المقال رقم 39 من 39 في سلسلة تاريخ الإخوان والسلطة

يبدو أن تكون “السيد نعم” هو الشرط الرئيس في مصر لتصبح رئيسًا للجمهورية.

في أحد الأيام، وبينما كان يتشاور مع قادة الجيش حول قراره بالاستغناء عن المستشارين السوفييت، اعترض أحد القادة. وكانت النتيجة أن أطاح به، وعين مبارك بدلًا منه لأنه مطيع. ثم عينه نائبًا لوزير الحربية، وقائدًا لأركان حرب القوات الجوية، واصطحبه معه في زيارة للاتحاد السوفيتي. وأثناء حرب أكتوبر، حاز مبارك على إعجاب السادات لإطاعته الأوامر، بعكس عدد من القادة الذين عرف عنهم معارضتهم للسادات، مثل الفريق رئيس الأركان.

وفي أبريل ١٩٧٥، وبدون أي مقدمات، فوجئ مبارك بالرئيس السادات يطلب لقائه في منزله بالقناطر دون أن يبلغه أنه قد اختاره نائبًا له، بعدما قرر السادات إقالة نائبه، وأخر من تبقى من رجال داخل نظامه، وقرر تعيين مبارك بدلًا منه.

أرسل الرئيس السادات مع الجمسي وطلب مني أن أكون عنده الساعة السادسة في القناطر يوم خميس. كنت معزومًا في الخارج، فأخبرت زوجتي أنه سيسألني عن القوات الجوية والأحوال، وقلت لها إنه سيستغرق ساعة أو اثنتين على الأكثر، وسأعود. ذهبت الساعة السادسة مساءً، وجلس في شرفة الدور العلوي يحكي عن تاريخه. الساعة ٨:٣٠ جاء العشاء، وكانت المقدمات حول الثورة وأيام عبد الناصر، وكيف كانت تسير الأمور وقصص طويلة. لم يكن هناك غيري. وبعد العشاء أخبرني وقال: ‘وبعدين من ساعتها يا ابني، أنا بأفكر اختار نائب لرئيس الجمهورية… كنت بأفكر في أحمد إسماعيل ولكنه كان مريضًا.' ورجعت أقول إن الجمسي ينفع وزير دفاع، و فهمي خبير صواريخ، وطلع لكل واحد صفة. وطوال هذه المدة لم يأت على بالي حتى قال: ‘فاضل أمامي أنت… فأنا اخترتك لمنصب نائب الرئيس.'

()

وصُدم مبارك، فلم يكن يتخيل أن يختاره الرئيس نائبًا له. ونقل د. في كتابه عرفت السادات أن: السادات استدعى مبارك وسأله: ‘عاوز تبقى إيه؟' فأجاب مبارك: ‘أبقى رئيس شركة مصر للطيران'. وهذا ما ذكره مبارك نفسه لعماد أديب في حديثه الطويل بمناسبة ترشيحه لفترة رئاسية سادسة، أنه كان يحلم بأن يكون سفيرًا في لندن “علشان بلد اكسلانسات، على حد تعبيره.

لم أتوقع أن يتم اختياري في منصب سياسيّ… لم يكن لي طموح سياسيّ… كنت أقول إن حياتي كلها حروبٌ، قلما أذهب إلى البيت، وأغلب حياتي قضيتها في الوحدات، وأقول بعد سنة ممكن أن أكونَ سفير في بلد مريح، وأعيش شوية قبل أن أصل إلى سنّ المعاش، وأقصى شيء أفكر فيه كان أن أستريح، فطوال الوقت مجهود ضخم وثكنات عسكرية ورمال، وأريد أن أجلس مع العائلة، ولكن بعد ذلك حدث ما حدث.

(محمد حسني مبارك)

كان السادات قد أخبرني قبل ذلك بأنه سيعين نائبًا مدنيًا لرئيس الجمهورية، مما جعلني أقبّل رأسه. ولكن عندما أخبرني بأنه عين حسني مبارك، قلت له: يا نهار أسود! وذكرته بنيته بتعيين نائب مدني، لكنه أثنى على مبارك، لأنه كان يريد شخصًا يستطيع التحكم فيه، ولم يكن يريد شخصية قوية تقرفه.

(محمود جامع، برنامج: خط أحمر، فضائية: دريم 2)

وتشير روايات كثيرة إلى أنه بعد تعيينه نائبًا لرئيس الجمهورية، كان حسني مبارك يجلس بهدوء وصمت بجانب السادات يستمع لما يقوله بعناية، ويبتسم بأدب للنكات التي يطلقها السادات حتى لو لم يفهم مغزاها. كان الرئيس السادات صاحب تاريخ، وله بعض القراءات السياسية والخبرات، كما كان مولعًا بالسخرية من السياسيين يين الذين يقولون كلامًا ضخمًا وألفاظًا وتعريفات سياسية مثل الإمبريالية والرجعية. ولم يكن مبارك على دراية بمثل هذه الكلمات، وربما لم يفكر في التعرف عليها.

كان مبارك نموذجيًا بالنسبة لرئيس مثل أنور السادات. عصبيًا، كثير الحركة، وقراراته مفاجئة. بالتالي، فقد كان حسني مريحًا للسادات، ولم يثبت أبدًا أنه عارضه، لدرجة أن ، وزير الخارجية الأمريكي، عندما رآه أول مرة بجانب السادات، لم يتصور أن هذا هو الرجل الثاني في مصر، بل اعتقد أنه مجرد مساعد درجة ثانية للسادات أو موظف كبير في الرئاسة.

بعد ست سنوات من ذلك التاريخ، وكما حدث مع السادات عند وفاة عبد الناصر فجأة، كان من الطبيعي أن يتولى مبارك، نائب الرئيس، منصب رئاسة الجمهورية. وخلف الأبواب الموصدة، تمت ترتيبات توليه الرئاسة، وكالعادة، تقرر إجراء استفتاء شعبي كانت نتيجته محسومة ومعروفة مسبقًا. وفي يوم ١٤ أكتوبر ١٩٨١، وقف مبارك أمام مجلس الشعب ليقسم رئيسًا للجمهورية.

لم يكن الضابط مبارك يتخيل أن تنتهي حياته العسكرية إلى هذا المسار، لكنها ضربات القدر التي جعلت السادات يعينه نائبًا له، ثم يلقى السادات مصرعه، ويجري استفتاء معروفة نتيجته مسبقًا، فيصبح مبارك رئيسًا للجمهورية. كانت كلمات مبارك للشعب مطمئنة، فهو من قال:

لن أرحم أحدًا يمد يده إلى المال العام حتى لو كان أقرب الأقرباء. إنني لا أحب المناصب ولا أقبل الشللية، وأكره الظلم ولا أقبل أن يظلم أحد، وأكره استغلال علاقات النسب، والكل سواء عندي أمام القانون، ونحن لا نريد قانون الطوارئ، ولن أقبل الوساطة، وسأعاقب لصوص المال العام، ومصر ليست عزبة لحاكمها.

(محمد حسني مبارك)

هذا بالإضافة إلى جملته الأشهر على الإطلاق: الكفن ما له جيوب… سنعلي من شأن الأيادي الطاهرة.

العقد الأول لمبارك (١٩٨١-١٩٩٠)

في بداية حكمه، حاول مبارك أن يقدم نفسه للمجتمع المصري بشكل جديد، ويتصالح مع الجميع، على عكس السادات الذي اختصم الجميع بلا استثناء. فقام مبارك بفتح صفحة جديدة مع كل القوى السياسية، وأفرج عن كل المعتقلين السياسيين الذين اعتقلهم السادات في أواخر أيامه، بمن فيهم وفي مقدمتهم عمر المرشد الثالث للجماعة، واستقبلهم في قصر الرئاسة. إلا أنه استثنى الإخوان من هذا اللقاء الذي جمعه مع السياسيين المفرج عنهم، مما أعطى رسالة واضحة للجماعة وللجميع أن مبارك سيسمح للجماعة بممارسة السياسة، ولذلك فقد أفرج عنهم، إلا أنه لن يسمح للجماعة بتقنين وضعها أبدًا، وعلى الجماعة أن تقبل بذلك الوضع.

وقبلت الجماعة الوضع بالفعل، وتعاملت معه، كما سمح مبارك بعودة كافة التيارات للعمل العام. لذا، فقد تمتعت جماعة الإخوان بحرية نسبية في العقد الأول لحكم مبارك، تلك الفترة كانت تُعدّ الفترة الذهبية بالنسبة للإخوان المسلمين. فقد استفاد الإخوان كثيرًا من حالة الهدوء التي حاول مبارك أن يختلقها لتثبيت أواصر حكمه. والحقيقة أن تنظيم الإخوان، منذ أن بدأ، كان يستمد شرعيته من وجوده في جميع طبقات المجتمع المصري، وبات من الصعب استئصاله أو تجنيبه، أو تخيّل أنه غير موجود في الحياة السياسية المصرية.

أراد حسني مبارك أن يمسك بخيوط اللعبة كلها. كان الرجل، في عهده الأول، يسمع كلام المستشارين الحاذقين، فمدّ يده للإخوان ليكونوا معه كما فعل سلفه، يساعدوه ويشدّوا من أزره. كان يرغب في اكتساب شعبية كبيرة بعد أن ظهر للناس، في أثناء فترة وجوده نائبًا للسادات، أنه محدود القدرات وضعيف التأثير. فظن الإخوان أنه غنيمة، فوقفوا معه وساعدوه في مواجهة تنظيمات الجهاد و. وما كان مبارك ليستطيع مواجهة هؤلاء إلا بهم، فلا يفل الحديد إلا الحديد. وظلت العلاقة بينهما في السنوات الأولى على أفضل ما يرام، فكانت الفرصة الذهبية لهم لإعادة بناء الكيان شبه المنهدم حتى أواخر الثمانينيات.

وهكذا كرر مبارك أخطاء من سبقه. فالسادات، عندما تسلم السلطة في أوائل السبعينيات، لم يجد أمامه إلا الإخوان المسلمين ليتحالف معهم، ويعطيهم قبلة الحياة الثانية في تاريخهم بعد قرارات عبد الناصر. ثم جاء مبارك ليقتسم السلطة أيضًا مع الإخوان المسلمين، وليطلق لهم حرية العمل في النقابات المهنية، ويقتسم معهم كراسي البرلمان، ثم يدعي في النهاية أنه يقف في وجههم. فلا أحد يتعلم من التاريخ.

كيف تقيّم هذا المقال؟

← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←

المتوسط الحالي حسب تقييمات من القراء

كن أوّل من يقيّم هذا المقال

بما أن المقال أعجبك..

ربما اﻷفضل مشاركته مع دوائرك كي يحظى بانتشار أوسع

من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا

دعنا نعمل على تحسين ذلك

أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟

‎ ‎ جزء من سلسلة: ‎ ‎ تاريخ الإخوان والسلطة[الجزء السابق] 🠼 الانقلاب على السادات
بيشوي القمص

صدر للكاتب:
كتاب: ﻻ أحد يتعلّم من التاريخ ٢٠١٧
كتاب: ﻻ أحد يتعلّم من التاريخ [قيصر جديد] ٢٠١٨
كتاب: ﻻ أحد يتعلّم من التاريخ [صراع العروش] ٢٠٢٢
كتاب: ﻻ أحد يتعلّم من التاريخ [العملية ظافر] ٢٠٢٤

‎ ‎ نحاول تخمين اهتمامك… ربما يهمك أن تقرأ أيضًا: ‎ ‎