المقال رقم 46 من 47 في سلسلة تاريخ الإخوان والسلطة
«( تاريخ الإخوان والسلطةwp-content/uploads/2024/09/تاريخ-الإخوان-والسلطة.webp

بدأت النهاية في رحلة استمرت سبع سنوات، بتجمع ثلاثمئة من المثقفين المصريين والشخصيات العامة التي تمثل الطيف السياسي المصري، لصياغة وثيقة تأسيسية تطالب بتغيير سياسي حقيقي في مصر، وبإنهاء الظلم الاقتصادي والفساد في السياسة الخارجية، تحت اسم الحركة المصرية من أجل التغيير “كفاية”، لتكون الثمرة الأولى لبذور الغضب على مدار كل تلك السنين.

حركة كفاية كانت أول من ثار علانية ضد تمديد فترات الرئاسة لمبارك وضد مشروع توريث السلطة تحت شعارهم الشهير لا للتمديد لا للتوريث. وقد قامت أول مظاهرة لحركة كفاية في ذكرى اليوم العالمي لحقوق الإنسان في 10 ديسمبر 2004، الذي وافق يوم الجمعة، وهي العطلة الرسمية في البلاد. لذلك، تقرر أن تكون المظاهرة يوم الأحد 12 ديسمبر 2004 حتى تجد المظاهرة صدى شعبيًا لها. وقال الدكتور ، أحد مؤسسي الحركة، إنه لو شارك في المظاهرة 100 فقط من المواطنين لكان ذلك إنجازًا عظيمًا. وحدث ما تمناه قنديل بل وأكثر، وشارك في المظاهرة ما يقرب من 1000 متظاهر في أول حراك سياسي في مصر منذ انتفاضة الخبز عام 1977.

واستبق الأمن تلك المظاهرة، فحاصرتهم جحافل من قوات أمن مبارك، لينطلق أول هتاف علني صريح في تاريخ المعارضة يطالب بسقوط مبارك قائلاً: يسقط يسقط  – لما تغور هايجي العيد. كانت تلك المظاهرة علامة فارقة في تاريخ المعارضة المصرية، لأنها كسرت ثقافة الخوف، وانتهكت حق التظاهر المكفول في الدستور والمواثيق الدولية، واقتنصت حق نقد رئيس الجمهورية علانية. واتخذت الحركة أسلوب النظام الشبكي المرن نظامًا لها بتأسيس 23 حركة كفاية فرعية بقيادة 23 منسقًا في 23 محافظة من أصل 26 محافظة مصرية. فكانت المظاهرات التي تنظمها الحركة تخرج كلها متزامنة في نفس التوقيت وبالهدف نفسه، وكان النظام البوليسي لمبارك يواجه مظاهرات الحركة بالضرب والسحل، حتى وصل الأمر إلى الاعتداء على د. عبد الجليل مصطفى، منسق الحركة والقيادي بحركة 9 مارس لاستقلال الجامعات، بالضرب والسحل في شارع ، والقبض على چورچ إسحق أحد أعضائها البارزين.

حركة كفاية كانت الحركة الأم التي ولد من رحمها العديد من التنظيمات والحركات الصغيرة النوعية والفئوية، مثل شباب من أجل التغيير، وعمال من أجل التغيير، وصحفيون من أجل التغيير، وطلاب من أجل التغيير، ومهندسون من أجل التغيير، وأطباء من أجل التغيير، ونوبيون من أجل التغيير، حتى وصل الأمر إلى تأسيس أطفال من أجل التغيير ونساء من أجل التغيير.

ولم تسلم الحركات الشعبية السياسية المستقلة عن الحكومة والمعارضة من الوقوع في فخ الاندماجات والتحالفات المعلنة والخفية لتنظيم الإخوان. فقد تسلل تنظيم الإخوان إلى حركة كفاية ودمرها من الداخل، مما أفقدها قيمتها كتجمع وطني يحاول تقديم رؤية جديدة للمعارضة الحرة في مصر. وفي الوقت الذي كانت تسعى فيه الجماعة لاقتحام حركة كفاية، كان المرشد العام للإخوان يتغزل في مبارك ونظامه.

على صفحات جريدة ، العدد 207، بتاريخ السبت 1 يناير 2005، أدلى السيد ، المرشد العام للجماعة، الذي تولى منصب المرشد خلفًا لسابقه محمد في عام 2004، بحوار لجريدة المصري اليوم، أكد فيه أن الرئيس مبارك ولي الأمر، وطاعته واجبة. وأضاف أن جماعة الإخوان المسلمين تتمنى تغيير طريقة اختيار الرئيس، ولكنها لا تطالب بذلك. وأكد على حرص العلاقة بين الإخوان والنظام المباركي، فهو لا يقبل إفساد العلاقة بين مبارك وأبنائه من الإخوان المسلمين. وسخر عاكف من المعارضة، وأكد أنه لا توجد معارضة في مصر، وأن النظام لا يعيرها اهتمامًا.

في نفس العام، وفي مجلة ، يوم 20 يوليو 2005، أجرى الصحفي حسن علام حوارًا مثيرًا للجدل مع المرشد العام مهدي عاكف. سأل الصحفي ما إذا كان سبب الصدام بين الجماعة والسلطة طوال تاريخ الجماعة هو السعي الدؤوب للوصول للحكم والسلطة؟ فنفى مهدي عاكف هذا التفسير، وقال: إن سبب الصدام هو غياب الحرية، نحن لم نطالب بشيء سوى الحرية واحترام الإنسان والقانون.

هناك أناسًا لهم أهداف وأغراض وأهواء ومدفوع لهم الأجر حتى يرددوا هذا الكلام، وأنا أتحدى صحة هذا الكلام. صحيح أن السعي للحكم ليس حرامًا، ومن يبتغيه بالأسلوب ال عن طريق صندوق الانتخاب الحر ليس عيبًا، ومع ذلك أعلن بأعلى صوتي أننا لا نريد أن نحكم، ولكننا نريد أن يحكم الشعب. فمصر تحتاج اليوم إلى كل القوى السياسية لتتعاون في سبيل تقدمها ورفعتها، وتمثيل الإخوان في الشارع المصري لن يزيد على ٣٠%، بمعنى أنه يوم ندخل البرلمان مهما فعلنا وحاولنا، وتكون الانتخابات حرة، فلن نحصل على أكثر من ٣٠%. [1]

(مهدي عاكف، مجلة آخر ساعة)

وعندما سأله الصحفي، هل يؤيد ترشيح الرئيس حسني مبارك لولاية جديدة؟ أجاب عاكف:

أنا أؤيد ترشيح مبارك، ولا مانع لديّ. أتمنى الجلوس معه للتشاور في مصلحة هذه الأمة، وذلك بإلغاء قانون الطوارئ، ومناقشة قانون الأحزاب، والإفراج عن جميع السجناء السياسيين، وإلغاء المحاكمات الاستثنائية. هو صاحب السلطة، ولا يستطيع أحد في مصر أن يحقق ذلك إلا هو. إذا تحقق ذلك، فلا مانع لديّ أبدًا في ترشيحه. [2]

(مهدي عاكف، مجلة آخر ساعة)

وعندما سأله الصحفي عن اتهامات لقيادات الإخوان بفتح قنوات اتصال مع أمريكا، نفى المرشد ذلك تمامًا، وقال:

منذ زمن وليس اليوم، أقول إن أمريكا هي العدو الأول للإسلام ومنطقة . هل تتذكر مشروع الشرق الأوسط الأمريكي؟ لم يهاجمه أحد كما هاجمته أنا. لقد زارني أحد الأمريكيين وعرض زيارة السفير الأمريكي في القاهرة لنا، فاشترطت أن يحضر هذه المقابلة وزير الخارجية المصري، وإذا أراد أي مسؤول من الحكومة الأمريكية الاتصال بي، فليكن عن طريق الخارجية المصرية. أنا لا أستقوي بأية قوة أجنبية على الشرعية.. أنا رجل وطني! [3]

(مهدي عاكف، مجلة آخر ساعة)

أثار الحوار استهجان الجميع بسبب تصريحات المرشد وتناقض موقف الإخوان الذين يدعون المعارضة، وفي الوقت ذاته يؤيدون مبارك ويتمنون الجلوس معه. بعد هذا الحديث بسبعة سنوات فقط، سيتأكد العالم كله كم كان فضيلته كاذبًا بشأن ما قال.

المادة ٧٦ من الدستور

بعد هجمات الحادي عشر من سبتمبر، بدأ نظام الرئيس يربط بين الاستبداد السياسي والإرهاب، ومن ثم وجد أن وأد الإرهاب لا يعتمد على الآلة العسكرية والأمنية فقط، إنما يلزمه إصلاحات سياسية وفكرية. فطالب بوش مبارك تحديدًا بالإصلاح السياسي في مصر، وقال نصًا: إن تغيرت مصر، تغير معها العالم العربي كله. فما كان من مبارك إلا أن تحايل على مطالب الرئيس الأمريكي بإجراء إصلاحات شكلية في النظام بتعديل المادة 76 من الدستور المصري، الخاصة باختيار رئيس الجمهورية، كوسيلة لامتصاص هذا الضغط المفروض عليه من الخارج.

وفي فبراير 2005، أعلن مبارك عن مبادرة لتعديل المادة 76 من الدستور، بحيث يكون انتخاب رئيس الجمهورية عن طريق الاقتراع السري العام المباشر من جميع أفراد الشعب الذين لهم حق الانتخاب، بدلًا من اختيار رئيس الجمهورية بطريق الاستفتاء وبعد ترشيح مجلس الشعب لشخص واحد للرئاسة.

اعتاد النظام في كل ما يفعل على المظهرية، لكنه في جوهره كان يعيد إنتاج القديم ويحافظ على الأوضاع التي تروق له. هكذا كان الحال عام 2005، وهو يعدل المادة 76 من دستور 1971، التي يسمح فيها ظاهريًا بإجراء انتخابات رئاسية تعددية بدلًا من الاستفتاءات المعمول بها في السابق طوال 24 عامًا من حكمه. لكن الشروط التي وضعها للترشح في الانتخابات الديكورية التي أجراها النظام ذلك العام أثبتت أنه لم يكن يومًا جادًا في إصلاح شيء من أمر هذا البلد. فالمادة 76 من الدستور المصري قبل التعديل هي مثلها بعد التعديل، فهي تشبه أن تكلف شخصًا أن يصنع المستحيل نفسه.

بعد قرار تعديل المادة 76، انتظرت قوى المعارضة رد فعل جماعة الإخوان المسلمين، باعتبارها أكبر قوى المعارضة تنظيمًا وقدرة على الحشد. لكن تأخر ظهور رد فعل الإخوان كثيرًا، وجاءت أول مظاهرة لهم يوم الأحد 27 مارس 2005 على استحياء وبشكل محدود جدًا، حتى لا تخسر مصداقيتها في الشارع كحركة تدعي المعارضة، وفي الوقت نفسه حتى لا تخسر صداقتها وتحالفها مع نظام مبارك. وتوقفت مظاهرات الإخوان بسرعة يوم 6 مايو 2005، يوم أن اعتقل . وفي الوقت نفسه، كان الدكتور سليم العوا، المحامي المنتمي للتيار الإسلامي، يكتب في مجلة “الدستورية” مقالًا مؤيدًا ومباركًا لقرار مبارك بتعديل المادة 76، بعنوان: تعديل المادة 76 والدستور: هل هو الحل؟

استخدام أسلوب المفاجأة لتحريك ركود الحياة السياسية ليس غريبًا على رئيس الجمهورية، الذي كانت مفاجأة الضربة الجوية للعدو ال تحت قيادته في حرب رمضان أحد العناصر الرئيسية في قلب الميزان العسكري للعمليات الحربية لتحرير الوطن. فإلقاء الحجر في اليم السياسي بحنكة وتريث هو إحدى خبرات هذا القائد، الذي كانت مهمته ذات يوم إلقاء حمولة الطائرات المقاتلة بدقة لتصيب الهدف. [4]

(محمد سليم العوا، مجلة الدستورية)

أبرز المشهد الجديد ذلك الاضطراب الكبير الذي وسم مواقف جماعة الإخوان كحركة معارضة من المظاهرات الشعبية، بحيث كان غاية في الالتباس والقلق، يتراوح ما بين الرفض والتحفظ تارة، والتأييد المستتر تارة أخرى، ثم مشاركة تتسع أو تضيق بحسب الظروف والسياقات المختلفة للجماعة، مما يفتح النقاش واسعًا حول طبيعة موقف الجماعة الحقيقي من الحركات الاحتجاجية ذات المطالب الاجتماعية. وكان اشتراكها المتواضع في الحركة الشعبية التي بدأت عام 2005 على مضض، وبدون دافع حقيقي، اللهم لحفظ ماء الوجه فقط، وبدون حشود حقيقية من أعضاء الجماعة، وبوجوه محددة أشهرها محمد البلتاجي وحمدي حسن، اللذان تقمّصا دور المصلحين الثائرين على النظام وعلى قيادات الجماعة، الأمر الذي أكد مبدأ “التقية” والازدواجية لدى الجماعة.

وجاء حوار المرشد السابق مهدي عاكف لجريدة الشرق الأوسط بتاريخ 12 مايو 2005 ليزيد الطين بلة. هذا الحديث الذي نفى فيه أن تكون جماعته تهدف إلى إحداث ثورة شعبية. وقال عاكف: إن الإخوان ليسوا أهل ثورة، ولا مصلحة لنا في سقوط النظام، والثورة ليست من مفرداتنا، وأستغرب كثيرًا للأحاديث التي تردد ذلك. واعترض عاكف على شعارات حركة كفاية ضد الرئيس مبارك وابنه؛ لأن: لسانها طويل في شعاراتها ضد مبارك وابنه، وأكد أنه: لا يجب أن نسب رمز الدولة مهما اختلفنا معه.

أما الثورة فلا يفكر فيها، ولا يعتمدون عليها، ولا يؤمنون بنفعها ونتائجها. وإن كانوا يصارحون كل حكومة في مصر بأن الحال إذا دامت على هذا المنوال، ولم يفكر أولو الأمر في إصلاح عاجل وسريع لحل هذه المشاكل، فسيؤدي ذلك حتمًا إلى ثورة ليست من عمل الإخوان المسلمين، ولا من دعوتهم، ولكن من ضغط الظروف ومقتضيات الأحوال، وإهمال مرافق الإصلاح. وليست هذه المشاكل التي تتعقد بمرور الزمن، ويستفحل أمرها بمضي الأيام إلا نذيرًا من هذه النذر، فليسرع المنقذون بالأعمال. [5]

(، رسالة المؤتمر الخامس)

لاحقًا، ووفقًا للمادة (189)، تقدم مبارك بطلب إلى مجلس الشعب بشأن التعديل المذكور. وبالطبع، أقر مجلس الشعب في 10 مايو 2005 تعديل المادة 76 من الدستور بعد موافقة 405 أعضاء على هذا التعديل. وطُرحت المادة بشكلها الجديد للاستفتاء الشعبي في 25 مايو 2005، وجاءت الموافقة على تعديل الدستور بنسبة تقريبية بلغت 83% من إجمالي نسبة المشاركين في الاستفتاء. وبعد فترة، وبعد تراجع الضغط، أعاد مبارك صياغة تلك المادة في 26 مارس 2007 حتى تقف تلك المادة حائلًا دون وصول أي مصري إلى سدة الحكم، ما عدا فردين فقط هما مبارك وابنه.

‎ ‎ هوامش ومصادر: ‎ ‎
  1. حسن علام، مجلة آخر ساعة، بتاريخ 20 يوليو 2005. [🡁]
  2. حسن علام، مجلة آخر ساعة، بتاريخ 20 يوليو 2005. [🡁]
  3. حسن علام، مجلة آخر ساعة، بتاريخ 20 يوليو 2005. [🡁]
  4. سليم العوا، مجلة الدستورية، مقال بعنوان: تعديل المادة 76 والدستور: هل هو الحل؟. بتاريخ 6 مايو 2005. [🡁]
  5. حسن البنا، رسالة المؤتمر الخامس. [🡁]

كيف تقيّم هذا المقال؟

← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←

بما أن المقال أعجبك..

ربما اﻷفضل مشاركته مع دوائرك كي يحظى بانتشار أوسع

من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا

دعنا نعمل على تحسين ذلك

أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟

‎ ‎ جزء من سلسلة: ‎ ‎ تاريخ الإخوان والسلطة[الجزء السابق] 🠼 إعادة توزيع المعارضة[الجزء التالي] 🠼 الانتخابات الرئاسية ٢٠٠٥
بيشوي القمص
[ + مقالات ]

صدر للكاتب:
كتاب: ﻻ أحد يتعلّم من التاريخ ٢٠١٧
كتاب: ﻻ أحد يتعلّم من التاريخ [قيصر جديد] ٢٠١٨
كتاب: ﻻ أحد يتعلّم من التاريخ [صراع العروش] ٢٠٢٢
كتاب: ﻻ أحد يتعلّم من التاريخ [العملية ظافر] ٢٠٢٤

‎ ‎ نحاول تخمين اهتمامك… ربما يهمك أن تقرأ أيضًا: ‎ ‎