المقال رقم 3 من 7 في سلسلة مونارخية الآب

نستكمل في هذا الجزء أهم الإشارات إلى عقيدة مونارخية الآب في ، في كتابات أهم الأساتذة والباحثين اللاهوتيين من مُختلف الجامعات والمدارس اللاهوتية، سواء المدرسة الإنجليزية، أو الفرنسية، أو الألمانية، أو الأمريكية، أو اليونانية، أو القبطية، بل ومن مُختلف الكنائس والطوائف المسيحية، سواء، الأرثوذكسية، أو الكاثوليكية، أو البروتستانية. للوقوف على أفضل تصوُّر للمونارخية، أو وحدة الرأس، أو الأصل، أو المصدر، أو الينبوع، أو العلة في الثالوث القدوس. وسوف نبحث شروحات هؤلاء الأساتذة والباحثين المرموقين على مستوى العالم لفكر آباء الكنيسة والمجامع المقدَّسة حول مونارخية الآب في الثالوث القدوس.

جان كلود لارشيه

مونارخية الآب في التعليم الأرثوذكسي الشرقي

يُشِير اللاهوتيّ الأرثوذكسيّ الفرنسيّ چان كلود لارشيه إلى ”مونارخية الآب“ حسب تعليم اللاهوت الشرقيّ الأرثوذكسيّ، وخاصةً تعليم الآباء الكبادوك قائلًا: [1]

ولنلاحِظ، من ثمَّ، أن الابن والروح القدس، حسب التصور الشرقيّ، بالرغم من كونهما يستمدان بشكلٍ متوازٍ، كل من الأقنوم والطبيعة الإلهية، فهما مُتَّحِدان فيما بينهما بالآب بطبيعتهما التي يشترك فيها الثلاثة معًا، وكذلك بواقع أن أصلهما معًا هو في الآب: هنا بالذات نعود فنلقى معنى 'السيادة/الرئاسة‘ μοναρχή، التي هي غالية على قلوب الكبادوكيين.

(چان كلود لارشيه، في إطار الحوار الأرثوذكسي الكاثوليكي: انبثاق الروح القدس من الآب والابن، مسعى للتقارب أم تكريس للتباعد)

يوحنا زيزيولاس

مونارخية الآب في تعليم الآباء اليونانيين

نستعرض الآن مونارخية الآب حسب المطران يوحنا زيزيولاس. فمنذ عمله الأول، وقد عبَّر زيزيولاس بشكلٍ مُتكررٍ عن إصراره على الأسبقية العلية للآب داخل حياة الثالوث. ويُعبِّر عن موقفه قائلًا: [2]

وحدة الله بين الآباء اليونانيين، والإله الواحد، و'المبدأ‘ الأنطولوچيّ، أو 'العلة‘ الأنطولوچية لكينونة وحياة الله، لا تتمثَّل في الجوهر الإلهيّ الواحد [كما في المفهوم الأوغسطينيّ والتوماويّ الغربيّ]، بل في الأقانيم، أي في أقنوم الآب. فالإله الواحد ليس هو الجوهر الواحد، بل الآب، الذي هو 'علة‘ كُلٌّ من ولادة الابن وانبثاق الروح القدس. وتبعًا لذلك، يُعزَا 'المبدأ‘ الأنطولوچيّ [الوجوديّ] إلى الله، ومرةً أخرى، إلى الأقنوم. بالتالي، عندما نقول إن الله 'يكون‘، فنحن لا نُقيِّد الحرية الشخصانية [الأقنومية] لله […] بل ننسب الكينونة الإلهية إلى حريته الشخصانية [الأقنومية]. وبطريقة أكثر تحليلًا، معنى هذا أن الله كآب وليس كجوهر، دائمًا ما يُؤكِّد من خلال 'الكينونة‘ على حرية إرادته في الوجود […] وهكذا، الله كشخص [أقنوم] -كأقنوم الآب- يجعل من الجوهر الإلهيّ الواحد أن يكون ما يكونه: إلهٌ واحدٌ.

(John D. , Being as Communion)

وهكذا يُميِّز زيزيولاس هنا بين طريقتين مُتضادتين لتعريف وحدة أو وحدانية الله كالتالي:

1) عن طريق الجوهر الإلهيّ، وهو الموقف الذي يعزوه زيزيولاس إلى التقليد الأوغسطينيّ والتقليد الغربيّ في العموم (سواء في العصر الوسيط أو في العصر الحديث).

2) عن طريق أقنوم الآب، وهو التصوُّر الغالب إن لم يكن الحصريّ لوحدة الله في التقليد الآبائيّ اليونانيّ.

الآب هو العلة الأنطولوچية

حجة زيزيولاس لصالح المونارخية المنفرِدة للآب مُرتبِطة بطرح ثلاثيّ الأوجه كالتالي: [3]

بجعل شخص [أقنوم] الآب هو التعبير عن الأصل άρχή الأنطولوچيّ [الوجوديّ] الواحد في الله، فنحن نجعل من الغيرية مقومًا أو قوامًا أنطولوچيًا [وجوديًا] في الكينونة الإلهية. بالتساوي عن طريق إيعاز الكينونة الإلهية إلى علة شخصانية [أقنومية] بدلًا من الجوهر، فنحن نسمو بالخصوصية والغيرية إلى حالة أنطولوچية [وجودية] أولية [مبدئية]. وفي الأخير، عن طريق إيعاز العلية الأنطولوچية [الوجودية] الأولية [المبدئية] إلى شخص [أقنوم] واحد وحيد في الثالوث، فنحن نُؤكِّد على أن الواحد في الأنطولوچيا [الوجودية] الية واليونانية لا يسبق 'الكثرة‘، بل هو نفسه 'الواحد‘ في 'الكثرة‘ […] المونارخية الأنطولوچية للآب، التي لها كينونة علائقية، وربط العلية الأنطولوچية [الوجودية] به، يُساعِد على الحفاظ على انسجام وتطابُّق الواحد والكثرة في الكينونة الإلهية.

(John D. Zizioulas, Communion and Otherness)

مونارخية الآب في اللاهوت الشرقي

ويُفسِّر المطران يوحنا زيزيولاس ”مونارخية الآب“ في الثالوث حسب اللاهوت الشرقيّ قائلًا: [4]

إذًا، الوجود شركة بمعنى دقيق يُعبِّر عنه اللاهوت الشرقيّ بدقةٍ، أي أن جوهر الله ليس غامضًا وفكرة مُجرَّدة، بل كيان أبوة يخلق شركة، وليس مُجرَّد بناء وجوديّ نتأمله من الخارج ونتقرب منه لأنه موجود من أجل التمتُّع بالوجود، بل وجود الله وجوهره هو وجود وجوهر في أشخاص أو أقانيم الثالوث، حيث الآب نفسه هو علة وسبب وجود أقنوميّ الابن والروح القدس. […] يتَّضح إذَا تأملنا حقيقة الإيمان المسيحيّ. فالأبوة في الله هي شخص أو أقنوم حر، بالتالي، الكيان والوجود الإلهيّ ليس فكرة أو مبدأ أو بناءً خاضعًا لضرورات الوجود، بل هو الآب أي الأقنوم.

(يوحنا زيزيولاس، الوجود شركة)

نستنتج مما سبق أن ”مونارخية الثالوث“ هي مُحاولة لإقحام الأوغسطينية والتوماوية في اللاهوت الآبائيّ اليونانيّ الشرقيّ. حيث تُنادِي الأوغسطينية والتوماوية بأسبقية وحدة الجوهر على تمايُّز الأقانيم، وهكذا تجعل من الأقانيم مُجرَّد علائق أو علاقات داخل الثالوث القدوس، وليست أقانيم لكُلٌّ منهم كيان أقنوميّ قائم بذاته داخل الجوهر الإلهيّ الواحد. ومونارخية الثالوث تجعل من الخاصية الأقنومية المتفرِدة للآب كأنها خاصية مشتركة بينه والأقنومين الآخرين، أي الابن والروح القدس، مع أن الخاصية الأقنومية التي تُميِّز أقنوم الآب عن الخاصية الأقنومية لكُلٌّ من الأقنومين الآخرين، هي خاصية المونارخية أو المصدرية أو العلية أو الأبوة، وهي ما تجعل نمط وجوده الأقنوميّ قائم، لأنه لو لم يلد الآب الابن بالطبيعة، ولو لم يبثق الروح القدس بالطبيعة، لن يكون هناك وجود لأقنوم الآب، بالتالي، فلن يلد الابن ولن يبثق الروح القدس، وبالنتيجة، لن يكون هناك ثالوث بالأساس، في حين مونارخية الآب في الثالوث القدوس تُحافِظ على الوحدة والتمايُّز أو الغيرية في الثالوث القدوس. ثم أن مونارخية الثالوث بمعنى اشتراك الابن والروح القدس في خاصية المصدرية والعلية مع الآب تجعل من الأقانيم الثلاثة عبارة عن ثلاثة رؤوس أو علل أو مصادر أو أصول داخل الثالوث، بالتالي، تنتفي الوحدانية تمامًا داخل الثالوث القدوس. ولكن الأدق والأصح هو مونارخية الثالوث في علاقته مع الخليقة كرأس وينبوع ومبدأ واحد للخليقة، وليس في داخل الثالوث الأزليّ نفسه في العلاقات الأقنومية بين الأقانيم الثلاثة.

الشماس اسبيرو جبور

مفهوم مونارخية الآب في الثالوث

يُفسِّر الشماس الأرثوذكسي المغبوط اسبيرو جبور ”مونارخية الآب“ في الثالوث قائلًا: [5]

الآب مُنتشِر ومُتحدِّد في الروح والابن وإليه معادهما. وهو منبع، ومصدر الوحدة والألوهة في الثالوث. يمنح الابن والروح طبيعته التي تبقى واحدًة، وغير متجزئة، وغير مقسومة، ومعادلة لنفسها في الثلاثة. الابن والروح القدس نابعان من شخص الآب: الابن بالولادة والروح القدس بالانبثاق. الآب هو العلة. شخص الآب يلد ويبثق، شخصه هو العلة.

(اسبيرو جبور، الله في اللاهوت المسيحي)

فالتر كاسبر

سوف نتطرق الآن إلى رأي واحد من أهم اللاهوتيين في العالم وهو الكاردينال الألمانيّ الكاثوليكيّ ”فالتر كاسبر“، أسقف روتنبرج بألمانيا، ورئيس لجنة الحوار الكاثوليكيّ من أجل الوحدة المسيحية، حيث يتتبع مونارخية الآب في تعاليم آباء الكنيسة في القرون الخمسة الأولى وفي صيغ اعتراف الكنيسة في العصور المسيحية المبكرة، وفي النصوص ال المبكرة، التي تتحدَّث عن ”مونارخية الآب“ في الثالوث القدوس.

مونارخية الآب في صيغ الاعتراف القديمة والليتورجية القديمة في الكنيسة

يتحدَّث فالتر كاسبر عن الاعتقاد بـ”مونارخية الآب“ في الثالوث منذ فجر المسيحية في صيغ الاعتراف الإيمانية القديمة وفي النصوص الليتورچية القديمة قائلًا: [6]

واليقين الأساسيّ بأن الله يدل أولًا ومُباشرةً على الآب تُعبِّر عنه أيضًا صيغ الاعتراف في الكنيسة القديمة. فاعترافات الكنيسة الأولى تتوجه دومًا إلى الله، الآب القادر على كل شيء. بالتالي، فالآب وحده يُعد المبدأ، الذي لا مبدأ له άρχή، لكل حقيقة. فهو principium sine principo أي المبدأ الذي لا مبدأ له. وما يدل على ذلك خصوصًا لغة الصلاة في الليتورچيات الأولى القديمة. فأقدم صلاة إفخارستية نُقلت إلينا تتوجه إلى الآب: إننا نشكرك، يا أبانا، لأجل الكرامة المقدسة لداود خادمك، الذي منحتنا أن نعرفه بيسوع خادمك. ولك المجد إلى الأبد.

(فالتر كاسبر، إله المسيحيين)

مونارخية الآب عند يوستينوس وإيرينيؤس وترتليانوس

يُشِير فالتر كاسبر إلى مونارخية الآب عند الآباء المدافعين، وس، وإيرينيؤس، ووس قائلًا: [7]

لقد استعاد التقليد المسيحيّ القديم كلام الكتاب المقدَّس في الله كأب، وسمَّى الله بمعنى مطلق بـ 'الآب‘. يوستينوس وإيرينيؤس وترتليانوس يتكلمون كلهم بلغة واحدة. وعندما يكون المقصود هو الله، فالكلام عن الآب.

(فالتر كاسبر، إله المسيحيين)

مونارخية الآب عند العلامة أوريجينوس والأب يوحنا الدمشقي

يتحدَّث فالتر كاسبر عن ”مونارخية الآب“ عند العلامة والأب ّ، وكيف أولى الآباء اليونانيون هذه العقيدة أهمية كبرى قائلًا: [8]

بذلك تحدَّد هذا الأمر: أن الله هو منذ الأزل أبو ابنه الذي هو من ذات جوهره. أما في داخل الثالوث، فالقول الآن إن الآب هو المبدأ άρχή والينبوع πηγή كما كان يقول اليونانيون، أو المبدأ principium كما كان اللاتين يقولون. أما في الخارج كان القول بأن الخلق وتاريخ الخلاص هما عمل الثالوث بأجمعه. فالعقيدة التي نشأت من قبل عند أوريجينوس، والمنطلقة من الآب كمبدأ وينبوع للألوهية، قد أولاها الآباء اليونانيون على الخصوص أهمية كبرى. ويوحنا الدمشقي قد لخصها مرةً أخرى أيضًا في كتاب 'المائة مقالة في الإيمان الأرثوذكسيّ‘ الذي صار عمليًا الكتاب المدرسيّ في الكنيسة الأرثوذكسية.

(فالتر كاسبر، إله المسيحيين)

مونارخية الآب عند العلامة ترتليان الأفريقي

يشرح فالتر كاسبر ”مونارخية الآب“ في تعليم العلامة ترتليان الإفريقي قائلًا: [9]

إذاك تصون عقيدة ترتليانوس عن الثالوث وحدة سيادة الآب monarchia الذي منه ينبثق كل شيء وكذلك التدبير oiconomia، أي النظام الحسيّ لتلك السيادة، الذي به يجعل الآب الابن مُشارِكًا في سيادته ويُمارِسها من خلاله. وعليه يستطيع ترتليانوس أن يصون الوحدة في الله، مع إبراز الفرق، بخلاف الشكليين modalists الذي من بينهم يسترعي على الخصوص انتباه ترتليانوس. فهؤلاء لا يرون في الابن والروح سوى شكلين مختلفين لظهور الآب، وينسون أن الآب ليس آبًا إلا بالنسبة إلى الابن، وبالعكس. وعليه فالوحدة في الثالوث تعني أن الثلاثة يتميَّزون لا بالحالة بل بالدرجة، لا بالجوهر بل بالشكل، لا بالقدرة بل بالهيئة. فخلافًا لل، ليس هناك انفصال، ولكن، خلافًا للشكليةmodalism ، هناك تمييز بين الأشخاص وليس بين الجواهر. ويصوغ ترتليانوس ذلك صياغةً لا مثيل لها: الثلاثة هم وحدة وليس واحدًا tres unum sunt non unus .

(فالتر كاسبر، إله المسيحيين)

مونارخية الآب عند ق. ديونيسيوس الإسكندري

يُوضِّح فالتر كاسبر عقيدة ”مونارخية الآب“ في تعليم ق. الإسكندريّ، أحد أهم الآباء الإسكندريين، الذي كان يُلقَّب بـ ”مُعلِّم المسكونة الكبير“، قائلًا: [10]

لقد كان لتوضيحات ترتليانوس ودقتها تأثيرًا حاسمًا خصوصًا في عقيدة الثالوث الغربية التي رُسِمَت خطوطها الأساسية في وقت باكر نسبيًا. ويبدو هذا التأثير جليًا في النزاع بين الديونيسيوسين [الاسكندري والروماني]. ففي كتاب وجهه أسقف روما ديونيسيوس سنة ٢٦٢م إلى سميه ديونيسيوس أسقف الإسكندرية، أبدى اعتراضه على ثلاثية الآلهة tritheisme المزعومة عند نظيره في الإسكندرية، وعلى شكلية modalism . من الواجب ألا تُحل الوحدة الإلهية إلى ثلاث ألوهيات منفصلة تمامًا tritheisme، وألا يُماهَى الآب والابنmodalisme. وإذَا تساءلنا كيف يجب، مع ذلك، التفكير في الاثنين معًا، فلن نجد جوابًا عند ديونيسيوس. ولكن من المفيد مُلاحظة أنه لا يضع وحدة سيادة الآب في الجوهر الإلهي الواحد، بل في الآب، الذي يتَّحد به الابن، وفيه يبقى ويسكن الروح. فليس الروح، أو، كما عند أوغسطينوس لاحقًا، بل الآب هو هنا رباط الوحدة في الثالوث. ونجد في الغرب المسيحي، بعد قرن، عند هيلاريوس [ و الغرب] تصوُّرًا مماثلًا. وعليه استقر في الغرب اللاتينيّ تصوُّر للثالوث، يُناسِب اهتمام الشرق، يصون وحدة سيادة الآب.

(فالتر كاسبر، إله المسيحيين)

مونارخية الآب في مجمع نيقية المسكوني ٣٢٥م

يُشِير فالتر كاسبر إلى عقيدة ”مونارخية الآب“ في المسكونيّ الأول ٣٢٥ قائلًا: [11]

هذا التفسير للهوموأوسيوس όμοούσιος يتضمن، بالنسبة إلى عقيدة الثالوث التي هي في أساس مجمع نيقية، ويحتوي على ما يلي: لا ينطلق المجمع بطريقةٍ توحيديةٍ من الذات الإلهية الواحدة [ما يُعرَف بمونارخية الجوهر أو مونارخية الثالوث حسب تعبير تورانس المستحدث] للكلام لاحقًا فقط بطريقةٍ ثالوثيةٍ على الآب والابن والروح القدس، كأشكال ثلاثة توجد بها واقعيًا هذه الذات الإلهية الوحيدة. ينطلق الاعتراف بالعكس، من الآب الذي تفهمه 'كذروة الوحدة‘ الذي فيه يتَّحد الابن والروح القدس. فنحن بالتالي أمام تصوُّر تكوينيّ للألوهة ينبثق من الآب [مونارخية الآب] ويجري في الابن وفي الروح القدس.

(فالتر كاسبر، إله المسيحيين)

مونارخية الآب عند الآباء الكبادوك

وأخيرًا، يُشِير فالتر كاسبر إلى عقيدة ”مونارخية الآب“ في تعليم الآباء الكبادوك، ويُوضِّح التكامُّل والانسجام بين شرح ق. أثناسيوس والآباء الكبادوك، وليس التعارُّض بينهما، قائلًا: [12]

كان أنصاف الين يريدون صيانة الفارق بين الآب والابن، إذ كان يبدو لهم موضع شبهة شكلية [سابيلية] بكلمة هوموأوسيوس όμοούσιος، فزادوا حرفًا وتكلَّموا على هوميوأوسيوس όμοιούσιος [أي المشابه للآب، والمساوي له دون أن يكون هو ذاته]. ولكن لم يكن القبول بهذه التسوية ممكنًا، لأنها لا تفي بالمقتضى العميق للهوموأوسيوسόμοούσιος . وبدا حل، عندما قام أثناسيوس، المدافع الكبير عن النزعة النيقاوية، ببعض التقريب، في مجمع الإسكندرية عام ٣٦٢م، وسوَّغ التمييز بين ثلاثة أقانيم hypostases وذات [جوهر] وحيدة. فجرى التمييز، إذًا، عندئذٍ، بين مفهومين كانا لا يزالان في نيقية مترادفين. التوضيح الأدق لهذين المفهومين كان من عمل الكباودكيين الثلاثة [ القيصريّ، وّ، وّ]. يرى باسيليوس أن الجوهر ούσία يعني بالفلسفة ال العمومية غير المحدَّدة. بالتالي، على سبيل المثال، يمكن نسبة الجوهر الإنسانيّ إلى أناس عدة معًا. أمَّا الأقانيم ύποστάσεις، فهي بالمقابل التحقيق الفعليّ الفرديّ لهذا الجوهر. وهي توجد بفضل مجموعة من الـ idiomata، أي خصوصيات [خواص] تُنتِج أفرادًا. إلا أن هذه الخصوصيات لا تُعتبر أعراضًا، بل هي مكونات constitutiva الكائن الفعليّ. خصوصية الآب إنه ليس لوجوده أية علة أخرى، وخصوصية الابن أن يكون مولودًا من الآب، وخصوصية الروح أن يكون معروفًا بعد الابن ومعه، وأن تنشأ ذاته من الآب.

(فالتر كاسبر، إله المسيحيين)

نستخلص من هذا أن عقيدة مونارخية الآب في الثالوث القدوس كانت عقيدة راسخة ومتغلغلة في المسيحية منذ نشأتها وخاصةً في القرون الخمسة الأولى في جميع التقاليد اللاهوتية والكنسية والليتورچية المختلفة وفي نصوص صيغ الإيمان المسيحي القديمة المبكرة.

هوامش ومصادر:
  1. چان كلود لارشيه، في إطار الحوار الأرثوذكسي الكاثوليكي: انبثاق الروح القدس من الآب والابن، مسعى للتقارب أم تكريس للتباعد، ترجمة: الأب الدكتور يوحنا اللاطي، مراجعة: الأرشمندريت توما البيطار، (لبنان: عائلة الثالوث القدوس، ٢٠٠٤)، ص ٣٨. [🡁]
  2. John D. Zizioulas, Being as Communion, (New York: Saint Vladimir's Seminary Press, 1997), pp. 40-41 [🡁]
  3. John D. Zizioulas, Communion and Otherness, Edit. by Paul McPartlan, (London & New York: T&T Clark, 2009), p. 35. [🡁]
  4. يوحنا زيزيولاس، الوجود شركة، ترجمة: ، (القاهرة: المركز الأرثوذكسي للدراسات الآبائية، ٢٠٠٦)، ص ٢١، ٢٢. [🡁]
  5. اسبيرو جبور، الله في اللاهوت المسيحي، (لبنان، ١٩٩٦)، ص ٨١. [🡁]
  6. فالتر كاسبر، إله المسيحيين، ترجمة: المطران يوحنا منصور، (لبنان: منشورات ، ٢٠٠٦)، ص ١٧٨. [🡁]
  7. فالتر كاسبر، إله المسيحيين، ترجمة: المطران يوحنا منصور، (لبنان: منشورات المكتبة البولسية، ٢٠٠٦)، ص ١٧٨. [🡁]
  8. فالتر كاسبر، إله المسيحيين، ترجمة: المطران يوحنا منصور، (لبنان: منشورات المكتبة البولسية، ٢٠٠٦)، ص ١٨٠. [🡁]
  9. فالتر كاسبر، إله المسيحيين، ترجمة: المطران يوحنا منصور، (لبنان: منشورات المكتبة البولسية، ٢٠٠٦)، ص ٢٧٠. [🡁]
  10. فالتر كاسبر، إله المسيحيين، ترجمة: المطران يوحنا منصور، (لبنان: منشورات المكتبة البولسية، ٢٠٠٦)، ص ٢٧١. [🡁]
  11. فالتر كاسبر، إله المسيحيين، ترجمة: المطران يوحنا منصور، (لبنان: منشورات المكتبة البولسية، ٢٠٠٦)، ص ٢٧٥. [🡁]
  12. فالتر كاسبر، إله المسيحيين، ترجمة: المطران يوحنا منصور، (لبنان: منشورات المكتبة البولسية، ٢٠٠٦)، ص ٢٧٥، ٢٧٦. [🡁]

كيف تقيّم هذا المقال؟

← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←

المتوسط الحالي حسب تقييمات من القراء

كن أوّل من يقيّم هذا المقال

بما أن المقال أعجبك..

ربما اﻷفضل مشاركته مع دوائرك كي يحظى بانتشار أوسع

من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا

دعنا نعمل على تحسين ذلك

أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟

جزء من سلسلة: مونارخية الآب[الجزء السابق] 🠼 مونارخية الآب في الدراسات الأكاديمية [٢][الجزء التالي] 🠼 مونارخية الآب في الدراسات الأكاديمية [٤]
أنطون جرجس
بكالوريوس اللاهوت اﻷرثوذكسي في   [ + مقالات ]

صدر للكاتب:
كتاب: عظات القديس غريغوريوس النيسي على سفر الجامعة
ترجمة كتاب: "الثالوث"، لل أسقف هيبو
ترجمة كتاب: "ضد "، للقديس غريغوريوس النيسي