المقال رقم 9 من 14 في سلسلة الخطية الأصلية في فكر الآباء

نكمل الحديث عن مفهوم الخطية الجدية عند ق. باسيليوس الكبير رئيس أساقفة قيصرية الكبادوك بآسيا الصغرى، وواضع ال المسمَّى باسمه، التي نصلي بها في كنيستنا إلى اليوم. لنرى هل يتفق تعليم ق. باسيليوس الكبير مع تعليم أوغسطينوس في الغرب اللاتينيّ عن الخطية الأصلية الموروثة من إلى نسله من بعده.

الخطية فعل إرادي

يشرح ق. باسيليوس حالة الإنسان قبل وبعد السقوط، حيث كان الإنسان حسنًا وصالحًا بالطبيعة، ولكنه ضعيف؛ لأنه سقط في الموت بالخطية بخداع الحية رأس الخطية ورئيس الخطية كالتالي: [1]

لقد كُنتُ حسنًا بالطبيعة وصالحًا، ولكنني ضعيف، لأني سقطت في الموت بالخطية عن طريق خداع الحية.

(باسيليوس الكبير، تفسير سفر المزامير ج1)

يُؤكِّد ق. باسيليوس على أنَّ الاضطراب النفسيّ هو تشوُّه وضعف نفسيّ ناتج عن الابتعاد عن الله كالتالي: [2]

وعندئذٍ يمكنها أن تتجاوز الاضطراب، والتخبط، والارتباك، تلك الأمور التي تُسبِّبها الشهوات. ولأن تحوُّل الله بوجهه عن النفس هو عكس إرادته، والاضطراب هو عكس الجمال والقوة، لذلك يكون الاضطراب هو تشويه وضعف للنفس ناتج عن الابتعاد عن الله.

(باسيليوس الكبير، تفسير سفر المزامير ج1)

يُشِير ق. باسيليوس إلى أنَّ الشر والخطية إراديين، حيث خلق الله قلوب البشر بسيطةً لحفظ صورتها الخاصة، ولكننا ربطناها بالشهوات الجسدية بعد ذلك، وجعلنا القلب مكانًا للشك، وحطَّمنا الصورة الإلهية والبساطة والوضوح والنية الخالصة. وهكذا يشير ق. باسيليوس إلى لزوم النعمة والأعمال للخلاص كالتالي: [3]

ومن المؤكَّد أنه ينظر لكل أحد عن قرب شديد، حتى أنه يرى أعماق القلوب التي خلقها دون أن تكون مُختلطةً بالشر. الله الخالق، خلق قلوب البشر بسيطةً لكي يحفظ صورتها الخاصة. ولكن نظرًا لأننا ربطناها بالشهوات الجسدية فيما بعد، لذلك قد جعلنا القلب موضع شك وارتياب، وكثير التشتُّت في أمورٍ متنوعةٍ وكثيرةٍ، بعدما حطَّمنا هذه الصورة الإلهية، والبساطة، والوضوح، والنية الخالصة.

(باسيليوس الكبير، تفسير سفر المزامير ج1)

ويؤكد ق. باسيليوس في نفس السياق على أن الفضية والشرّ هما فعلان إراديان، ولا يُدفَع الإنسان إليهما بالضرورة، داحضًا بذلك التعليم الأوغسطينيّ عن سبق التعيين المزدوج، والقدرية والجبرية الإلهية التي تدفع الإنسان إلى فعل سواء الفضيلة أو الشرّ كالتالي: [4]

لا يُتوَّج المائت ولا يتبرَّر إنسان لعجزه عن عمل الشرّ. على قدر استطاعتك تغلَّب على الخطيئة بالعقل. إن الفضيلة ترتكز على هذا: اجتنب الشر واعمل الخير [5]. عدم الشرّ، بحد ذاته، لا يستحق المكافأة ولا العقاب. إذَا امتنعت عن الخطيئة بسبب سنَّك، فهذه ثمرة ضعفك. إننا نُثنِي على أهل الفضيلة لاختيارهم الحر، ولا نُثنِي على مَن دُفِعوا إليها بحكم الضرورة.

(، القديس باسيليوس الكبير)

الخطية الجدية هي تشوه صورة الله في الإنسان

يُؤكِّد ق. باسيليوس على ثبات الملائكة في الله بدون تغيير، ولكن الإنسان يتغيَّر بسبب تغيير جسديّ أو نفسيّ نظرًا لفساد طبيعة الإنسان الذي يُشبِه ذبول الزهور. وهذا هو تعريف الفساد الموجود في طبيعة الإنسان هو حالة التغيُّر والتبدُّل من حالة لأخرى، وهذا النوع من الفساد يختلف عن الفساد الأخلاقيّ أو الأدبيّ قائلًا: [6]

إذًا، فنحن الذين نتغيّر، وحقًا إننا المقصودون بكلمة التغيير الواردة في هذا المزمور. فالملائكة لا يخضعون للتغيير، ولا يوجد بينهم صبي، ولا شاب، ولا شيخ، بل يبقون في الحالة التي خُلِقوا بها منذ البداية، ووجودهم وكيانهم يظلّ صحيحًا وتامًا، وبلا تغيير. فنحن الذين يطرأ علينا تغيير جسديّ ونفسيّ، وبالنسبة للإنسان الداخليّ أيضًا، بأن نغيِّر الفكر مرارًا وتكرارًا وفقًا للظروف. […] أعتقد أن فساد طبيعة الإنسان يُوازي الذبول السريع للزهور.

(باسيليوس الكبير، تفسير سفر المزامير ج2)

يُوضِّح ق. باسيليوس نتائج السقوط كتشوُّه صورة الله في الإنسان، وسيادة الموت على آدم حتى بالناموس الموسويّ، وسُكنى الخطية في الإنسان التي تفقده ذاته، وتجعله يُشبِه الحيوانات قائلًا: [7]

إنه حقيقًة جنون بالغ، وخبث حيوانيّ. ألا يشعر الإنسان صورة خلقته الأولى، أي أنه خُلِقَ على صورة خالقه، ولا يريد أن يفهم الخطط التدبيرية العظمى للغاية التي وُضِعَت لأجله، ومن خلالها يعرف قيمة ذاته. ولكنه ينسى أنه لبس صورة الترابيّ، بعدما فقد صورة السماويّ [8]. […] والموت قد ملك من آدم حتى الناموس الموسويّ [9]. […] فذاك قد نال الكرامة بدايةً من خلقته، ولكنه بسبب الخطية التي سكنت فيه، لم يشعر بذاته، هذا قد شُبِهَ بالحيوانات. وبعد ذلك، ولأنه أبعد نفسه عن كلمة الله، صار كمَّن لا عقل له، أي يُشبِه الحيوان، وبعدما اختطفه العدو كخروف لا راعي له، ووضعه في الجحيم، وسلَّمه إلى الموت لكي يرعاه.

(باسيليوس الكبير، تفسير سفر المزامير ج2)

يشير ق. باسيليوس إلى أنَّ طبيعة الإنسان طبيعة مُركَّبة تميل وتنحني بالخطية، بالتالي، كان السقوط حتميّ بسبب الخطية كالتالي: [10]

إذًا، يبرهن هذا الكلام على أن طبيعة الإنسان التي هي طبيعة مُركَّبة، تميل وتنحني بالخطية، وعندئذٍ فإنها حتمًا ستنهار. ولكنها بعد أن يتمّ إصلاحها مرةً أخرى من قِبل الخالق، الذي خلقها منذ البَدْء، فإنها سوف تكتسب الطمأنية والحياة، والثبات، ولن تُعانِ من المكائد والمؤمرات التي تهدف إلى إسقاطها مرة أخرى. […] وهكذا كان السقوط بسبب الخطية حتميًا، ولكن عظيمةٌ هي القيامة بسبب ما حقَّقته من خلود.

(باسيليوس الكبير، تفسير سفر المزامير ج2)

استيطان مرض الخطية في النفوس الشريرة

يُشدِّد ق. باسيليوس أنَّ مرض الخطية مُستوطِن في نفوس الفجار والفسقة بسبب حياتهم الشريرة، كما خلق الله في داخل الإنسان ميزانه الخاص (ميزان تمييز الخير والشر) لمعرفة طبيعة الأمور كافة، هناك طبيعتان مُتضادتان فيما بينهما هما: الخير والشر، الحياة والموت، الفضيلة والرذيلة، وعلى الإنسان التمييز بينهما حسب ميزانه المخلوق داخله كالتالي: [11]

إذًا، ما هذا الذي يقوله؟ إنَّ كل واحد منَّا، لديه في الخفاء ميزانًا ما، الذي صنعه الخالق في داخلنا، الذي فوقه من الممكن أن نعرف جيدًا طبيعة الأمور كافةً: قد جعلت قدامك الحياة والموت، الخير والشر [12]، طبيعتان متضادتان فيما بينهما، فلتزن هذه الأمور، فوق ميزان نفسك، لتزن بدقةٍ، أيهما أكثر فائدةً بالنسبة لك، أن تُفضِّل اللذة الوقتية، ومن خلالها تذهب إلى الموت الأبديّ، أم بعدما تكون قد فضَّلت الجهاد في ممارسة الفضيلة، تستخدم هذه الفضيلة كنبع أو مصدر للتمتُّع الأبديّ.

(باسيليوس الكبير، تفسير سفر المزامير ج2)

براءة الأطفال من أي شر

يشير ق. باسيليوس إلى براءة الأطفال واتضاعهم، بحيث ينبغي على المرء أن يتغيّر ويتحوّل ويصير مثل الطفل في براءته واتضاعه لكي يدخل الملكوت كالتالي: [13]

هكذا تستطيع أن تفهم هذه الكلمات. أي أنه تحوَّل، وصار طفلاً، وقَبِلَ ملكوت السموات مثل طفل [14] بنقاوة القلب. هكذا يقول: نزلت بنفسي إلى اتضاع الأطفال وبراءتهم، لأن الرب يحفظ الأطفال، لقد اتضعت فخلَّصني.

(باسيليوس الكبير، تفسير سفر المزامير ج2)

تصحيح مفهوم خاطئ عن الخطية الجدية

يشير ق. باسيليوس إلى أن آدم نقل الخطية إلى الجنس البشريّ بمخالفته الوصية، وهكذا نزيل نحن الخطية بواسطة إعطاء أخانا ما يحتاجه من طعام، يبدو من النص لأول وهلة أنه يشير إلى وراثة خطية آدم لنسله، ولكن عند استكمال النص، نجد أن ق. باسيليوس يعقد مقارنة بين الإنسان الأول الذي عرَّف البشر كيف يخطئون بتعديه الوصية بالأكل، وهكذا هم أيضًا بإرادتهم يخطئون كل واحد على حدة، وهكذا يمكن للإنسان أن يمحو هذه الخطية بإطعام أخيه الجائع، المعروف أن الخطية الأصلية الموروثة من آدم تُمحَى بالمعمودية حسب المعتقد الأوغسطينيّ، وليس بإطعام الجائع. ولو سلَّمنا بذلك فالخطية الأصلية الموروثة من آدم يمكننا أن نمحوها بإطعام الجائع، وليس بالمعمودية حسب المعتقد الأوغسطينيّ. فيبدو واضحًا أن النص لا علاقة له ب الأصلية من آدم كما يتوهم البعض. ثم أن وجه المقارنة بين آدم والإنسان الذي يُطعِم الجائع هو الأكل، فأحدهما بالأكل نقل الخطية، والثاني بالأكل، أي إطعام الجائع، يمحو الخطية. حيث يقول ق. باسيليوس التالي: [15]

لأنه هكذا كما أن آدم عندما أكل مخالفًا الوصية، نقل الخطية للجنس البشريّ، هكذا نحن نفعل العكس، نُزيل الخطية بواسطة إعطاء أخانا ما يحتاجه من طعام.

(باسيليوس الكبير، لماذا القحط والجفاف)

النفس مخلوقة وليست مولودة

يُفرِّق ق. باسيليوس الكبير بين الجسد المجبول والنفس المخلوقة، مُفرقًا بين فعلي 'جبل‘ و 'خلق‘ في نص سفر التكوين، في سياق شرحه لخلق الإنسان، مُؤكِّدًا على أن النفس مخلوقة وليست مولودة، وبالتالي، ليست حاملة لخطية آدم الأصلية الموروثة بسبب ولادتها من أبويها كالتالي: [16]

قال البعض إن الفعل 'جبل‘ قيل عن الجسم والفعل 'خلق‘ عن النفس. ربما لا تكون هذه الفكرة بعيدة عن الحقيقة. لأنه عندما قال الكتاب: فخلق الله الإنسان على صورته. على صورة الله خلقه، استخدم الفعل 'خلق‘، وعندما تحدَّث الكتاب عن وجود الجسم استعمل الفعل 'جبل‘. فيُعلِّمنا داود المرتِّل الفرق بين خلق وجبل، عندما يقول: يداك خلقتاني وجبلتاني [17]. لقد خلق الإنسان الداخلي [أي النفس] وشكَّل أو جبل الخارجي [أي الجسد]. فالتشكيل يتناسب مع التراب، والخلق يتناسب مع ما هو على حسب صورة الله، ومثلما شكَّل الجسد، خلق النفس.

(باسيليوس الكبير، خلقة الإنسان)

 

‎ ‎ هوامش ومصادر: ‎ ‎
  1. باسيليوس الكبير، تفسير سفر المزامير ج1، ترجمة: د. ، ، 2020، ص 171. [🡁]
  2. باسيليوس الكبير، تفسير سفر المزامير ج1، ترجمة: د. سعيد حكيم، المركز الأرثوذكسي للدراسات الآبائية، 2020، ص 173. [🡁]
  3. باسيليوس الكبير، تفسير سفر المزامير ج1، ترجمة: د. سعيد حكيم، المركز الأرثوذكسي للدراسات الآبائية، 2020، ص 205. [🡁]
  4. إلياس كويتر المخلصي، القديس باسيليوس الكبير (حياته- أبحاث عنه- مواعظه)، منشورات ، 1989، عظة 6 بعنوان ”تحريض على العماد المقدس“، ص 275. [🡁]
  5. رسالة ى 3: 1 [🡁]
  6. باسيليوس الكبير، تفسير سفر المزامير ج2، ترجمة: د. سعيد حكيم، المركز الأرثوذكسي للدراسات الآبائية، 2021، ص 22، 23. [🡁]
  7. باسيليوس الكبير، تفسير سفر المزامير ج2، ترجمة: د. سعيد حكيم، المركز الأرثوذكسي للدراسات الآبائية، 2021، ص 110-112. [🡁]
  8. رسالة بولس الأولى إلى كورنثوس 15: 49 [🡁]
  9. رسالة بولس إلى رومية 5: 14 [🡁]
  10. باسيليوس الكبير، تفسير سفر المزامير ج2، ترجمة: د. سعيد حكيم، المركز الأرثوذكسي للدراسات الآبائية، 2021، ص 144، 145. [🡁]
  11. باسيليوس الكبير، تفسير سفر المزامير ج2، ترجمة: د. سعيد حكيم، المركز الأرثوذكسي للدراسات الآبائية، 2021، ص 150، 151. [🡁]
  12. سفر التثنية 30: 15 سبعينية [🡁]
  13. باسيليوس الكبير، تفسير سفر المزامير ج2، ترجمة: د. سعيد حكيم، المركز الأرثوذكسي للدراسات الآبائية، 2021، ص 168. [🡁]
  14. إنجيل متى 18: 3 [🡁]
  15. باسيليوس الكبير، لماذا القحط والجفاف، ترجمة: د. إبراهيم، القاهرة، 2013، ص 46. [🡁]
  16. باسيليوس الكبير، خلقة الإنسان، ترجمة: القس ، الأرثوذكسي، ٢٠١٤، عظة ٢: ٣، ص ٣٤، ٣٥. [🡁]
  17. مزمور ١١٨: ٧٣؛ سفر أيوب ١٠: ٨ [🡁]

كيف تقيّم هذا المقال؟

← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←

المتوسط الحالي حسب تقييمات من القراء

كن أوّل من يقيّم هذا المقال

بما أن المقال أعجبك..

ربما اﻷفضل مشاركته مع دوائرك كي يحظى بانتشار أوسع

من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا

دعنا نعمل على تحسين ذلك

أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟

‎ ‎ جزء من سلسلة: ‎ ‎ الخطية الأصلية في فكر الآباء[الجزء السابق] 🠼 الخطية الجدية عند باسيليوس الكبير [٣][الجزء التالي] 🠼 الخطية الجدية عند كيرلس السكندري [١]
أنطون جرجس
بكالوريوس اللاهوت اﻷرثوذكسي في    [ + مقالات ]

صدر للكاتب:
ترجمة كتاب: "الثالوث"، للقديس أوغسطينوس أسقف هيبو [٢٠٢١]
كتاب: عظات القديس على سفر الجامعة [٢٠٢٢]
ترجمة كتاب: "ضد "، للقديس غريغوريوس النيسي [٢٠٢٣]
كتاب: الطبيعة والنعمة بين الشرق والغرب [٢٠٢٣]
كتاب: مونارخية الآب في تعليم آباء الكنيسة [٢٠٢٤]

‎ ‎ نحاول تخمين اهتمامك… ربما يهمك أن تقرأ أيضًا: ‎ ‎