المقال رقم 14 من 15 في سلسلة تاريخ الإخوان والسلطة

انهار البنا… فحلمه بالخلافة والإمامة الذي قضى عمره كله في بنائه قد انهار في غمضة عين. إنهار حين استبد به الغرور، وظن في نفسه القوة التي لا يمكن لأحد أن يواجهها، وها هو كل شيء قد انهار، ويا ليت الأمر اقتصر على ذلك فقط، إنما وجد البنا نفسه وحيدًا محبوسًا محاصرًا في منزله خائفًا ملتاعًا بلا أتباع وبلا أصحاب، ضاقت الدنيا ب وتراجع كثيرًا عن أحلامه، فها هي جماعته التي بناها في عشرين عامًا تنهار أمام عينيه ولا يستطيع أن يفعل شيئًا حيالها، لدرجة أنه فكر في استبدال اسم جماعة باسم رابطة المصحف، عزمًا على استمرار رسالة الجماعة الدينية ثم تراجع عن الفكرة.

ثم عاد وأراد الالتحاق ب، لكن أعضاء الجمعية خافوا على أنفسهم من تعنت الدولة ضدهم إذا استقبلوا البنا بينهم، حتى أن وكيل الجمعية “محمد زكي علي” اعترض رسميًا على حضور البنا، لكن اللواء محمد باشا، رئيس الجمعية، ضرب الحائط برفض الأعضاء للبنا لما كان من صداقة قوية بينهما، وزار المرشد العام في بيته وقال له؛ اعتبر دار الشبان المسلمين دارك ومفتوحة لك في أي وقت، وقال لأحد مسؤولي الجمعية ويدعى محمد الليثي أن يخلي مكتبه للبنا، ويحاول ألا يجتمع مع البنا في المكتب أكثر من ثلاثة أشخاص، حتى لا يطبق عليهم قرار الاعتقال الصادر في قرار الحل، وهكذا صارت جمعية الشبان المسلمين المكان الوحيد الذي يتردد عليه البنا.

كالغريق الذي يحاول التشبث بقشة، زار البنا رئيس الحزب الوطني محمد باشا يسأله فيما إذا كان من الممكن إثارة موضوع حل الجماعة في البرلمان، لكن حافظ رمضان نصحه بالعدول عن هذا الرأي خشية موافقة الهيئات النيابية على قرار الحل، فبذلك سيكون الموضوع أغلق للابد، فحاول البنا طلب وساطة البعض للصلح بين الإخوان و ومنهم وهيب دوس بك المحامي القبطي لكن حافظ رمضان عاد واعترض مرة أخرى على تلك الفكرة، فأقام البنا دعوى أمام مجلس الدولة يطلب فيها إلغاء قرار الحل، في نفس الوقت الذي كتب فيه مقالًا عنوانه قضيتنا مشيعًا نظرية المؤامرات الخارجية، متهمًا فيها بريطانيا بالضغط على الحكومة المصرية لحل الجماعة، وكأنما شيئًا لم يحدث من الجماعة، ولا عنف قامت به، ولا أسلحة ضبطت بحوزتهم ولا أي شيء قد حدث على الإطلاق.

في الوقت ذاته، لم يرتدع النظام الخاص بحل الجماعة، بل أرسل تهديد إلى وزارة الخارجية المصرية وديوان المحاسبة ومجلس الدولة مهددين بنسفها، ووُجدت متفجرات في مكتب وكيل وزارة الأشغال قبل انفجارها، وتلقى حزب الأحرار الدستوريين منشورات موقعة باسم مستعار هو كتائب النضال المقدس لتحرير الإسلام، جاء في المنشور اعتراض كاتبيه على قرار الحل، وقالوا إنهم من الجماعة المنحلة، وأنهم عازمون على إرجاء الحق بطريقتهم الخاصة: بالعدوان يرد بالعدوان

في نفس الوقت كان البنا يحاول لقاء النقراشي مرة أخرى، لكن النقراشي رفض اللقاء تلك المرة أيضًا، فكتب إليه البنا رسالة مفادها أن الإخوان يعتزمون الهدوء وسيعاونون الحكومة على إقرار الأمن، واجتمع البنا مع إبراهيم باشا عبد الهادي رئيس الديوان الملكي وقدم البنا نفس الرسالة التي أرسلها للنقراشي، ورأى البنا أن يبين موقفه لكل المحيطين بالملك، فقرر الاجتماع ب المستشار الصحفي للملك وطلب وساطته وأبرز له أهمية الإخوان، ومدى الفائدة التي سيكسبها العرش إذا عرف كيف يستفيد من نشاطها الديني، واعترف أن اشتغالهم بالسياسة كان خطًأ كبيرًا، وأن عليهم قصر رسالتهم على خدمة الدين، وطلب من كريم ثابت نقل هذا الحديث للملك، مع الرجاء بأن يتدخل بنفوذه لدى النقراشي ليوقف تدابير الحل والمصادرة، وليبقي على الإخوان كهيئة دينية تنصرف إلى تأدية رسالتها الأخلاقية دون أن تجاوزها، ثم عاد وكرر أن الإخوان من هذا المنطلق هم عون كبير للملك في مقاومة ال والمبادئ الهدامة، واختتم حديثه بأنه إذا وافق الملك، فهو مستعد تسهيلًا لمهمة الحكومة إذاعة بيان يعلن فيه أن الإخوان لن يعملوا بالسياسة بتاتًا، وأنهم سيوجهون جهودهم للأغراض الدينية وحدها، وظل البنا يردد إن ولائنا للعرش لا ينكره إلا كل مكابر وأن الإسلام لا يتعارض مع النظم الملكية وأنه ملتزم بقول الحسن البصري لو كانت لي دعوة مستجابة لجعلتها للسلطان فإن الله يصلح بصلاحه خلقًا كثيرًا

وبالفعل نقل كريم ثابت لقاءه مع المرشد للملك الذي كان في قمة غضبه على حسن البنا، وأخرج من أحد الأدراج رزنامة [تقويم سنوي] من تلك التي تطبعها مصلحة المساحة، ومنزوع منها صورته وملصق مكانها صورة المرشد العام، وناولها لكريم ثابت وعلق عليها بأنها صورة الملك الجديد، أي أن الإخوان يزمعون خلعه وتنصيب حسن البنا بدلًا منه، وكان رجال المباحث قد عثروا عليها في دمنهور، ومن ثم فشلت الوساطة.

بعد أسبوع من الحل ألقى ثلاثة من أعضاء الجماعة قنابل على رجال الشرطة في مدرسة الزقازيق الثانوية، وكان المراغي قد حذر النقراشي من انتشار العنف غير المسبوق إن أصر النقراشي على حل الجماعة، وقتها تهكم النقراشي ضاحكًا أعرف ديتها… رصاصة أو رصاصتين في صدري، ولم يدري أنه على بعد عشرين يومًا فقط من تحقيق النبوءة…

اغتيال النقراشي

منذ قرار حل الجماعة، كان النظام الخاص قد عقد العزم على اغتيال النقراشي باشا، وكان النقراشي بصفته وزير الداخلية والمالية إلى جانب كونه رئيسًا للحكومة، يذهب أيامًا إلى رئاسة مجلس الوزراء وأحيانًا إلى وزارة الداخلية وأحيانًا أخرى إلى وزارة المالية، وقد استدعى الأمر قيام الإخوان بعملية رصد متوال لمعرفة جدوله في توزيع أيامه على وزاراته، كذلك كان يغير طريقه من منزله بمصر الجديدة إلى أي من تلك الوزارات بوسط المدينة، ولذلك استبعدت فكرة اصطياده في الطريق.

وفى صباح يوم الثلاثاء 28 من ديسمبر 1948 ذهبت قوة الحراسة المكونة من الصاغ عبد الحميد خيرت، والضابط حباطي علي حباطي، والكونستابل أحمد عبد الله شكري إلى منزل النقراشي لاصطحابه، وانتظروا الباشا حتى نزل إليهم قبل العاشرة صباحًا بعشرين دقيقة، وركب الأول معه في سيارته بينما ركب الآخرون سيارة أخرى تتبع السيارة الأولى، ووصل الركب وزارة الداخلية نحو الساعة العاشرة، ونزل النقراشي باشا من سيارته أمام الباب الداخلي لسراي الوزارة واتجه إلى المصعد مجتازا بهو السراي وإلى يساره الصاغ عبد الحميد خيرت وخلفه الحارسان الآخران هذا بالإضافة إلى حراسة أخرى تنتظر بالبهو مكونة من كونستابل وصول وأومباشي بوليس.

وكان أمام الوزارة الداخلية مقهى الإعلام، تم اختياره مسبقًا ليجلس به ، من إخوان النظام الخاص، وقد تسمى باسم مستعار هو الضابط حسني في انتظار مكالمة هاتفية لتلقي إشارة بأن الموكب قد غادر بيت الرئيس في طريقه إلى الوزارة، وتمت تلك التجربة مرات قبلها، وفي يوم التنفيذ تلقى الضباط حسني إشارة هاتفية بأن الموكب قد تحرك، فغادر المقهى إلى البهو الداخلي لوزارة الداخلية، وهناك كانوا يخلون البهو من الغرباء في انتظار وصول الرئيس، ولكن عبد المجيد وقد ارتدى زي ضابط بوليس لم يطلب إليه أحد الانصراف فهو من أهل البيت، وحين غادر عبد المجيد مقهى الإعلام كانت هناك عيون على مقهى آخر ترقبه.. في زي كونستابل ومحمود كامل السيد في زي سائق سيارة بوليس، فتبعاه إلى داخل الوزارة.

كان موكب النقراشي باشا يأتي من بيته بمصر الجديدة مارًا بشارع الملكة نازلي [رمسيس] إلى وسط المدينة، وكان بيت الأخ سعد شهبندر عضو النظام الخاص بشارع الملكة نازلي بالعباسية، فكان هو المكلف بترقب الركب من شرفة بيته حتى إذا مر الركب من أمامه يطلب رقما معينا للتليفون، هو تليفون قهوة الإعلام أمام وزارة الداخلية، ثم يطلب الضابط حسني، وكان عبد المجيد يذكر لصاحب المقهى إنه ينتظر مكالمة هاتفية وأن اسمه حسني، فإذا أجاب عبد المجيد يقول له سعد لقد مر الآن، ولم يكن سعد ولا عبد المجيد يعرف أحدهما من يخاطب، وأجريت ثلاث تجارب أثبتت أن الموكب يصل بعد 14 دقيقة من المكالمة، كان عبد المجيد يتجه بعد المكالمة إلى بهو وزارة الداخلية من الباب الرئيسي وبعد دقيقة يتبعه شفيق من ذات الباب، وبعد دقيقة أخرى يتحرك محمود كامل ليدخل من باب جانبي ثم يسلك إلى البهو من باب صغير يوصل إليه، وترصدت المجموعة صيدها ثلاث أيام.

كانت التعليمات أن ينتظروا ثلاث دقائق فإذا لم يصل النقراشي فعليهم بالانصراف حتى لا يثير بقاؤهم انتباه الحراس، وفي اليوم الأول انتظروا خمس دقائق بدافع الحماس والحرص على التنفيذ ثم انصرفوا، وعملوا بعد ذلك من الصحف أنه ذهب في هذا اليوم إلى بدلًا من وزارة الداخلية، وفي اليوم التالي كان مقررًا أن يذهب إلى وزارة المالية، ولكنه خالف وذهب إلى وزارة الداخلية ربما لعدم ذهابه في اليوم السابق، ولم يكونوا في انتظاره، وفي اليوم الثالث جاء النقراشي باشا في العاشرة وخمس دقائق صباحًا يحيط به ضباط الشرطة يحرسونه وهو يتجه إلى المصعد إلى مكتبه بالدور الثاني بعد دخول عبد المجيد وشفيق إلى البهو مباشرة ودخل محمود كامل من الباب الجانبي، ولكن الأحداث جرت أسرع منه، حيث تقدم عبد المجيد وقام بتحية النقراشي قبل أن يهم بركوب المصعد، ثم أفرغ ثلاث رصاصات في ظهره فأرداه قتيلًا على الفور دون انتظار محمود، فأغلقت جميع الأبواب فورًا واحتجزوا محمود بالخارج، ولم يحاول القاتل الهرب فقبض عليه الرائد عبد الحميد خيرت ياور رئيس الوزراء، واليوزباشي مصطفى علوان الضابط بالمباحث الجنائية.

اشترك ال في تشييع جنازة النقراشي، وصلّى على الجثمان في جامع الكخيا، وشيع أنصار الحكومة جثمان رئيس وزرائهم هاتفين في صراحة: الموت لحسن البنا، ثم قصد فاروق منزل النقراشي بمصر الجديدة ليعزي أسرته، وعاد إلى قصر عابدين ليجتمع ب رئيس الديوان الملكي ليقرر تعيينه رئيسًا للوزراء خلفًا للنقراشي، وتتشكل الوزارة في ساعة متأخرة من الليل يوم وفاة النقراشي.

أما القاتل فقد اعترف بالنذر اليسير، وقال إن اسمه عبد المجيد أحمد حسن طالب في كلية الطب البيطري وأنه قد ارتكب الجريمة لأن النقراشي خائن للوطن وللإسلام بحله الجماعة، وأنقضت ستة عشر يومًا قضاها عبد المجيد أحمد حسن تحت تعذيب وحشي بغير أن يعترف بانتمائه لجماعة الإخوان المسلمين، وكتب محمود عباس العقاد في 17 يناير 1948 عن اغتيال النقراشي قائلًا:

أجمع المصريون على استنكار تلك الجرائم الوحشية التي يقدم على ارتكابها الإخوان المسلمين، التي من حقها أن تسمي نفسها جمعية الخوّان المسلمين، إن فقيد الوطن النقراشي قد أراح البلاد من عصابات كثيرة قبل عصابة خوّان المسلمين الإجرامية في الصميم ومنها عصابة الخط المشهورة.. إنهم مجرمون من فصيلة الخط، بل من فصيلة أقل منه ومن عصابته.

(، بتاريخ 17 يناير 1948)

وفي مقال آخر له بعنوان “صوت حكيم من شاب حكيم” عام 1949 قال فيه: أولئك الخوّان يعملون ما يتمنى أن يعمله الصهيونيين.

وفي مقال له بعنوان “فتنة إسرائيلية” عام 1949 قال فيه: هذه الفتنة ابتليت بها مصر على أيدي عصابة خوّان المسلمين هي أقرب الفتن في نظامها إلى دعوات الإسرائيليين والمجوس.

كيف تقيّم هذا المقال؟

← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←

المتوسط الحالي حسب تقييمات من القراء

كن أوّل من يقيّم هذا المقال

بما أن المقال أعجبك..

ربما اﻷفضل مشاركته مع دوائرك كي يحظى بانتشار أوسع

من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا

دعنا نعمل على تحسين ذلك

أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟

جزء من سلسلة: تاريخ الإخوان والسلطة[الجزء السابق] 🠼 حل الجماعة[الجزء التالي] 🠼 أُكِلت يوم أُكِل الثور الأبيض
بيشوي القمص
[ + مقالات ]

صدر للكاتب:
كتاب: ﻻ أحد يتعلّم من التاريخ ٢٠١٧
كتاب: ﻻ أحد يتعلّم من التاريخ [قيصر جديد] ٢٠١٨
كتاب: ﻻ أحد يتعلّم من التاريخ [صراع العروش] ٢٠٢٢
كتاب: ﻻ أحد يتعلّم من التاريخ [العملية ظافر] ٢٠٢٤