المقال رقم 7 من 9 في سلسلة تاريخ الإخوان والسلطة

أثار مقتل خوف ال، وهذا دعاه إلى تكليف الرجل القوي محمود فهمي لرئاسة الوزارة بالإضافة إلى منصب وزير الداخلية في نفس الوقت، ليعود بالأمن إلى البلاد ويحد من نشاط الجماعة، وجاء النقراشي إلى سدة الوزارة في جو تسوده المظاهرات والاضطرابات التي عمت البلاد. كان النقراشي بالرغم من عنفه الشديد معروفًا بصدق الوطنية وعفة النفس واليد، وفي خطاب العرش قال النقراشي للملك؛ اعتزمت على سياسة الحزم في تحقيق الأمن والنظام.

وقد كان الغضب ملأ فاروق من ناحية الإخوان وعنفهم الذي ملأ البلاد، فأعطى كل الصلاحيات للنقراشي للتصدي لهم وبكل قوة، ولم يكن النقراشي يحتاج لأي أوامر من فاروق، فهو يحمل بداخله غضبًا من اغتيال رفيقه أحمد ماهر وشريك نضاله في حزب الوفد ثم في كتلة السعديين [الهيئة السعدية فيما بعد]، ولم يضيع النقراشي الوقت كما قال، فأصدر بكل سرعة وحزم قراراته بمنع الاجتماعات لكلًا من وحزب واللجنة العليا للحزب الوطني، كون البلد في حالة حرب وسيولة وتفكك، وتم القبض على كل العناصر القيادية في كل الحركات التخريبية وعلى رأسهم وأعضاء مكتب الإرشاد لمخالفتهم قرار الحاكم العسكري بمنع الاجتماعات، لكنه أفرج عنهم بعد عشرة أيام، فالأمر لم يكن يعدو أكثر من تمليصة أذن، لكى يعلم البنا وجماعته أنهم ليسوا بمنأى عن الاعتقال مثل غيرهم.

وقد وعى البنا الدرس جيدًا وعلم أنه ليس بعيد عن أنياب النقراشي، وشعر بالخطر وباقتراب النهاية، وكخطوة لأثبات حسن النوايا، ذهب البنا للنقراشي في مكتبه لتقديم العزاء في وفاة أحمد ماهر الذي قتله بيد باردة، معلنًا للنقراشي خضوعه التام ومستنكرًا ما حدث لأحمد ماهر، نافيًا أن يكون للجماعة يد في قتله، وفي نفس الوقت محاولًا عقد صفقة تحالف بين النقراشي وحكومته، لكن النقراشي لم تنطلي عليه مهاترات البنا، فرفض رفضًا قاطعًا أن يناقش حتى اقتراحه بالتحالف، فأدرك البنا والإخوان الآن أنهم في وضع حساس وبلا أي غطاء يحميهم وبلا أي دعم حكومي، مع فقدان جزء لا يستهان به من شعبيتهم في الشارع خاصة بعد تخلي القصر عنهم.

كان النقراشي قد أتى رئيسًا للحكومة رغمًا عن الإنجليز الذين لم يكن النقراشي على وفاق معهم أبدًا، ولكن نظرًا للتسيب الحادث في البلد، وافق الإنجليز به على مضض ليتصدى للانفلات الأمني والحوادث الإرهابية، وفي الوقت ذاته، أصدر البنا قراره بتنفيذ العديد من العمليات الإرهابية حتى يثبت فشل النقراشي في إعادة الأمن، فلا يعود هناك مبررًا لتغاضى الإنجليز عن وجوده فيطيحون به في أقرب وقت، في نفس الوقت كانت تلك التفجيرات تستهدف محال اليهود -بغض النظر عن كونهم مدنيين عزل ومصريين صميمين-، فتعود شعبية الجماعة في الشارع مرة أخرى.

لكن موجة العنف أتت بعكس ما أراد البنا، ودفعت إلى التمسك أكثر بالنقراشي وقبضته الحديدية، فدعي الإخوان لمظاهرة كبرى في الجامع الأزهر شارك فيها الطلبة ضد اليهود يوم الجمعة 2 نوفمبر 1945، وقدم الإخوان سيارات النقل التابعة للجماعة لنقل الطلاب، وقذفوا المتاجر اليهودية والمعبد اليهودي بالموسكي بالحجارة، حتى بلغت خسارة أحد محلات الملابس المملوكة ليهودي 60 ألف جنيه مصري وهو مبلغ مهول بمقياس هذا التاريخ، وتجمعت الشرطة محاولة فض هذا الشغب بلا جدوى، حتى إن النقراشي بنفسه شارك في القبض على بعضًا من مثيري الشغب دون أن فائدة، حتى أتى البنا مختالًا كطاووس وأمر الجماهير بفض المظاهرة، فأطاعوه.

كانت العلاقة بين الملك فاروق والبنا قد ساءت كثيرًا في الآونة الأخيرة، فقد تأكد لفاروق أن البنا لا يلعب لصالح القصر بل لصالح جماعته، فسعى البنا بمساعدة الصاغ ، وكيل الإخوان المسلمين للشئون العسكرية، إلى مقابلة أنور الضابط في الحرس الحديدي للملك، ليطلب منه بدوره أن يساعده في مقابلة يوسف رشاد طبيب الملك والمسئول عن الحرس الحديدي طلبًا في مقابلة الملك شخصيًا لطلب الغفران وتقديم فروض الولاء والسمع والطاعة، ولتحسين الأوضاع بين الجماعة وبين الملك، فطلب يوسف رشاد الإذن من فاروق لمقابلة البنا، فرفض فاروق في المرة الأولى، ثم عاد ووافق في المرة الثانية.

والتقى البنا والسكري مع يوسف رشاد الذي رفض طلب البنا بمقابلة الملك، ولكنه وعده بتوصيل طلباته للملك، إلا أن البنا تمادى في حديثه، وساوم رشاد على أن تغمض الجماعة أعينها عن تصرفات الملك وسهراته الماجنة وعن تصرفات الملكة الأم، مقابل أن تعمل الجماعة على تحسين صورة فاروق في الشارع مرة أخرى وترفع من شعبيته، وساوم أيضًا على أنه هو وجماعته سيكونون الحائط الصلب ضد الشيوعيين والحركة ، وأنهم سيكونون خط الدفاع الأول عن الملك، مقابل أن يرفع النقراشي يده عن الإخوان.

أعجب يوسف رشاد بعرض البنا، ونقل الصفقة للملك فاروق، لكن فاروق أجابه؛ حسن البنا ضحك عليك.، والواقع أن اقتراح البنا على يوسف رشاد يحمل هدفًا مزدوجًا، الأول؛ هو حماية فاروق، والثاني؛ هو ضرب الشيوعين، فقد رأى الإخوان في قوى والشيوعيين خطرًا كبيرًا خاصة بعد أن لاقوا شعبية كبيرة بين الطبقات الفقيرة البائسة من خلال برامجهم عن العدالة وحقوق الفقراء، فعمد الإخوان إلى تشويههم وقالوا عنهم أنهم أخطر من التبشيريين، وإنهم سيهدمون المساجد ويمنعون العبادة ويبيحون الأعراض ويذلون الأديان، ووصل الأمر بالإخوان إلى حد التحالف مع الغرب وأمريكا لضرب قوى اليسار، حتى إن البنا قد طلب من فيليب إيرلاند، السكرتير الأول للسفارة الأمريكية بالقاهرة، في 29 أغسطس 1947، إنشاء مكتب مشترك بين الإخوان والأمريكان لمكافحة الشيوعية، على أن يكون أغلب أعضاءه من الإخوان وأن تتولى أمريكا الإدارة ودفع مرتبات أعضاءه من الإخوان

مذبحة كوبري عباس

كان الشعب المصري تحدوه آمال عريضة في الاستقلال، خصوصًا بعد انتهاء وتأسيس عصبة الأمم التي أخذت تلعب دورًا مناصرًا للشعوب في تقرير مصيرها، فأعاد فاروق فتح باب المفاوضات مرة أخرى مع بريطانيا حول الجلاء، ولكن الرد البريطاني في 26 يناير 1946 عاد وأكد علي الثوابت الرئيسية التي قامت عليها معاهدة 1936، والتي أعطت مصر استقلالًا منقوصًا يتمثل في بقاء قوات بريطانية في مصر لتأمين قناة السويس، فكان الرد البريطاني بمثابة صفعة لكل آمال الشعب المصري، فاندلعت المظاهرات العارمة للطلبة في كل أنحاء مصر تطالب بالجلاء وقطع المفاوضات.

وفي يوم 9 فبراير 1946، خرج الطلبة في مظاهرة من جامعة ال الأول [جامعة القاهرة] إلي قصر عابدين، وسلكوا طريق كوبري عباس، وتصدي لهم البوليس وحاصرهم فوق الكوبري، واختلفت الآراء حول مسألة فتح الكوبري ومحاصرة الطلبة من عدمه، فبينما يروى خصوم النقراشي بما فيهم الإخوان المسلمون أنه تم فتح الكوبري لمحاصرة الطلبة، فأضطر العديد من الطلبة إلى إلقاء أنفسهم من فوق الكوبري في النيل فرارًا من البوليس، لكن جريدة الأهرام -التي كانت وقتئذ جريدة مستقلة غير تابعة لأي حزب من الأحزاب- سردت في عددها الصادر في 10 فبراير 1946 واقعة مختلفة تمامًا تخالف ما تم الترويج له من قِبل خصوم النقراشي، فأكدت أن كوبرى عباس كان مفتوحًا لمرور السفن الشراعية ومغلقًا للمشاة في ذلك الوقت، ولقد أجبر الطلبة المهندس المختص على إغلاق الكوبري حتى يتسنى لهم المرور على الضفة الأخرى للنيل، وقد تصدت لهم قوات الشرطة على الطرف الآخر من الكوبري، وتعاملت معهم بعنف، لكنه لم يسفر عنه سوى مقتل طالب واحد سقط تحت عجلات سيارة النقل رقم 26572.

وقد أكد المؤرخ تلك الواقعة في كتابه “ثورة 1919″، بالرغم من أنه كان ينتمى لحزب مغاير لحزب النقراشي، وأيدت شهادة أحمد عادل كمال، عضو التنظيم الخاص، في كتابه “النقط فوق الحروف” ما رواه الرافعي، رغم التناقض الواضح بين الألفاظ المنتقاة، فهو يقرر أنها كانت مذبحة لكن لم يقتل فيها أحد، والواقع فإن مذكرة الأمن التي صدرت في أعقاب هذه الأحداث قد حددت عدد المصابين من الطلبة والأهالي الذين شاركوا في المظاهرات بـ 125 شخصًا، مقابل إصابة 46 من رجال الشرطة.

إسقاط النقراشي

بدأت تتزايد مظاهرات الطلبة ضد الملك وخاصة في احتفالات عيد ميلاده، ولم يدرك فاروق تغير المزاج العام ضده، فحمل الوزارة مسئولية الاضطرابات، وبالطبع استغل الإخوان الفرصة لإزاحة النقراشي عدوهم اللدود من طريقهم عن طريق عقد صفقة مع الملك يتم بمقتضاها إزاحة النقراشي في مقابل إظهار التأييد للملك في فبراير 1946، ويحكي أحمد عادل كمال، عضو التنظيم الخاص، عن هذه قصة الصفقة بين الإخوان والملك قائلًا:

في منتصف الليل، تقف سيارة ملكية فاخرة في الحي الشعبي؛ الحلمية الجديدة، أمام البيت المتواضع الذي يسكنه الرجل الفقير الذي يهز الدولة ويهز العرش…حسن البنا، وطلب الرجل لمقابلة عاجلة مع رئيس الديوان الملكي ، وكان موقف حسن البنا حاسمًا وواضحًا… لقد أساء النقراشي بالاعتداء على أبنائنا الطلاب الذين لم يقترفوا إثمًا إلا المطالبة بأمانينا القومية… إنهم لم يطلبوا إلا جلاء قوات الاحتلال ووحدة وادي النيل، وهي مطالب مشروعة لا ينكرها إلا خائن… ولذلك لابد أن يخرج النقراشي من الوزارة، ولم يخرج الرجل من سراي عابدين إلاّ ومعه وعد بذلك.

(أحمد عادل كمال، عضو التنظيم الخاص، نقط فوق الحروف)

ويكمل قائلًا:

وفي نفس الوقت كانت اتصالات أخرى تجري معنا نحن الطلاب، اتصل بي عمر أمين، سكرتير قسم الطلاب آنذاك وكان طالبًا بكلية الهندسة، وطلب مني الحضور مندوبًا عن كلية التجارة في موعد حدده بميدان عبد المنعم بـالدقي، لمقابلة رئيس الديوان الملكي، وفي الموعد وجدت مندوبين من الإخوان عن سائر الكليات. كنت في العشرين من عمري وكانوا نحو ذلك، وتقدمنا إلى الفيلا التي كان يقطنها أحمد حسنين باشا فأدخلنا إلى حجرة الصالون… وعلمت أن واسطة الاتصال بين الباشا وبيننا كان الصحافي المعروف الأستاذ مصطفى أمين، وكان هو نفسه حاضرًا، كما شهد جانبًا من الاجتماع كريم ثابت المستشار الصحفي للقصر الملكي، وجاء الباشا [يقصد أحمد حسنين] وكان حريصًا كل الحرص إن يتبسط معنا في الحديث، وذكر أن الملك شاب مثلنا، وأنه يحبنا لأننا من جيله، ولأنه يحس بأحاسيسنا ويشعر بمشاعرنا، وسقط كريم ثابت فقال إن الملك مثلنا يحب معاكسة الفتيات، ولم يكن منتبهًا فيما يبدو إلى أننا إخوان مسلمون، وأراد حسنين باشا أن يتدارك الأمر ولكن بعد فوات الأوان، واستمر يقول؛ إنه لذلك فهو [يقصد الملك] عاتب علينا أشد العتب لما فعله الطلاب في الجامعة، وأجبنا بأن النقراشي أساء وضربنا، وقال؛ هناك سلطة عليا في البلاد وهي الملك، وأنه كان باستطاعتنا أن نشكو النقراشي إلى الملك، قلنا؛ إن النقراشي منع مظاهرة سلمية من الوصول إلى قصر عابدين، وزج بإخواننا في السجون، وما زال يبحث عنا للقبض علينا، وانتهى الحديث بيننا إلى أن أصبح صفقة؛ النقراشي يخرج من الحكم، ويفرج عن المقبوض عليهم، وتُحفظ القضايا، ونحن نقوم بمظاهرة من الجامعة إلى قصر عابدين تهتف بحياة الملك حفاظًا على كرامتنا في البلاد، وقد ضحى الملك بالنقراشي وكان كل ما يهمه هيبته هو، وكان ما يهمنا هو سقوط النقراشي والإفراج عن إخواننا.

(أحمد عادل كمال، عضو التنظيم الخاص، نقط فوق الحروف)

وبالفعل قام فاروق بتغيير وزارة النقراشي وتشكيل وزارة جديدة برئاسة إسماعيل صدقي في 16 فبراير 1946، وهو المتمرس في قمع الحركات الوطنية والملقب بـ.

حكومة النقراشي الثانية

رشح إسماعيل صدقي “محمود فهمي النقراشي” لرئاسة الوزارة بدلًا منه، ليصبح رئيس وزراء مصر للمرة الثانية في نفس العام في 9 ديسمبر 1946، وذلك بعد استقالته في منتصف فبراير 1945، واحتفظ النقراشي تلك المرة لنفسه بوزراتي الداخلية والخارجية، واستمر البنا وجماعته في معارضة النقراشي، فعندما رأس النقراشي وفد مصر إلى مجلس الأمن، ودافع عن حق مصر في الاستقلال في خطاب عنيف أمام المجلس في 5 أغسطس 1947 قائلًا: لم نعد نعيش في ظلمات القرن التاسع عشر، إن مصر لم تكن طرفًا حرًا عند إبرام معاهدة 1936 لان القوات البريطانية كانت تحتل أراضيها، كان الإخوان يوفدون خطيبهم المفوه إلى مجلس الأمن مرافقًا ومراقبًا للوفد المصري!!

وفي 22 أغسطس 1947، وقعت واحدة من أطرف الحوادث التي تدل على التخبط في صنع القرار الإخواني، ففي نيويورك وأثناء اجتماع مجلس الأمن وبعد خطاب النقراشي، ألقى مصطفى مؤمن خطبة ملتهبة من شرفة الزوار، وأشهر وثيقة موقعة بدماء الطلاب تستنكر المفاوضات من أساسها وتطالب بالجلاء التام، وعندما طرد مؤمن من قاعة المناقشات، نظم مظاهرة خارج مبنى الأمم المتحدة.

في نفس التوقيت في القاهرة كان الإخوان يؤيدون خطاب النقراشي في مجلس الأمن وينشروه كاملًا، وينظم البنا مظاهرة تجمعت في الأزهر لتأكيد وقوف مصر وراء النقراشي وتأييده في مجلس الأمن!

كيف تقيّم هذا المقال؟

← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←

المتوسط الحالي حسب تقييمات من القراء

كن أوّل من يقيّم هذا المقال

بما أن المقال أعجبك..

ربما اﻷفضل مشاركته مع دوائرك كي يحظى بانتشار أوسع

من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا

دعنا نعمل على تحسين ذلك

أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟

جزء من سلسلة: تاريخ الإخوان والسلطة[الجزء السابق] 🠼 الإخوان المسلمين والبرلمان[الجزء التالي] 🠼 الإخوان وحكومة إسماعيل صدقي
بيشوي القمص
[ + مقالات ]

صدر للكاتب:
كتاب: ﻻ أحد يتعلّم من التاريخ ٢٠١٧
كتاب: ﻻ أحد يتعلّم من التاريخ [قيصر جديد] ٢٠١٨
كتاب: ﻻ أحد يتعلّم من التاريخ [صراع العروش] ٢٠٢٢
كتاب: ﻻ أحد يتعلّم من التاريخ [العملية ظافر] ٢٠٢٤