
- كيف نشأت الجماعة؟
- ما بين العنف والنفاق
- الإخوان والعمل السياسي
- نشأة النظام الخاص
- المواجهة الأولى
- الإخوان المسلمين والبرلمان
- الإخوان وحكومة النقراشي
- الإخوان وحكومة صدقي
- انشقاق البنا والسكري
- الإخوان والدم
- قتل الخازندار
- الإخوان والحرب
- حل الجماعة
- ما بعد حل الجماعة
- أُكِلت يوم أُكِل الثور الأبيض
- نسف محكمة الاستئناف
- حادث حامد جودة
- الهضيبي مرشدا
- الإخوان وعبد الناصر
- ☑ عبد الناصر مرشدا
- اعتقال الهضيبي
- نهاية شهر العسل
- التنظيم السري من جديد
بعد اغتيال حسن البنا وتعرض الجماعة للاعتقال والاضطهاد، لم تجد الجماعة من يحل محل البنا، بالرغم من أن البنا كان قد كتب موصيًا بأن يكون المسؤول عن جماعة الإخوان المسلمين في حالة اغتياله أو غيابه هو عبد الرحمن السندي، وإذا لم يكن السندي موجودًا يصبح جمال عبد الناصر حسين هو المرشد العام لجماعة الإخوان المسلمين، لكن لم يحدث ذلك.
كان جمال عبد الناصر في أثناء مشاركته في حرب فلسطين قد اكتشف عددًا من الحركات السرية التي يموج بها الجيش المصري، ولم تكن أي منها تعلم بحقيقة الحركات الأخرى أو اتجاهاتها أو أعضائها. ولكن جمال عبد الناصر علم بوجود تنظيم شيوعي في الجيش يقوده يوسف صديق، وتنظيم وطني آخر يقوده الضابط أحمد شوقي. وفي سبتمبر 1949 بدأ الضباط الأحرار في التقرب مرة أخرى من الإخوان المسلمين. وبعد عودة جمال عبد الناصر من حرب فلسطين علم بما جاء في وصية حسن البنا من أنه يرشحه لتولي المسؤولية في حركة الإخوان المسلمين في حال غيابه هو وفي حالة عدم وجود عبد الرحمن السندي.
كان على عبد الناصر أن يجتمع بالضابطين الآخرين اللذين حضرا معه البيعة لحسن البنا ليستشيرهما في الأمر، وهما عبد المنعم عبد الرؤوف وأبو المكارم عبد الحي، وأطلعهما على ما جاء في الوصية، خاصة الجزء المتعلق بضرورة الإسراع للقيام بحركة التغيير. وقال لهما جمال عبد الناصر انه لا سبيل أمامهم للإسراع بحركة التغيير إلا بالتلاحم مع الحركات السرية الأخرى داخل صفوف الجيش، فالمهمة أثقل من أن يتحملها تنظيم واحد، وهي أكبر من قدرة أي تنظيم على حدة. بينما لو استطعنا التوحد والاندماج في التنظيمات الأخرى، يمكنهم القيام بالمهمة بنجاح وعلى وجه السرعة، على أن يكون زمام الأمور بأيدينا
. وقد وافق أبو المكارم عبد الحي على ما قاله عبد الناصر. لكن ثمة خلاف كبير بدأ يلوح بين الضابطين البارزين في تنظيم الضباط الأحرار: عبد الرؤوف، وعبد الناصر.
كان عبد الناصر يريد الإسراع في الانقلاب، ويريد فتح التنظيم أمام ضباط الجيش عمومًا وإن لم يكونوا ملتزمين بدعوة الإخوان المسلمين، بينما عبد الرؤوف ملتزم بالبيعة مع الإخوان وبالطاعة لتعليمات مكتب إرشاد الجماعة. ونتيجة لذلك، فقد رفض عبد الرؤوف اقتراح عبد الناصر قائلًا إنه لا يمكن أن يضع يده إلا “في أيد متوضئة” من غير المؤمنين بفكرة الحل الإسلامي على طريقة الإخوان المسلمين، ولابد من تجميع الضباط حول مبادئ جماعة الإخوان المسلمين واتباع هذا الأسلوب في اختيارهم. واشترط عبد الرؤوف في ضم الضباط للتنظيم أن يجتنبوا الخمر والميسر والنساء الساقطات، ويواظبوا على الصلاة، ويكونوا محبوبين من الجنود، وتلتزم نساء أهلهم بالزي الإسلامي، والطاعة لقرارات مكتب الإرشاد.
رأى عبد الرؤوف أنه لا يمكن الوصول إلى الغاية النبيلة إلا بالوسيلة النبيلة، بالتالي فإنه لن يضع يده في أيدي الشيوعيين أو غيرهم ممن لا ينتمون إلى الإخوان المسلمين. واحتج بأن التسيب في اختيار الضباط سيوقعهم في قبضة المخابرات، ثم أن عدم ارتداء زوجاتهم الزي الإسلامي سيجعلهم أضحوكة أمام جنودهم في المناسبات الدينية والوطنية والعالم. فحاول عبد الناصر جاهدًا إقناع عبد المنعم عبد الرؤوف بوجهة نظره، ولكنه حين أخفق في ذلك قال له: إذا اعتزلتنا فلا تكن ضدنا.. وإذا عملنا عملًا واحتجنا لك فيه، فساعدنا
، فوعده بذلك، وافترقوا على هذا الوعد والاتفاق. وعلى إثر ذلك شرع عبد الناصر في بناء تنظيم الضباط الأحرار منفردًا، الذي كان يضم في الواقع أكثر من تنظيم سري، وأكثر من اتجاه سياسي وعقائدي، وكان ذلك في عام 1949.
أما داخل مكتب الإرشاد، فقد قال بعض الإخوة أن البنا قد رشح الهضيبي من بعده عندما قال: لو حدث لي شيء واختلفتم فيمن يكون مرشدًا بعدي، فاذهبوا إلى المستشار حسن الهضيبي؛ فأنا أرشحه ليكون مرشدًا بعدي
. وبالرغم من تعارض هذه الوصية مع الوصية السابقة، إلا أن الهضيبي أصبح بالفعل المرشد الثاني للجماعة بتدخل الملك فاروق. وربما كانت هذه الوصية مُختلقة أساسًا بفعل الشيخ الباقوري. وبقي الهضيبي يؤدي عمله سرًّا نحو ست أشهر، وهو إلى ذلك لم يترك العمل في القضاء خلالها. ولما سمحت حكومة النحاس باشا للهيئة التأسيسية للإخوان بالاجتماع بعد الاتفاقية التي جمعت بينهم، طلب أعضاؤها من الهضيبي أن يرأس اجتماع الهيئة بصفته مرشدًا للجماعة، ولكنه رفض طلبهم؛ إذ اعتبر أن انتخابه من قبل الهيئة التأسيسية في المرحلة السرية من الدعوة لا يمثل رأي جمهور الإخوان، وطلب منهم أن ينتخبوا مرشدًا آخر غيره. ولكن الإخوان رفضوا طلبه، وقصدت وفود الإخوان من جميع أنحاء مصر بيته، وألحت عليه بالبقاء كمرشد عام للجماعة. وبعد أخذ ورد، وافق على مطالب وفود الإخوان، وقدم استقالته من القضاء، ليتفرغ للعمل في الإخوان المسلمين. وفي 17 أكتوبر 1951م، أُعلن حسن الهضيبي مرشدًا عامًا لجماعة الإخوان المسلمين بصورة رسمية.
كان عبد الناصر ثاقبًا في رؤيته للمستقبل، عندما لم يقطع الصلة بينه والإخوان بسبب ما حدث، لحاجة الضباط الأحرار إلى الإخوان كسند وظهير شعبي في الحركة المرتقبة. فبعد انقطاع لم يدم كثيرًا، عادت العلاقة بينهم إلى سابق عهدها وعادت المياه إلى مجاريها. ونشطت لقاءات الإخوان مع عبد الناصر قبل بَدْء الحركة، خصوصًا بعد حريق القاهرة في يناير 1951. وتكثفت الاجتماعات لدراسة سبل التعجيل بالانقلاب وتناولت أهدافه، والأمور المترتبة عليه من جهة من سيتولى الحكم، والموقف من الأحزاب، ومصير الملك. كما نوقشت قدرة الضباط على القيام بالانقلاب من الناحية العسكرية ودور الإخوان في هذا الانقلاب. وأرسل الهضيبي رجاله ليتفاوضوا مع جمال عبد الناصر لقلب نظام فاروق، في حين قبل أقل من شهرين من الانقلاب، كان الهضيبي يهرول إلى سجل تشريفات قصر عابدين، ثم إلى لقاء الملك في أول شهر من توليه منصب المرشد العام، ثم يتوجه بعد ذلك مرتين ليسجل ولاءه للملك في سجل التشريفات في 16 يناير 1952 وفي 25 مايو 1952.
كان آخر اجتماع تمهيدي قبل قيام الحركة، عقده جمال عبد الناصر في بيت عبد الرحمن السندي، قائد التنظيم السري، يوم 17 يوليو 1952. وكان الاجتماع بعيدًا عن أعين الضباط الأحرار، لوضع اللمسات الأخيرة على سيناريو التحرك ليلة الانقلاب، وما يجب عمله لنجاحها. وقد ناقش السندي وعبد الناصر في هذا الاجتماع كل شيء بالتفصيل. وحينما جاء الوقت لمناقشة اسم العملية، طرح عبد الناصر اسم الثورة المباركة
، ولكن السندي خالفه في ذلك معترضًا، وطلب تسميتها الحركة المباركة
، لأن الحس الإسلامي لا يستريح لكلمة ثورة
، التي لازمت جماعة الخوارج الشهيرة طوال تاريخهم.
تُشكك مذكرات محمد نجيب في تلك القصة من أساسها، فيؤكد نجيب في كتابه كنت رئيسًا لمصر
أن لفظ الانقلاب
كان اللفظ المستخدم فيما بين الضباط الأحرار، ويؤكد أن اللفظ لم يكن ليفزعهم لأنه كان يعبر عن أمر واقع، وكان هذا اللفظ هو المستخدم في المفاوضات والاتصالات الأولى بينه ورجال الحكومة. وعندما بدأ الضباط الأحرار في مخاطبة الشعب وكسبه إلى صفوفهم، استخدموا لفظ الحركة
، وهو لفظ مهذب وناعم لكلمة انقلاب
. وعندما أحسوا بتأييد الجماهير وتشجيعها، أضافوا لكلمة الحركة
صفة المباركة
، وبدأت البيانات الرسمية تقول حركة الجيش المباركة
. وعندما بدأت الجماهير تخرج إلى الشارع لتعبر عن فرحتها بالحركة، وبدأت برقيات النفاق والتهاني والتزلف تصل إلى الصحف والإذاعة، بدأ استخدام مصطلح الثورة
، لكن يعود نجيب ليؤكد أن ما حدث ليلة 23 يوليو 1953 لم يكن إلا انقلابًا.
من ضمن ما أكده عبد الرحمن السندي في هذا الاجتماع مع عبد الناصر؛ هو أن تتسم أولى قرارات الحركة المباركة بالانحياز إلى الإخوان المسلمين في بعض القضايا المعلقة، مثل: الإفراج الفوري عن جميع المعتقلين من الإخوان المسلمين، وخصوصًا أعضاء الإخوان المتهمين بقتل محمود فهمي النقراشي رئيس الوزراء الأسبق، الذي لم يكن فؤاد سراج الدين قد أفرج عنهم بعد. واستثناء المعتقلين الشيوعيين والماركسيين من قرار الإفراج. والقبض على إبراهيم عبد الهادي رئيس الوزراء السابق وتقديمه إلى المحاكمة بتهمة التدبير لقتل حسن البنا المرشد العام للإخوان المسلمين.
كان من شأن هذه القرارات، كما رأى عبد الرحمن السندي، وصدورها كأول قرارات للحركة الجديدة، أن تُشعِر الرأي العام في مصر والعالم بأن الحركة الجديدة تنتمي بشكل واضح إلى جماعة الإخوان المسلمين. وفضلًا عن ذلك كله، طلب عبد الرحمن السندي من جمال عبد الناصر، في حال نجاح الثورة وانتقال السلطة إلى يدها، أن يصدر أمرًا باعتقال حسن الهضيبي ضمن من سوف تصدر أوامر باعتقالهم من رؤساء الأحزاب والسياسيين. ولكن رؤية عبد الناصر لهذا الأمر كانت أكثر نفاذًا من رؤية السندي، فقال له عبد الناصر معترضًا: إن مياهًا كثيرة قد تدفقت في النهر
.
وكان يقصد بذلك تلك الألوف الكثيرة التي انضمت إلى حركة الإخوان عقب حرب فلسطين، ولم تكن لتلك الأعداد الكبيرة أي علاقة بالجهاز الخاص، ولا علم لها به، ولا ولاء لها إلا للمرشد المعلن حسن الهضيبي، فهي تنتمي للجماعة ورئيسها، خصوصًا أن حسن الهضيبي قد نجح في استقطاب أعداد كبيرة من الشباب انضموا حديثًا إلى صفوف الإخوان، بعدما رأوا الحكومة تغض الطرف عن نشاطهم المعلن، وأن الهضيبي يستقبل المئات منهم في المسجد المواجه لبيته في الروضة. رأى عبد الناصر أن القبض على حسن الهضيبي سوف يفسد الانطباع المتكون لدى الرأي العام بأن الحركة الثورية الجديدة هي امتداد لحركة الإخوان المسلمين. وبذلك، كان رأي جمال عبد الناصر هو الأصوب من رأي عبد الرحمن السندي، الذي لم يكن يرى في تلك اللحظة غير تصفية حساباته مع الملك فاروق، قاتل الشيخ حسن البنا، وذلك في شخص حسن الهضيبي.
كانت تلك أولى الخلافات بين عبد الناصر ورجال التنظيم الخاص. ولكن أمام المنطق القوي الذي أبداه عبد الناصر بشأن عملية اعتقال الهضيبي، لم يجد السندي أمامه غير الخضوع لجمال عبد الناصر، ولكن بشرط تأجيل اعتقال الشيخ حسن الهضيبي انتظارًا لموقفه من القرارات الخاصة بالإفراج عن قيادات الإخوان المسلمين وأعضاء التنظيم، خاصة المتهمين منهم باغتيال النقراشي. وقال السندي: إذا وافق الهضيبي على تلك القرارات وباركها، يبقى حرًا دون اعتقال. أما إذا هاجمها…
وهنا قال له عبد الناصر: سوف أعتقله فورًا
. فوافق السندي.
وفي يوم 19 يوليو 1952، بعد اجتماع السندي وعبد الناصر بيومين وقبل قيام الحركة بأربعة أيام، صدرت الأوامر إلى أعضاء الجهاز السري الذين لم تشملهم الاعتقالات بالتوجه فورًا إلى قُرى الإسماعيلية الملاصقة لمعسكرات الإنجليز في منطقة القناة، واحتلال الطريق وكل الطرق المؤدية إلى مدينة القاهرة. ولم يكن الإخوان يعلمون بالسر وراء ذلك التحرك المفاجئ. كان عبد الناصر قد قال للسندي أنه لو تحركت القوات البريطانية نحو القاهرة للتصدي لقوات الثورة، فسوف نشتبك معها، ولكن المعركة في هذه الحالة سوف تكون في نظر العالم بين جيشين، وربما ينجح الإنجليز عبر جهازهم الإعلامي الواسع في تصوير الثورة على أنها مجرد تمرد في صفوف القوات المصرية ضد نظام الحكم، بالتالي فإن هذا التمرد يفتقد إلى الشرعية، وإن تحرك القوات البريطانية للدفاع عن الملك سيبدو في نظر العالم على أنه دفاع عن الشرعية والدستور، ضد حركة تفتقر إلى الشرعية وتخرق الدستور
.
من هنا كان إصرار عبد الناصر على ضرورة إشراك الإخوان في الثورة، كي يبدو أن الشعب بمختلف طوائفه ضد تحرك القوات البريطانية، أو حتى قوات الملك لو تحركت تصديًا للانقلاب. وبالفعل، تحرك الإخوان إلى منطقة القناة لتحقيق هذا الهدف، وانتظارًا للأوامر، ليس فقط بالاشتباك مع القوات البريطانية المتحركة من قواعدها بالقناة في اتجاه القاهرة، بل وتأليب الجماهير على تلك القوات لإظهار الثورة في إطار شعبي لا يفتقد إلى الشرعية.
قامت الثورة في 23 يوليو 1952م، وفي 26 يوليو صاغت الهيئة التأسيسية للإخوان بيانها الشهير، مُعربةً عن فرحتها بنجاح الحركة المُباركة لضباط الجيش في تحرير مصر. ويقول محمد نجيب في مذكراته:
للتاريخ؛ أذكر أن يوسف صديق كان أشجع الرجال في تلك الليلة، فهو الذي نفذ عملية الاقتحام والسيطرة على مقر القيادة. وللتاريخ أيضًا؛ أذكر أن جمال عبد الناصر وعبد الحكيم عامر لم يقتربا من القيادة إلا بعد الاستيلاء عليها، كانا يقفان في مكان جانبي قريب وارتديا ملابس مدنية، وبمجرد أن أحسا بنجاح الاقتحام ارتديا الملابس العسكرية ودخلا القيادة. أما أنور السادات فكان أكثر منهما ذكاءً، إذ دخل ليلتها السينما وتشاجر مشاجرة مفتعلة وحرّر محضرًا بالواقعة، حتى إذا ما فشلت الحركة نجح في الخروج منها كالشعرة من العجين.(محمد نجيب، كنت رئيسًا لمصر)
صدر للكاتب:
كتاب: ﻻ أحد يتعلّم من التاريخ ٢٠١٧
كتاب: ﻻ أحد يتعلّم من التاريخ [قيصر جديد] ٢٠١٨
كتاب: ﻻ أحد يتعلّم من التاريخ [صراع العروش] ٢٠٢٢
كتاب: ﻻ أحد يتعلّم من التاريخ [العملية ظافر] ٢٠٢٤