كانت الصدمة الكبرى في تاريخ الجماعة هي انفصال وكيل الجماعة أحمد السكري عنها، بعد خلافات مع صديق عمره وطفولته حسن البنا، الذي آثر الزعامة وفضلها على الصداقة.
وفقًا لرواية الإخوان الرسمية، فإن أسباب فصل السكري بدأت عندما شن السكري هجومًا على البنا في سلسلة مقالات على صفحات جريدتي صوت الأمة والكتلة، ذكر فيها أن البنا له اتصالات ببعض الشخصيات الأجنبية، واتهم السكري البنا بالاستبداد في اتخاذ القرار، فقررت الهيئة التأسيسية لجماعة الإخوان المسلمين؛ إعفاء كل من الأستاذ محمد عبدالسميع الغنيمي أفندي، والأستاذ سالم غيث أفندي، والأستاذ أحمد السكري أفندي من عضوية الجماعة، لما تعرفه الهيئة من تصرفات الأستاذ أحمد السكري، واعتباره مناقضًا للعهد حانثًا باليمين، خارجًا على الجماعة، محاربًا للدعوة، وكذلك كل من اتصل به أو ناصره
وأسهبت أدبيات الإخوان في وصف السمات الشخصية السيئة
للسكري، التي اعتبروها ليست تجريحًا في شخصه
ولكنها مواقف تضئ لهم تفسير حادث خروج السكري عن الجماعة
، فهو مُحب للظهور والزعامة
، وكان يتجسس على مخاطبات البنا الشخصية، وسرب وثائق الإخوان السرية إلى فؤاد سراج الدين لينشرها في حزب الوفد، فضلًا عن أنه استغل الدعوة لأغراض شخصية
وفى المقابل، نشر السكري 24 مقالًا في جريدة صوت الأمة تحت عنوان كيف انزلق البنا بدعوة الإخوان؟
لكن السبب الحقيقي لفصل السكري وكيل الجماعة هو عبد الحكيم عابدين زوج شقيقة البنا.
كان عبد الحكيم عابدين
من أوائل من بايعوا مؤسس الجماعة حسن البنا، ولقد اختاره البنا ليزوجه شقيقته، وبذلك أصبح أحد أكثر الأعضاء قربًا من المرشد العام للجماعة. وكان عبد الحكيم عابدين شخصًا شديد الالتزام في الظاهر لا يمكن أن تتطرق إليه أي شبهة أخلاقية، علاوة على ذلك فهو من الرعيل الأول للجماعة ومن أوائل من بايعوا المرشد العام، لذلك فما أن دعا عبد الحكيم عابدين لإنشاء نظام للتزاور بين أسر الإخوان لتعميق الترابط والحب بين الإخوان وبعضهم البعض، فقد لاقي هذا المقترح ترحيبًا كبيرًا، ووكلت إلى عبد الحكيم عابدين مهمة تنظيم هذه الأمور والإشراف عليها ومتابعتها، فكانت هناك لقاءات أسرية وزيارات متبادلة بين الإخوان وبعضهم البعض في المنازل بدعوى تأليف القلوب.
وفي العام 1945 بدا واضحًا للعيان أن هذا النظام حمل في طياته العديد من الفضائح الأخلاقية التي وصفها بعض الإخوان أنفسهم بأنها يشيب من هولها شعر الوليد
، وأصبح واضحًا لكل ذي عينين أن عبد الحكيم أقرب ما يكون إلى راسبوتين
الجماعة، ولم يكن أمام المرشد إلا الأمر بإجراء تحقيقات مكتوبة مع عابدين بمعرفة بعض كبار أعضاء الجماعة، تلك التحقيقات التي لا يعرف أحد أين ذهبت وثائقها، التي نقل بعض الإخوان في مذكراتهم أن عبد الحكيم كان يتمرغ في الأرض ويبكي وينهار وهو يواجه بالتهم البشعة الموجهة إليه، وبعد انتهاء التحقيقات التي أكد الكثير من الإخوان أنها انتهت إلى إدانة واضحة لعبد الحكيم عابدين، اختار المرشد العام التكتم على الأمر مع حل نظام الأسر وتصفيته.
لكن مع ذلك ظل عبد الحكيم عابدين صاحب نفوذ واسع في الجماعة، بل وحتى بعد اغتيال حسن البنا، وأسفرت فضيحة عبد الحكيم عابدين عن خروج عدد كبير من الإخوان، وأحدثت شرخًا هائلًا في بنيان الجماعة، وأثارت التساؤلات لدى الكثيرين عن مدى مصداقية القائمين عليها، وكان على رأس الخارجين أحمد السكري وكيل الجماعة ومؤسسها الحقيقي ورفيق درب حسن البنا، الذي كانت فضيحة عابدين السبب الحقيقي لانشقاقه وخروجه، ومرت الأيام وغادر عبد الحكيم عابدين مصر في 1954، قبل وقوع محاولة اغتيال جمال عبد الناصر، وعاد إليها عام 1975، وتوفي عام 1977، ومات وسره معه.
حتى الآن لم يعرف أحد حقيقة ما حدث بالضبط، ولماذا اختار حسن البنا التضحية بشريكه في تأسيس الجماعة أحمد السكري على أن ينزل بعابدين العقاب، وحتى الآن لا تزال أوراق التحقيق مع عابدين في طي الكتمان، والجماعة الغامضة لا تريد أن تكشف عن الحقائق المتعلقة بهذه القضية، رغم أنها كانت من أخطر الأزمات التي واجهتها إن لم تكن الأخطر على الإطلاق، فقد كان خروج أحمد السكري من جماعة الإخوان المسلمين هو سبب المصائب التي حلت عليها بعد ذلك، فالرجل كان يمثل درعًا سياسيًا صلبًا، يرسم لحسن البنا كيفية التعامل مع القصر والحكومات والإنجليز، فلما زال هذا الدرع، تخبط حسن البنا ولم يعد قادرا على التعرف على الاتجاه الصحيح.
وبدأت صحف الوفد تهاجم الجماعة، وتنقل اتهامًا وجهه لوكيل الإخوان؛ أحمد السكري، الذي أنفصل مؤخرًا، بأن الشيخ حسن البنا حاول الحصول على مبلغ 50 ألف جنيه من حزب الوفد ثمنًا لتأييد الوفد ضد وزارة إسماعيل صدقي، واتهم السكري الشيخ البنا أيضًا بإجراء اتصالات مع رئيس الديوان الملكي، تعهد خلالها المرشد العام بأتباع سياسة معتدلة إزاء الحكومة مقابل مساعدة القصر، ولم تنف جريدة الإخوان الخبر وإنما ردت بأن حسن البنا مستعد للتعاون مع الوفد إذا تبرع هذا الحزب بمبلغ الـ 50 ألف جنيه لتنظيم سياسة قومية تساهم فيها كل الأحزاب حسب إمكاناتها.
وتصاعدت حملة الصحف الوفدية ضد البنا وجماعته، فكُتب في مايو ويونيو 1947؛ يمعن الشيخ في التضليل فيزعم انه ليس حزبًا سياسيًا، إذن ماذا أنت وجماعتك يا هذا؟ أنت تزاول نوعًا من السياسة هو أرخص وأقذر الأنواع
، وتكمل قائلة؛ انحسر آخر قناع عن وجه الشيخ البنا، فإذا به أقبح سياسي لعب على مسرح السياسة في الجيل الحاضر
، وتكتب رسالة للبنا تقول فيها؛ إلى زعيم عصابة الإخوان: صليتم تظاهرًا، وتصدقتم تفاخرًا، واتخذتم هيئة الصلاح لتتسلطوا على عقول البسطاء
، وتحذره بقولها؛ الإسلام ليس لحية ولا عمامة ولا سفسطة، بل هو تعالم نبيلة رفيعة تطبع المؤمنين بطالع الشرف والأخلاق والسمو وعدم الإسفاف، لا الجري وراء المال الحرام باستخدام التهريج والدجل والضحك على الدقون
ويرد الإخوان على الوفد فينشرون وثائق تثبت أن السلطات البريطانية ساعدت شباب الوفد في حملتهم ضد الجماعة، لكن برقيات السفارة البريطانية أكدت أن هذه الوثاق مزورة ومفبركة، فلا تجد الجماعة إلا ورقة الدين ليلعبوا بها، فهي الورقة الرابحة في كل معركة خاسرة، فتكتب صحيفة الإخوان؛ إن صحف الوفد تفيض إباحية وفجورًا، وأن على الوفديين أن يجددوا إسلامهم، فهم في تصرفاتهم خصم للإسلام، وحرب على تقاليده وتشريعاته
وفي نهاية أغسطس 1946، نشرت صحيفة “صوت الأمة” الوفدية هجومًا عنيفًا ضد الإخوان ومرشدهم وقالت إن البنا يتعرض لهتافات معادية في أثناء زياراته للأقاليم ويصفه المتظاهرون بأنه صنيعة الإنجليز، وأطلقت عليه الصحيفة اسم الشيخ حسن راسبوتين
من باب السخرية في إشارة إلي المشعوذ الروسي الشهير، وقد اعتمدت الحملة الوفدية ضد الإخوان علي عداء الجماعة للديمقراطية، واعتمادها علي تشكيلات شبه عسكرية.
وعلي الرغم من محاولات التوفيق بين الوفد والجماعة فقد استمر العداء، ووصفت صوت الأمة البنا بأنه حكومي أكثر من الحكوميين، ونقراشي أكثر من النقراشيين، وهكذا تتغير مواقف الإخوان من معاداة النقراشي إلى مساندته إلى عداوته وهكذا، وكانوا مع الوفد فأصبحوا ضده ثم تحالفوا معه وهكذا، كانوا في أحضان القصر ثم عايروه بتصرفاته ثم ارتموا وراء العظمة التي يلقيها جلالته لهم.
كيف تقيّم هذا المقال؟
← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←
المتوسط الحالي حسب تقييمات من القراء
كن أوّل من يقيّم هذا المقال
من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا
دعنا نعمل على تحسين ذلك
أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟
صدر للكاتب:
كتاب: ﻻ أحد يتعلّم من التاريخ ٢٠١٧
كتاب: ﻻ أحد يتعلّم من التاريخ [قيصر جديد] ٢٠١٨
كتاب: ﻻ أحد يتعلّم من التاريخ [صراع العروش] ٢٠٢٢
كتاب: ﻻ أحد يتعلّم من التاريخ [العملية ظافر] ٢٠٢٤
نحاول تخمين اهتماماتك… ربما يهمك أن تقرأ أيضا:
- أليكسي مكسيموڤيتش بيشكوڤ جوركي وكان تولستوي ودوستويڤسكي داعيتي هذه الحركة الصقلبية، كما كان تورجينيڤ وجوركي داعيتي الاتجاه الأوروبي، وكان التصادم الفكري بينهما كثيرًا، وهذا التصادم قد رأينا مثله في مصر، ففي الخمسين أو الستين سنة الماضية رأينا دعاة السفور للمرأة، مثل قاسم أمين، يتجهون نحو الغرب ويقولون بالأخذ بالحضارة العصرية، كما رأينا دعاة الحجاب، مثل طلعت حرب، يقولون بأننا شرقيون لنا تقاليدنا التي تفضل التقاليد الغربية...