وجعل مبارك يتصرف بجنون نحو تزوير تلك الانتخابات شكلًا وموضوعًا، بالتزوير المباشر في الصناديق، بالإضافة إلى دفع الموظفين الحكوميين وعمال المصانع التابعين لرجال أعمال الحزب الوطني دفعًا للتصويت له.
السيد الرئيس محمد حسني مبارك، سعدنا جدًا بخبر ترشحكم للرئاسة لمرة تالية. كلنا معك، نؤيدك بكل قلوبنا، وسوف نهنئكم بمشيئة الله.(البابا شنودة الثالث في ٢٩ يوليو ٢٠٠٥)
وثيقة مبايعة
البابا شنودة الثالث ومطارنة وأساقفة الكنيسة القبطية الأرثوذكسية يسعدهم استمرار الرئيس محمد حسني مبارك في رئاسته لمصر، لما يرونه فيه من حكمة سياسية وخبرة عميقة بإدارة شؤون البلاد، ومعرفة وثيقة وعلاقة طيبة بكل القيادات السياسية في البلاد العربية والغربية وسائر البلاد، وما ناله من تقدير الجميع، وما له من موقف حازم في قضايا الشرق الأوسط والسودان، وحفظ مكانة مصر بين الدول. لذلك، يناشدونه الاستجابة لرغبة الجماهير بترشيح نفسه لرئاسة الجمهورية لدورة تالية، والكل يحبونه ويؤيدونه.(المجمع المقدس في أغسطس ٢٠٠٥)
كانت تلك الوثيقة نسخة مكررة من وثائق أقدم سبق إرسالها في الاستفتاءات الرئاسية السابقة في عامي 1993 و1999. ولم تكتفِ الكنيسة بذلك، بل دفعت وشحنت المسيحيين في مناطق عديدة في حافلات إلى لجان الانتخاب للتصويت لمبارك، مما أثار حنق المعارضين الأقباط أكثر فأكثر. وثارت ثائرة النخبة السياسية القبطية جراء موقف الكنيسة المخزي. وقال المهندس يوسف سيدهم، رئيس تحرير جريدة وطني، في اجتماع لجنة المواطنة التابعة لأسقفية الشباب في الكاتدرائية الكبرى بالعباسية: إننا جميعًا قد أحسسنا بغبن شديد جراء ما فعله قداسة البابا
.
ولم يكتفِ البابا بذلك، بل حرم القس فيلوباتير جميل، عضو حزب الغد الذي يتزعمه د. أيمن نور، وظهر مع نور في العديد من المؤتمرات، ووقفه عن ممارسة عمله في الكنيسة لمدة شهر ونصف، بسبب مقاله الأقباط بين مطرقة الحزب الوطني وسندان الإخوان المسلمين
الذي نُشر في العدد رقم 11 من مجلة الكتيبة الطيبية
الصادرة عن كنيسة العذراء والبابا كيرلس بعزبة النخل. ففي هذا المقال، فضح القس فيلوباتير لعبة النظام المصري لتدجين المسيحيين في مصر، وقال إن الإخوان والحزب الوطني وجهان لعملة واحدة، وأكد أن الحزب الوطني لا يقل سوءًا عن نظام الإخوان المسلمين، وسرد قائمة بكل الأحداث الطائفية التي حدثت في عهد مبارك التي لم يحاكَم فيها أحد، وكان هدفه تحطيم الفكرة التقليدية التي يروج لها النظام والكنيسة بأن الحزب الوطني هو الذي يحمي المسيحيين.
وبسبب المقال، تعرض القس فيلوباتير لمحاكمات كنسية عنيفة، أو محاكم تفتيش بمعنى أدق. وأصدر المجلس الإكليريكي الفرعي لإيبارشية الجيزة قرارًا بإيقاف فيلوباتير عن ممارسة العمل الكهنوتي لمدة شهر ونصف مع حرمانه من راتبه؛ لأنه، حسب ما قاله الأنبا بيشوي، سكرتير المجمع المقدس، القس فيلوباتير قد جانبه الصواب في هذا المقال؛ لأنه قد خالف تقاليد الكنيسة والكتاب المقدس
. ونتيجة للضغط، رضخ القس فيلوباتير، ولاحقًا نشر تصريحات يعتذر فيها لمبارك.
لم يكن فيلوباتر وحده من يعتقد بضحالة وسذاجة فكرة أن النظام المباركي هو حامي الدولة المدنية، بل شاركه آخرون. ففي التوقيت نفسه تقريبًا، كان د. نصر حامد أبو زيد يكتب مقاله الشهير سقوط التنوير الحكومي
في مجلة أخبار الأدب
، متبنيًا وجهة نظر فيلوباتر جميل نفسها. كان أبو زيد الوحيد بين أقرانه من الكتاب والمثقفين الذي يرى أن نظام مبارك الديكتاتوري العسكري لا يقل بشاعة عن أي نظام حكم ديني، بل إن نظام مبارك الديكتاتوري هو الذي يذكي تواجد الإخوان في مصر ويدعمهم في الخفاء، ثم يخرج علينا مؤكدًا أنه الوحيد القادر على حماية الدولة المدنية من نيرانهم.
صار ما أسهل أن يسمع الإنسان من بعض المثقفين الذين ينسبون إلى الفكر والمفكرين من يقول: نار النظم العسكرية المستبدة أرحم من جنة دعاة الدولة الإسلامية. بل بالغ البعض إلى حد الذهاب إلى أن حذاء العسكر على الرأس أفضل من عمامة المتأسلمين. هكذا تنازل المثقف التنويري راضيًا، لا عن استقلاله الفكري فقط، بل تطوع بالانخراط التام في العمل في مشروع النظام السياسي في بلد. وفي نقاش حول جدوى العمل من داخل النظام، كان واضحًا أن عددًا لا يستهان به من مثقفينا يرى أن نار هذا النظام أفضل ألف مرة من جنة الإسلاميين، وأنه، أيًا كانت تحفظاتنا، فهو نظام حكم مدني جدير بالحماية في خطر الدولة الدينية التي يسعى إليها الإسلاميون. كان هذا المنطق مخالفًا لقناعاتي التي رسختها دراستي التحليلية للخطاب الديني، المعتدل والمتطرف، التي لم تجد فارقًا بينهما من جهة، ولم تجد فارقًا بين كليهما وبين الخطاب السياسي في الجمهوريات الثلاث من جهة أخرى. إن النظام ليس مدنيًا، بل هو نظام عسكري ديكتاتوري لا يقل بشاعة في الحقيقة عن أي نظام ثيوقراطي. وعلى المفكر أن يظل دائمًا محافظًا على دوره النقدي، الذي يتخلى عنه حين يختار طواعية أن يكون ترسًا في آلة النظام. لكن الجميع كانوا واثقين من قدرتهم على الاحتفاظ باستقلالهم الفكري وعلى مواصلة القيام بأدوارهم النقدية، وأن التجربة هي الفيصل. كان اليأس العام هو الذي أوهم المثقفين أن التحالف مع السلطان سيحمي حقوقهم ويمكنهم من الدفاع عن حرياتهم ومصالحهم المهدرة.(نصر حامد أبو زيد، مجلة أخبار الأدب ٢٠٠٥)
وبينما كانت قوى المعارضة تتحد في وجه مبارك الذي يعد نفسه لتولي فترة رئاسة خامسة، كانت جماعة الإخوان المسلمين، التي أعلنت في السابق أنها ستقاطع الانتخابات الرئاسية وأنها ستقاوم النظام بالسلبية، عادت بعد أسبوع واحد من هذا الإعلان وأصدرت بيانًا آخر من الجماعة تدعو فيه الجماهير إلى عدم مقاطعة انتخابات الرئاسة حتى يكون المسلم إيجابيًا
على حد قولهم. وأثار هذا التغيير السريع لموقف الإخوان المسلمين من النقيض إلى النقيض العديد من التساؤلات حول هذا التغيير المبهم الذي تم تفسيره لاحقًا…
ما كان يحدث بين الإخوان ومبارك لم يكن يزيد عن مسرحية هزلية، يدعي فيها الأخير أنه الضامن للأمن والأمان في مصر من تلك الجماعة وخطرها. في المقابل، كان يطلق لهم العنان للسيطرة على الشارع المصري، وساعد تردي الأحوال على كافة الأصعدة على تثبيت أقدام الإخوان في الشارع. على سبيل المثال، ساعد تردي قطاع الصحة بوجه عام على اتجاه الطبقة الفقيرة من الشعب إلى المستوصفات والجمعيات الإخوانية طلبًا للتداوي، ووصل عددها إلى 1055 جمعية، تمت الموافقة عليها جميعًا في عهد مبارك، مما ساعد على انتشار واكتساح الفكر الإخواني بين معظم فئات الشعب. وعلى سبيل المثال أيضًا، قطاع التعليم العالي، ففي عهد مبارك، استطاع أكثر من ألفي مدرس جامعي إخواني الوصول إلى مناصبهم الجامعية بموافقة أمن الدولة، بالتالي القدرة على إنتاج جيل جامعي إخواني الفكر، في نفس الوقت الذي كان أمن الدولة يمنع فيه وصول أي معارض من أي تيار إلى تلك المناصب الرفيعة.
في السابع من سبتمبر 2005، أُجريت الانتخابات الرئاسية. وكما هو متوقع، فاز مبارك بفترته الانتخابية الخامسة بعدد أصوات تجاوز الـ 6 مليون صوت. وتربع أيمن نور على عرش الوصيف بعدد أصوات تجاوز النصف مليون صوت، بإجمالي عدد أصوات 7 مليون صوت من بين نحو 32 مليون مواطن لهم حق الانتخاب، بنسبة تصويت 23%، أي أنها لم تتجاوز ربع تعداد الشعب المصري. لكن مبارك لم يستطع أن يتجاوز ما فعله المعارض أيمن نور من تطلعه كمواطن مصري إلى منافسة مبارك على عرش مصر، فدفع بأيمن نور إلى قضية تزوير 1435 توكيلًا من التوكيلات الخاصة بتأسيس حزب الغد، التي حُكم فيها على أيمن نور بالحبس لمدة خمس سنوات. في نفس الوقت، كان مبارك يحلف القسم الجمهوري ويتولى حكم مصر لستة سنوات عجاف أخرى.
صدر للكاتب:
كتاب: ﻻ أحد يتعلّم من التاريخ ٢٠١٧
كتاب: ﻻ أحد يتعلّم من التاريخ [قيصر جديد] ٢٠١٨
كتاب: ﻻ أحد يتعلّم من التاريخ [صراع العروش] ٢٠٢٢
كتاب: ﻻ أحد يتعلّم من التاريخ [العملية ظافر] ٢٠٢٤