المقال رقم 35 من 35 في سلسلة تاريخ الإخوان والسلطة

في بداية السبعينيات، كانت الجامعات المصرية تخلو من أي نشاط إسلامي. كانت التيارات القومية والناصرية وية هي التي تسيطر على الجامعة واتحادات الطلاب فيها. وبدأ النشاط الإسلامي في الجامعات على أيدي البسطاء والمتدينين والمغتربين، الذين اتخذوا من الشيخ محمد أبًا روحيًا لهم. فكان يوجه هؤلاء الشباب إلى كتب إسلامية معينة، يرى أنها تساعدهم على الوقوف والحوار والجدل مع اليساريين، والرد على الشبهات التي يرون أنها تنال من الإسلام.

ثم تطور الأمر إلى تنظيم حلقات قراءة القرآن الكريم وحفظه في مسجد الكلية، وكتابة بعض التوجيهات الدينية ونشرها في مجلات الحائط. ثم تطور الأمر إلى طباعة بعض الأحاديث النبوية وتوجيهات ونصائح تُوزّع على الطلاب. ثم تطور الأمر أكثر فأكثر إلى كتابة الأحاديث النبوية على سبورات المدرجات، ثم بعض الحكم السياسية التي كانت تشير إلى ظلم الحاكم ومسؤوليته بين يدي الله. واقتصر الأمر على ذلك، فلم يكن هناك تصور معين أو رؤية دينية محددة لدى الناشئة.

وفي تلك الظروف، بدأت الجماعة الإسلامية الوليدة تخطو خطواتها الأولى على استحياء داخل الجامعات المصرية، وخصوصًا في كلية طب قصر العيني، على أيدي شباب صاروا فيما بعد قيادات في تلك الجماعة، أمثال ، محمد يوسف، حسن عبد الفتاح، سناء أبو زيد، وعبد الرحمن حسن.

بعد تولي ال السلطة، وإعطائه الضوء الأخضر للإخوان بالعودة مرة أخرى إلى الساحة، سمح للمرضى من معتقلي الإخوان بالانتقال للعلاج خارج السجن. فجيء بهم للعلاج في المعتقل السياسي في كلية طب قصر العيني، فالتقى هؤلاء الشباب بشيوخ الإخوان مثل فتحي رفاعي وعمر ، وبدأ تواصل القيادات بالجيل الجديد، وبدأ العمل الفعلي داخل الجامعة تحت اسم لجنة التوعية الدينية التي أسسها د. عبد المنعم أبو الفضل. ومن ثم بدأ الانتشار أكثر فأكثر للوصول بدعوتهم إلى الطلاب، حتى أتى عام 1973، وقرر هؤلاء الشباب دخول انتخابات اتحاد الطلاب كنوع من إثبات الذات واختبار الثقل داخل الكلية. وترشحوا على لجان اتحاد الطلبة الست، حتى اللجنة الفنية، بالرغم من أنه ليس لهم أي علاقة بالفن إلا علاقة الرفض باعتباره رجسًا من عمل ! واستطاعوا الفوز بأربع لجان من أصل ستة، من بينها اللجنة الفنية التي لم يكن لديهم أي تصور عن إدارة هذه اللجنة سوى إيقاف عملها تقربًا إلى الله، كما يقول د. عبد المنعم أبو الفتوح في مذكراته. ولسنوات ظلت اللجنة الفنية تتبنى مفهوم الفن الهادف والفن الإسلامي الذي يتلخص في الأناشيد الثورية والجهادية.

وهكذا أصبح رئيس اتحاد طلاب كلية طب القصر العيني من الجماعة الإسلامية، ومنها بدأ الانطلاق للعمل داخل جامعة القاهرة، ومنها إلى الجامعات الأخرى. ثم جاءت الدفعات التالية في طب القصر العيني أكثر نشاطًا وتحمسًا للعمل، ومن أبرز رموزها عصام العريان، ، وحلمي الجزار وغيرهم. وازداد النشاط في الجامعة، فازداد عدد الندوات حتى وصل إلى ندوة أسبوعيًا. واستُغلت ميزانية الاتحاد لنشر زيّ الحجاب بين الطالبات وبيعه لهن. وصدرتْ وطُبعتْ سلسلة كتيبات صوت الحق التي كانت منبرًا لنشر الثقافة الوهابية، مثل رسالة المؤتمر الخامس ل، وكتابات و وابن القيم والشيخ الألباني، بإرشاد محمود غزلان الأستاذ بكلية الزراعة جامعة الزقازيق وعضو مكتب الإرشاد. ثم بدأت فكرة المخيمات الطلابية التي كان يحاضر فيها والشيخ الغزالي تحت سمع وبصر النظام ورضاه، بل إن الدكتور أحمد كمال أبو المجد وزير الشباب والإعلام وقتها حضر أول مخيم جامعي يُقام على مستوى جامعة القاهرة كلها.

في هذه الفترة، بدأ الحديث داخل أوساط الجماعة الوليدة في مسألة السمع والطاعة لأمير الجماعة الإسلامية، وهو المسؤول الأعلى فيها. إذ لم يكن يُسمى مسؤول الجماعة الإسلامية رئيسًا بل أميرًا، وبرز مصطلح الجماعة الإسلامية أول مرة عام 1973. فعندما كان يُكتب على السبورة آية أو حديثًا، كانت تُوقع باسم الجمعية الدينية، ثم غُيّر الاسم لاحقًا إلى الجماعة الإسلامية تأثرًا بأبي الأعلى المودودي الذي كان يُعرف بأمير الجماعة الإسلامية في باكستان. واُختير سناء أبو زيد أميرًا للجماعة الإسلامية في كلية الطب، وصار عصام العريان أميرًا للجماعة الإسلامية في جامعة القاهرة، ثم جاء بعده حلمي الجزار.

وكانت طاعة الأمير شبه عمياء تسيطر على الجميع. وبين عامي 1974 و1975، قرر شباب الجماعة الإسلامية تكوين مجلس واحد لأمراء الجماعة الإسلامية في كليات جامعة القاهرة، وتنصيب أمير له. وجرت انتخابات بين أمراء الجماعة في جامعة القاهرة، أسفرت عن اختيار عصام العريان، من كلية طب قصر العيني، أول أمير لمجلس أمراء الجامعة. وقد اتبع ذلك في الجامعات الأخرى. ثم في عام 1977، تجمّع أمراء الجماعة الإسلامية في جامعات مصر كلها تحت اسم الجماعة الإسلامية في مصر، وانتُخب حلمي الجزار، من كلية طب قصر العيني أيضًا، أول أمير لها. فقد كانت الكلية معقلًا للحركة الإسلامية الجديدة.

ودخل هذا الكيان الجديد في مواجهات مع الين في الجامعة، بعضها تطور إلى استخدام العنف البدني. وعلى سبيل المثال، في عام 1973، أقام اتحاد طلاب كلية الطب حفلًا راقصًا، فقام شباب الجماعة الإسلامية باحتلال المدرج قبل بَدْء الحفلة بنصف ساعة، ثم جلسوا لقراءة القرآن، ولم تستطع الفرقة الغنائية الدخول فانتهى بذلك الحفل. وفي مرة تالية، عندما أراد الاتحاد إقامة حفلة مماثلة، أغلقوا الأبواب ولم يسمحوا بالدخول إلا لمن يحمل تذكرة، فأشعلت قيادات الجماعة مسيرة ضخمة اقتحمت الأبواب بالقوة ودخلت المدرج، وتعالت التكبيرات وانتهت الحفلة بالفشل.

وبالرغم مما حدث من محاولة الاستيلاء على الحكم بالقوة من تنظيم الفنية العسكرية، إلا أن السادات راهن على بعد نظره، وظل يحمل الكثير من الآمال على الجماعة الإسلامية الوليدة، التي ستقف حائلًا ضد تيارات التي تتخذ من العنف منهجًا لها كما كان يتصور واهمًا، بالرغم من أن الجماعة الإسلامية نفسها كانت حركة اعتراض ورفض ضد الحكومات “المنحرفة عن الدين” التي “لا تطبق شرع الله”، ومشروعهم أساسه وجوب إزالة هذه الحكومات وإقامة أخرى تقيم شرع الله. واستمر السادات في دعمه للجماعة الإسلامية بشكل غير مسبوق، فلم يحدث أبدًا في عهد السادات في فترة السبعينيات أن اعتقل أحد منهم أو من الإخوان أو حتى تم استدعاؤه أمنيًا، ولم يمنع أحد منهم من توزيع كتاب أو مطبوعات من أي نوع، ولم يحدث أن دخل ضابط أمن دولة الجامعة وأعترض على أي عمل من أعمالهم، باستثناء ما حدث مع تنظيم الفنية العسكرية.

أذكر أنني كنتُ، وقت رئاستي لاتحاد طلاب الجامعة، أطبع منشورًا فيه هجوم شديد على النظام في إحدى المطابع بمنطقة السيدة زينب. وتصادف أن الشيوعيين كانوا يطبعون منشورًا آخر في نفس المطبعة، وجاء إليّ صاحب المطبعة ليخبرني أن الشيوعيين يطبعون منشورًا ضد الجماعة الإسلامية. ولا أدري من الذي أبلغ بوليس النجدة بأنه ستقع مشاجرة بين مجموعة من الطلاب الشيوعيين وجماعات في السيدة زينب، فحضرت الشرطة في نفس الوقت الذي كنا قد نقلنا فيه المنشور إلى السيارة التي ستنقله. أراد الضابط أن يوقفنا، فرفضنا أن نطيع أوامره، فأطلق رصاصة على إحدى إطارات السيارة حتى لا نستطيع التحرك بها، فقامت بيننا وبينه مشاجرة كبيرة، وقمنا بتوجيه السباب والشتائم له. وذهبنا إلى قسم شرطة السيدة زينب، حيث تم الاستيلاء على المنشور من السيارة. وبعد قليل، وجدتُ المأمور يقول: “تفضل إلى حيث تريد!” وكأن شيئًا لم يكن. لم يعجبني هذا، ولم أعتبره مكرمة، فطلبتُ منه المنشور الذي صادرته الشرطة، فرفض إعطاءه لي. فقلتُ له إنني لن أتحرك من قسم الشرطة إلا بعد أن آخذ المنشور معي، فأصرّ على الرفض، واتصل بضابط من جهاز مباحث أمن الدولة. فأخذ الضابط يرجوني أن أذهب من دون المنشور، ولما رفضت الخروج من قسم الشرطة، اتصلوا بنائب رئيس الجامعة الدكتور ، فأتى إلى قسم الشرطة ليقنعني بأن أنصرف من دون المنشور. كل ذلك وأنا مصمم على رأيي، ولم أتنازل حتى أخذتُ معي المنشور أخيرًا، وذهبتُ مع الدكتور محمود درويش في سيارته إلى الجامعة ومعي المنشور لتهدئة زملائي في اتحاد الطلاب والجماعة الإسلامية الذين كانوا قد انطلقوا في مظاهرات عارمة داخل الجامعة احتجاجًا على القبض عليّ.

(عبد المنعم أبو الفتوح، شاهد على تاريخ الحركة الإسلامية في مصر)

كيف تقيّم هذا المقال؟

← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←

المتوسط الحالي حسب تقييمات من القراء

كن أوّل من يقيّم هذا المقال

بما أن المقال أعجبك..

ربما اﻷفضل مشاركته مع دوائرك كي يحظى بانتشار أوسع

من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا

دعنا نعمل على تحسين ذلك

أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟

‎ ‎ جزء من سلسلة: ‎ ‎ تاريخ الإخوان والسلطة[الجزء السابق] 🠼 دولة العلم والإيمان
بيشوي القمص

صدر للكاتب:
كتاب: ﻻ أحد يتعلّم من التاريخ ٢٠١٧
كتاب: ﻻ أحد يتعلّم من التاريخ [قيصر جديد] ٢٠١٨
كتاب: ﻻ أحد يتعلّم من التاريخ [صراع العروش] ٢٠٢٢
كتاب: ﻻ أحد يتعلّم من التاريخ [العملية ظافر] ٢٠٢٤

‎ ‎ نحاول تخمين اهتمامك… ربما يهمك أن تقرأ أيضًا: ‎ ‎