زوجة أحد قواد الجيش الهندي (اسمه أخيليش) في إحدى الحروب التي انتهت عام 1999م، تشهد كيف يجب على الجنود أن يتصالحوا معًا بسبب الإصابات التي لحقت بهم في القتال فغيرت حياتهم. هذا مثال لكل الشعوب التي تعاني من آلام الحروب والدمار في أراضيها.

كنت أشهد مشهدًا يوميًّّا بينما كنت أسير من غرفة الضيوف إلى جناح الضباط في الصباح. فبالقرب من مفترق الطرق، كان موظفو المستشفى يحملون التوابيت نحو المشرحة. كانت هذه جثث جنودنا الشجعان الذين قدموا التضحية القصوى في حرب كارجيل. كنت أضم يدي معًا في الصلاة من أجل المغادرين وعائلاتهم، الذين كانوا يتلقون توابيتهم بقلوب مكسورة. كنت أدعو الله أن يمنحهم الشجاعة لمواجهة الحقيقة المريرة لحرب قبيحة، لأنهم في النهاية كانوا هم الذين يعانون. فبالنسبة لهم قد توقف الزمن، ولن يرَوا أحباءهم مرة أخرى. كانت البلاد يوميًّا تفقد أبنائها الأكثر إخلاصًا وشجاعة. كان الناس يتذكرونهم دائمًا بالفخر والاعتزاز، لكن هذا لم يكن ليعوض أبدًا الفراغ الذي شعر به أحبابهم.

لم تكن التوابيت هي الملاحظة الوحيدة التي كانت تسترعي اهتمامي كل يوم. ففي المساء، كنت أزور المطعم الصغير في الحرم الجامعي وكنت أرى العديد من الجنود. كانوا جميعًا مصابين. بعضهم لن يمشي مرة أخرى، وبعضهم لن يبصر مرة أخرى، وبعضهم فقد أطرافه. بعضهم سُحِقَت عظامه إلى قطع صغيرة لدرجة أن الأطباء اضطروا إلى تجميعها معًا بقضبان فولاذية ومسامير. كانت الجروح على أجسادهم مغطاة بالضمادات، بينما كانت وجوههم الكئيبة وعيونهم الفارغة تشهد على العذاب الذي تحملوه. كانوا يكافحون مع أصغر المهام لبقية حياتهم. كان وضعهم المعوَّق سيؤدي إلى خفض رتبتهم في الجيش لأسباب طبية. لم يطلب منهم الجيش المغادرة، لكن احترامهم لذاتهم لم يسمح لهم بالبقاء.

تم تحقيق كل انتصار على قمم كارجيل بدفع ثمن باهظ. غالبًا ما كان الكابتن أخيليش يستيقظ من التشنجات في أحلامه في منتصف الليل. كانت تطارده صور الحرب المروعة: الدماء على الأرض، والثلج يتحول إلى اللون الأسود، والدخان في كل مكان، والجروح الدموية لرفاقه، وتوجيهه لإطلاق نيران المدفعية. كان يصرخ ويقول إنه يريد العودة ومحاربة العدو!

وبعد أن تمكن أخيليش من التحرك على كرسي متحرك، طلب مني أن آخذه إلى جناح الجنود. كان يريد مقابلة رجاله. كان عنبرًا ضخمًا به أسرَّة مصطفة على كلا الجانبين، مما يترك مساحة للمشي بينهما. وعندما رأوني أنا والكابتن أخيليش، أصبح الجنود في الجناح مسرورون.

“سيدي، ماذا سأفعل الآن؟” كان أحد قواد الجيش يبكي، فقد بُترت ساقاه. “لدي أطفال صغار وزوجة ووالدان عجوزان. من سيوفر لهما الرعاية الآن؟” مدّ الكابتن أخيليش يده لتعزيته. ثم أكمل هذا القائد قائلًا: “سيدي، أريد أن أموت. لا يمكنني أن أعيش حياة شخص معاق”.

طمأنه الكابتن أخيليش قائلًا: “أنت جندي وتبكي؟ لقد فقدت ساقيك أثناء القتال من أجل بلدك. الجيش سوف يعتني بك وبأسرتك”. أجاب القائد: “سيدي، نحن نعلم أن الجيش سوف يعتني بنا، لكننا نحن الذين سنستمر في الحياة بإعاقاتنا. بدون يدي سأضطر أن أعتمد الآن على عائلتي. كان من الأفضل لي لو مت”، هكذا قال أحد الرجال من السرير المجاور.

“سيدي، الحقيقة المرة للحياة لن تتغير بالنسبة لي. لا يوجد سوى الظلام أمام عيني،” هكذا قال جندي آخر من السرير المجاور.

كان هناك الكثير من الأسئلة، والكثير من عدم اليقين والكثير من الحزن. كان الجميع ينظرون إلينا وكأننا نستطيع شرح الظروف التي فرضتها الحياة عليهم.

ثم سألهم أخيليش هذا السؤال، “هل أنتم جميعًا نادمون على خوض الحرب ضد العدو لحماية بلدنا؟”

“لا، سيدي، سنذهب مرة أخرى إذا أتيحت لنا الفرصة. نحن على استعداد للتضحية بحياتنا من أجل بلدنا”، قالها أحد الجنود، وأومأ الآخرون برؤوسهم موافقين.

“الشهادة شرف لا يناله إلا المحظوظون. أما الباقون فسوف يجدون المجد في إعاقاتهم. أنتم جميعًا جنود قاتلتم من أجل بلدكم. لا أحد يستطيع أن يسلبكم هذا الشرف. لقد قدمتم أعظم خدمة للأمة”، هكذا شجعهم الكابتن أخيليش.

لابد أن الأخبار عن البيئة البائسة في أجنحة المستشفى قد وصلت إلى قائد مستشفى القاعدة. بالتالي فتح بوابات المستشفى للزيارة من الساعة 11 صباحًا حتى الواحدة ظهرًا، للأشخاص الذين يرغبون في مقابلة أبطال حرب كارجيل، لشكرهم وتكريمهم على شجاعتهم وتضحياتهم. في أحد الأيام أثناء إفطار الكابتن أخيليش، رأيت من خلال النافذة العديد من أطفال المدارس مصطفين في الممر بالخارج. دخلت الممرضة وأخبرتنا أن الأطفال يرغبون في مقابلة أبطال حربهم. كانوا يحملون بطاقات وشوكولاتة ورسائل للضباط الجرحى. غمر الكابتن أخيليش شعور بالفخر وامتلأت عيناه بالدموع.

كان ذلك الصباح هو الذي أسس المجد في تاريخ الهند الحديثة. وغمرت عناوين الصحف كافة: أعلنت الهند يوم 26 يوليو 1999 “يوم انتصار كارجيل” (كارجيل فيجايديواس).

وكان الجيش الهندي قد أعلن عن “تتويجًا ناجحًا لعملية فيجاي”، معلنًا النصر بعد معركة دامت ثلاثة أشهر تقريبًا على قمم كارجيل الجليدية. وتم تطهير المنطقة من كل المتسللين. وذرفنا جميعًا دموع الفرح. كان يومًا للابتهاج وقرر الضباط الاحتفال به مع جنودهم. فساهموا جميعًا في طلب أطباق شهية من المطاعم، وبمساعدة طاقم المستشفى زينوا جناح الجنود بالزهور والأضواء والبالونات. ورقصوا وهم يحملون عكازاتهم وزجاجات الجلوكوز في الهواء، على ساق واحدة، دون استخدام أية أيادي.

إن انتصار كارجيل ليس مجرد قصة انتصار؛
بل إنه قصة ألم وفخر؛
قصة حيث الموت ليس هو النهاية.

(عن كتاب “الأمة أولًا” للكاتبة شيخا أخيليش ساكسينا)

كيف تقيّم هذا المقال؟

← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←

المتوسط الحالي حسب تقييمات من القراء

كن أوّل من يقيّم هذا المقال

بما أن المقال أعجبك..

ربما اﻷفضل مشاركته مع دوائرك كي يحظى بانتشار أوسع

من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا

دعنا نعمل على تحسين ذلك

أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟

برتي المقاري
راهب في دير القديس الأنبا مقار الكبير  [ + مقالات ]