المقال رقم 22 من 23 في سلسلة تاريخ الإخوان والسلطة

بدأ يدبّ الخلاف بين العسكر والإخوان عندما طالبت الجماعة بنصيبها من الكعكة، فقد كانت الجماعة ترى أنّ قيادات الجيش لا تستطيع حكم البلاد، وعليها مغادرة الحكم وتركه للإخوان. ثمّ أنّ الجماعة خافت من عبد الناصر بعد محاولاته لدمجها في هيئة التّحرير، فطلب الهضيبي من عبد الناصر أن يستشيره في الأمور السّياسيّة ولا يصدر عبد الناصر قرارًا إلاّ بعد موافقة الهضيبي عليه.

هذا الطلب تحديدًا أزعج عبد الناصر كثيرًا ورفضه بالطبع، واعتبر أن هذا الأمر سيمثل وصاية على الثورة. فعرض عبد الناصر على الإخوان في سبتمبر 1952 دخول الوزارة، واقترح اسم الباقوري. لكن مكتب الإرشاد رفض، فأصر الباقوري، فوافق المرشد على دخوله الوزارة بعد اشتراطه أن يتقدم باستقالته من جماعة . فقدم الباقوري استقالته وأصبح وزيرًا.

وذهبنا إلى المرشد… واجتمع مكتب الإرشاد واتخذوا قرارًا بعدم الاشتراك في الوزارة بعد مناقشات طويلة… فقد رأى البعض أن اشتراكنا في الوزارة سيجعلنا مُبصرين بكل الخطوات التي تقوم بها الحكومة… ولكن المرشد كان له رأي آخر، وهو أنه لو حدثت أخطاء من الحكومة فإنها ستُلقى على الإخوان، فضلًا عن أن رسالة الإخوان، كما كان يراها المكتب في تلك الآونة، هي عدم الزج بأنفسهم في الحكم. فاتصل الضباط بالباقوري واستمالوه لجانبهم، فقبل الوزارة، فضغط عليه الهضيبي ليستقيل من الإخوان، وأعلن ذلك في الصحف. وجاء في أخبار اليوم في 13 سبتمبر 1952 ما نصه:

اتصل الأستاذ ، رئيس جماعة الإخوان المسلمين، بجميع الصحف ليلة تأليف وزارة محمد نجيب، وطلب منها أن تنشر على لسانه أن الأستاذ قد استقال من الإخوان قبل قبوله المنصب الوزاري. وفي الصباح التالي، توجه المرشد إليه في مكتبه بوزارة الأوقاف مهنئًا له، فقال له الباقوري: “اعذرني يا مولاي… إنها شهوة نفس”. فرد المرشد: “تمتع بها كما تشاء… اشبع بها”.

(محمود عبد العليم، نقلا عن )

لكن كان له رواية أخرى، قائلًا: لم نقدم قائمة، لكننا طلبنا أن يشترك بعض الإخوان المسلمين في الوزارة، وقدّم الأستاذ الهضيبي بعض الأسماء، وقد اعترض عبد الناصر على أحد المتقدمين وقال إنه صغير السن، وهو حسن عشماوي رحمه الله، كما اعترض على عبد القادر عودة، أما أحمد الباقوري فقد دخل الوزارة على مسؤوليته.

وأيًا كان الذي حدث، فإن اعتراض الإخوان لم يكن على مبدأ الاشتراك في الوزارة، وإنما كان اعتراضهم على حساب المكاسب والخسائر السياسية. فعلى الرواية الأولى لم يريدوا أن يتحملوا تبعة النقد الموجه للحكومة الجديدة. وعلى الرواية الثانية اختلفوا على الأسماء. والقضية كلها متناقضة؛ فلماذا طُرد الباقوري؟! ولماذا ذهبوا في الصباح يهنئونه؟!

لم يهدأ الإخوان بعد تعيين الباقوري واستمروا في طلبهم بالتدخل والمراقبة لجميع قرارات . فحضر لمجلس قيادة الثورة وفد من الإخوان المسلمين ضم الصاغ صلاح شادي رئيس قسم الوحدات والمحامي منير الدلة، ليقولوا لعبد الناصر: الآن وبعد حل الأحزاب، لم يبق من مؤيد للثورة إلا جماعة الإخوان. ولهذا، فإنهم يجب أن يكونوا في وضع يليق بدورهم وبحاجة الثورة لهم.

رفض عبد الناصر المطلب مرة أخرى، بدعوى أن الثورة ليست في محنة أو أزمة، ولكنه سألهما عن المطلوب لاستمرار تأييدهما للثورة، فأجابا: أننا نطالب بعرض كافة القوانين والقرارات التي سيتخذها مجلس قيادة الثورة قبل صدورها على مكتب الإرشاد لمراجعتها من ناحية مدى تطابقها مع شرع الله والموافقة عليها، وهذا هو سبيلنا لتأييدكم إذا أردتم التأييد. فأجاب قائلًا: لقد قلت للمرشد في وقت سابق إن الثورة لا تقبل أي وصاية من الكنيسة أو ما شابهها، وأني أكررها اليوم مرة أخرى.

لكن بالرغم من ذلك، استمر عبد الناصر في التعامل مع الإخوان المسلمين باعتبارهم فصيلًا وطنيًا، لدرجة أن احتفالات ثورة 1953 شهدت قيام وحدة من جوالة شباب الإخوان المسلمين باستعراض مليشياتهم العسكرية، رافعين أعلامًا عليها “السيف والمصحف” شعار الإخوان المسلمين أمام المنصة التي يجلس بها ال والبكباشي عبد الناصر و، الذين رفعوا أكفهم بالتحية العسكرية احترامًا وتقديرًا لهم، مثلها مثل أي وحدة من وحدات الجيش التي تتبارى على استعراض أفرادها في هذا الحفل في ميدان التحرير.

بعد أن استتبت الأرض تحت قدمي المرشد الجديد، أصدر الهضيبي قرارًا بفصل جميع الإخوان الأعضاء بالجهاز السري، وكل المتعاطفين معهم مثل الشيخ الغزالي و وأحمد الصباغ و و حسن. وقد رد الغزالي على قرار الهضيبي بكتابة عدة مقالات؛ اتهم فيها حسن الهضيبي صراحة بالماسونية، وقال إن حركة الماسونية العالمية نجحت في زرع الهضيبي وتنصيبه مرشدًا عامًا للإخوان المسلمين. أما فقد أصابه الإحباط، فقرر التواري والانزواء جانبًا.

وقد بدأ عبد الناصر في الإحساس بوجود قوى أخرى في الشعب المصري تحظى بتأييده، بعيدًا عن الإخوان المسلمين، وأن تلك القوى الشعبية تدين له بالولاء لما قدمه لها من مكاسب، خاصة في صفوف العمال والفلاحين. وقد تساعده تلك القوى الشعبية في التخلص من ثقل الإخوان المسلمين وحرصه الدؤوب على إرضائهم، فهي قوى تحمله ولا يحملها كما هو الحال مع الإخوان المسلمين الذين كان يشعر معهم بأنه مطالب بدفع فواتير المشاركة وتقديم الحسابات مقابل التأييد.

أما تأييد القوى الجديدة له فكان تأييدًا بلا مقابل أو حسابات أو فواتير مُطالب بسدادها أولًا بأول، وكان عبد الناصر هو صاحب الفضل مع مؤيديه من القوى الجديدة، على عكس القوى القديمة المؤيدة له من الإخوان المسلمين الذين كانوا يشعرون بأنهم هم أصحاب الفضل عليه وليس هو. وفي هذا الوقت الذي شعر فيه كل من حسن الهضيبي وجمال عبد الناصر بقوته وجماهيريته، كان لابد أن يقع الصدام بينهما، وقد كان صدامًا مروعًا.

كيف تقيّم هذا المقال؟

← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←

المتوسط الحالي حسب تقييمات من القراء

كن أوّل من يقيّم هذا المقال

بما أن المقال أعجبك..

ربما اﻷفضل مشاركته مع دوائرك كي يحظى بانتشار أوسع

من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا

دعنا نعمل على تحسين ذلك

أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟

‎ ‎ جزء من سلسلة: ‎ ‎ تاريخ الإخوان والسلطة[الجزء السابق] 🠼 اعتقال الهضيبي[الجزء التالي] 🠼 التنظيم السري من جديد
بيشوي القمص

صدر للكاتب:
كتاب: ﻻ أحد يتعلّم من التاريخ ٢٠١٧
كتاب: ﻻ أحد يتعلّم من التاريخ [قيصر جديد] ٢٠١٨
كتاب: ﻻ أحد يتعلّم من التاريخ [صراع العروش] ٢٠٢٢
كتاب: ﻻ أحد يتعلّم من التاريخ [العملية ظافر] ٢٠٢٤

‎ ‎ نحاول تخمين اهتمامك… ربما يهمك أن تقرأ أيضًا: ‎ ‎