كانت فكرة البنا القديمة قد اختمرت تمامًا ولم يتبق إلا التنفيذ، كانت الفكرة هي بناء جهاز سرى يقوم بأعمال العنف التي لا تستطيع الجماعة القيام بها في العلن، متأثرًا بأفكار هتلر النازية، وأفكار موسوليني الفاشية، لدرجة أنه من شده أفتنانه بالفكر الفاشي، كتب مقال شهير عنوانه؛ السنيور موسوليني يشرح مبدأ من مبادئ الإسلام
، مشيدًا بأفكار موسوليني وبخطبته الشهيرة التي ألقاها من فوق ظهر دبابة، مرسخًا لأفكاره الديكتاتورية.
رأى البنا أن الجيل الأول “جيل المستمعين” قد اكتمل وحان الوقت للجيل الثاني من الإخوان أن يبدأ عمله، وهو الجيل الذي يحارب، فسعى لجمع السلاح وتخزينه لهذا الغرض، ويقول أنور السادات في مذكراته؛ إن حسن البنا كان في ذلك الوقت يجمع السلاح ويشتريه ويخزنه ولم يكن أقرب الناس إليه من كبار الإخوان على علم بشيء من ذلك.
، ويشير البعض إلي أن البنا حدد وظائف هذا التشكيل بـشن الحرب علي الاستعمار البريطاني، وقتال الذين يخاصمون الجماعة وردعهم، وإحياء فريضة الجهاد، وهو ما يعني أن البنا قد فكر أول مرة في إيجاد تشكيل مؤسساتي، يتصدى لمن يخاصم الدعوة ويردعه.
بدأ النظام السرى في صورة نشاط رياضي كشفي وكان البنا قد ألف أول شعبها وتولى تدريبها بنفسه، ومع انتقال المركز العام للإخوان من الإسماعيلية إلى القاهرة، تطورت فرق العمل وفرق الرحلات وتعددت أغراضها وأصبح أولها التدريب العسكري، وتغير اسم فرق الرحلات إلى الجوالة، وزاد الاهتمام بها في أعقاب مؤتمر الإخوان الثالث عام 1935، فأصبح تنظيمًا مستقلًا يتبع المركز العام مباشرة، وفي عام 1939 عين البنا محمود لبيب الضابط السابق بالجيش قائدًا عامًا لفرق الجوالة، وكوّن لها مجلس قيادة من سبعة أشخاص، ويقول عمر التلمساني دفاعًا عن النظام الخاص:
لم يفكر حسن البنا والإخوان في اغتيال مصري، بل كانوا يصيدون الإنجليز واليهود.(عمر التلمساني)
لكن الحاج أمين الحسيني، مفتى فلسطين، ظل يردد؛ إن اليهود ليسوا فقط في فلسطين وإنما في مصر أيضًا، وفي كثير من البلاد التي لهم فيها نفوذ.
(إشارة إلى موافقته الضمنية على اغتيال اليهود المصريين كما سنرى قريبًا)
وفى عام 1945 عرض مرشد الإخوان حسن البنا على خمسة أشخاص هم : صالح عشماوي، حسين كمال الدين، حامد شريت، عبد العزيز أحمد، ومحمود عبد الحليم، إنشاء نظام خاص تواجه به الجماعة مسئولياتها إزاء الإنجليز في الداخل والصهاينة في فلسطين، وأسند إلى هؤلاء الخمسة قيادة هذا النظام وعهد إليهم بإنشائه وتدريب أفراده على أسس الأصول الإسلامية للجندية، التي تحكم نوازع الفكر والسلوك ونبضات المشاعر، وكلف هؤلاء الخمسة بإحاطة هذا الأمر بالسرية المطلقة على أن يكون تمويل هذا القسم من اشتراكات أفراده، ورتبت قيادة هذا النظام ابتداء من صالح عشماوي إلى حسين كمال الدين إلى محمود عبد الحليم إلى حامد شريت انتهاء بعبد العزيز أحمد.
اختار البنا صالح عشماوي، وكيل عام الجماعة، لرئاسة الجهاز في البداية، ثم اسند قيادته بعد ذلك إلى محمود الصباغ، ثم إلى عبد الرحمن السندي، وهو موظف كتابي بوزارة الزراعة لم يتم دراسته العليا، وأدى السندي البيعة أمام المرشد العام وتعهد بألا يقدم على عمل إلا بعد الرجوع إلى لجنة القيادة وإلى المرشد شخصيًا، وتألف النظام الخاص من ثلاث شعب أساسية هي: التشكيل المدني، وتشكيل الجيش، وتشكيل البوليس، وألحقت بالنظام تشكيلات تخصصية مثل جهاز التسليح وجهاز الأخبار، وقد عمل الجهاز الأخير كجهاز استخباري للجماعة.
يقوم التنظيم السرى أو النظام الخاص، أو كما كان المرشد يطلق عليه “جيش الإخوان السري”، على نظام الخلايا العنقودية المتسلسلة التي تبدأ من الخلية الأم المكونة من الخمسة المؤسسين للتنظيم وأميرهم البنا نفسه، وكل فرد منهم يتولى تكوين خلية من خمسة رجال آخرين ويصبح أميرها، ويظل الأمر متسلسلًا إلي ما لا نهاية، وكان نظام الخلايا يحافظ على سرية التنظيم ككل حتى إذا انكشفت إحدى الخلايا تم انتزاعها من جسم التنظيم دون المساس بباقي الخلايا.
ولم يكن الانضمام للنظام الخاص بالأمر اليسير، فالشخص المرشح يمر بسبع جلسات بمعرفة أمير الخلية، وتبدأ هذه الجلسات بالتعارف الكامل على المرشح، ثم جلسات روحية تشمل الصلاة والتهجد وقراءة القرآن، ثم جلسة للقيام بمهمة خطرة تكون بمثابة الاختبار، حيث يطلب من الشخص كتابة وصيته قبلها، ويستتبع ذلك مراقبة هذا المرشح وسلوكه ومدى نجاحه في المهمة التي كلف بها، إلى أن يتدخل أمير الخلية في آخر لحظة ويمنع الشخص المرشح من القيام بالمهمة، ويستتبع ذلك جلسة البيعة التي كانت تتم في منزل بـ “حي الصليبة” بجوار سبيل أم عباس، حيث يدعى المرشح للبيعة والشخص المسئول عن تكوينه بالإضافة لـ عبد الرحمن السندي، حيث يدخل الثلاثة المرشح للبيعة وأمير الخلية والسندي، لغرفة البيعة التي تكون مطفأة الأنوار ثم يجلسون على فرش على الأرض في مواجهة شخص مغطى جسده تمامًا من قمة رأسه إلي قدمه برداء أبيض، يخرج يداه ممتدتان علي منضدة منخفضة (طبلية) عليها مصحف شريف.
يبدأ هذا الشخص المغطى بتذكير المرشح بآيات القتال وظروف سرية هذا الجيش، ويؤكد عليه بأن هذه البيعة تصبح ملزمة بمجرد القسم، وتؤدي خيانتها إلى إخلاء سبيل الخائن من الجماعة، ثم يخرج هذا الشخص مسدسًا من جيبه ويطلب من المرشح تحسس المصحف والمسدس والقسم بالبيعة وبعدها يصبح المرشح عضوًا في الجيش الإسلامي، الشخص المغطى هو صالح عشماوي وكيل الجماعة الذي كان يأخذ البيعة عن المرشد، أما عن البيعة فقد استند فيها حسن البنا إلى حديثين شريفين الأول يقول؛ من مات وليس في عنقه بيعة فقد مات ميتة جاهلية.
، والثاني يقول؛ من بايع إمامًا فأعطاه صفقة يده وثمرة قلبه، فليطعه ما استطاع، فإن جاء آخر ونازعه فاضربوا عنق الآخر.
، واستند أيضًا إلى أقوال أبو الأعلى المودودي لا ينتخب للإمارة إلا من كان المسلمون يثقون به وبسيرته وبطباعه وبخلقه، فإذا انتخبوه فهو ولي الأمر المطاع في حكمه ولا يعصى له أمر ولا نهي.
، وقد بايع الأتباع إمامهم بيعة كاملة في المنشط والمكره، وعاهدوه على السمع والطاعة.
يقول البنا أن الإمام أو الأمير من حقه أن يملي رأيه حتى على الأغلبية؛ فالإسلام لا يجعل من كثرة الأصوات ميزانًا للحق والباطل، فإنه من الممكن في نظر الإسلام أن يكون الرجل الفرد أصوب رأيًا وأحد بصرًا من سائر أعضاء المجلس
، ولم يكن حسن البنا يخفي ذلك على الناس، فهو لم يكن يقبل منهم بأقل من السمع والطاعة دون نقاش، ويصف البعض تأثير البنا على اتباعه قائلين؛ إن سيطرة البنا على أتباعه كانت مطلقة وكاملة وتصل إلى درجة السحر.
، وتصف إحدى الصحف تأثير البنا في تهكم واضح؛ إذا عطس المرشد في القاهرة، قال له الإخوان في أسوان يرحمكم الله.
، ويقول صالح عشماوي وكيل الجماعة؛ الأخ بين يدي مرشده كالميت بين يدي مغسله، يقلبه كيف يشاء، وليدع الواحد منا رأيه، فإن خطأ المرشد أنفع له من صوابه
، ولقد ترتب على البيعة بمفهوم البنا أنه ليس مسموحًا بالخلاف مع المرشد.
وكان للجهاز السرى محكمة تنعقد لمحاكمة من يعتبرهم الجهاز خصومًا للإخوان أو خونة في حق الوطن والدين، وحين تصدر هذه المحكمة حكمها فإنها تختار بضعة من الشباب تتراوح أعمارهم بين الثامنة عشرة والعشرين، وتعد حجرة تضاء بشموع قليلة ويطلق فيها البخور حتى تنعدم الرؤية، وتنطلق في أرجائها سحابة تضفى عليها رهبة المعبد وقداسته، ويؤمر الشباب بدخول الحجرة عند منتصف الليل بعد أن يخلعوا نعالهم، ليجدوا منصة مرتفعة قليلًا عن الأرض مفروشة بالسجاد، وعليها وسائد مغطاة بالسواد يتكئ عليها شيخ يرتدى قلنسوة سوداء عيناه نصف مغمضتين وبيده مسبحة طويلة فيجلسون أمامه، يمضى الشيخ في همهمته وتمتمته، ويدير حبات المسبحة والبخور ينطلق، والشيخ لا يزال مطرقًا لا ينظر إليهم، وعيون الشباب تختلس النظر إليه، ويستمر الشيخ في صلاته الخافتة قرابة نصف ساعة، فتتعطل حواس الشباب عن التفكير في أي شيء، حتى ينسوا أنفسهم، فيفتح الشيخ عينيه ويحدق فيهم طويلًا فتنحسر أبصارهم من الرهبة كأن له عينا يشع منها “مغناطيس” عجيب، إن تحديقه فيهم يخدرهم ويسلبهم القدرة على الحركة، بينما البخور يدغدغ إحساسهم، وكأنه يدخل رؤوسهم لتخيم سحبه على عقولهم، ويقوم الشيخ متثاقلًا ويقول لهم؛ حان وقت صلاة الفجر
، ويصلى ذاكرًا في صلاته آيات الذين يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون ولهم الجنة، تنتهي الصلاة ويصمت الشيخ برهة ثم تدوى منه صيحة عالية؛ هل أنتم على استعداد للاستشهاد في سبيل الله؟
، فيردون؛ نعم
، يقول الشيخ؛ وهل أنتم مستعدون لقتال أعداء الله؟
، فيقولون؛ نعم
، يقول الشيخ؛ هل تقسمون على الوفاء بالعهد؟
، فيقولون؛ نقسم
، فيقدم الشيخ المصحف ليقسموا عليه، فيقول؛ استودعكم الله وموعدنا الجنة
، فيخرجون وفى عزمهم شيء واحد… القتل!
ولا يتردد محمود عبد الحليم عضو الهيئة التأسيسية لجماعة الإخوان المسلمين وأول مؤرخ لتاريخ الجماعة في كتابه “الإخوان المسلمون أحداث صنعت التاريخ”، في الاعتراف والتبرير لاستخدام الجماعة العنف والإرهاب في الأحداث المروعة التي شهدتها القاهرة عام 1948، فيقول نصًا: إن الحكومة سدت المنافذ أمام الشباب لإنقاذ الوطن، فاضطر الشباب إلى المخاطرة باقتحام البيت من منافذ أخرى
، ويواصل قائلًا:
كانت أعمالًا بطولية رائعة قوضت فيها صرح الأمن الذي أقامه حاكم مصر للمستعمر ينعم فيها ويستمتع، ويكفي أن نسجل أن هذه الأعمال البطولية قد راح ضحيتها الكثيرون من عابري السبيل والبسطاء من هذا الشعب.(محمود عبد الحليم، الإخوان المسلمون: أحداث صنعت التاريخ)
وفي فيديو نادر للمستشار مأمون الهضيبي مرشد جماعة الإخوان المسلمين السادس، بتاريخ 8 يناير 1992 في مناظرة بمعرض الكتاب بين المفكر الراحل فرج فودة ومحمد أحمد خلف الله، دعاة الدولة المدنية، وفي المقابل الشيخ محمد الغزالي والدكتور محمد عمارة ومأمون الهضيبي، دعاة الدولة الدينية، والتي أدارها الدكتور سمير سرحان، فيفتخر المرشد بالتنظيم السرى قائلًا؛ أما عما نقوله عن الإرهاب والجهاز السري، نحن نفخر ونتقرب إلى الله بالجهاز السري.
، فتضج القاعة بالهتاف؛ الله أكبر ولله الحمد
، ويقول مهدي عاكف مرشد جماعة الإخوان المسلمين السابع عن النظام السري:
أن الأستاذ البنا قد أنشأه لمحو الأمية العسكرية في الشعب المصري، لأن كانت الأمية العسكرية في الشعب المصري طاغية وهو بلد محتل، فكانت مهمة النظام الخاص هو استكمال تربية الإخوان، فرسالة التعليم تهتم بتربيهم عقائديًا وتربويًا ورياضيًا إلى آخره، ناقص التربية العسكرية، فإنشاء النظام الخاص لتربية الإخوان؛ تربية عسكرية.
كيف تقيّم هذا المقال؟
← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←
المتوسط الحالي حسب تقييمات من القراء
كن أوّل من يقيّم هذا المقال
من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا
دعنا نعمل على تحسين ذلك
أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟
صدر للكاتب:
كتاب: ﻻ أحد يتعلّم من التاريخ ٢٠١٧
كتاب: ﻻ أحد يتعلّم من التاريخ [قيصر جديد] ٢٠١٨
كتاب: ﻻ أحد يتعلّم من التاريخ [صراع العروش] ٢٠٢٢
كتاب: ﻻ أحد يتعلّم من التاريخ [العملية ظافر] ٢٠٢٤
نحاول تخمين اهتماماتك… ربما يهمك أن تقرأ أيضا:
- التأله في تعاليم يوحنا ذهبي الفم نستعرض في هذا البحث الموجز الإشارات إلى عقيدة التأله والانجماع الكلي في المسيح في تعليم ق. يوحنا ذهبي الفم، أحد أهم الآباء اليونانيين الشرقيين، لتوضيح الفرق الكبير والعميق في تعليم ق. يوحنا ذهبي الفم عن تعاليم اللاهوت الغربيّ اللاتينيّ واللاهوت البروتستانتي الكالفيني الذي يسود عليه السمة الشرعية القانونية والقضائية العقابية. ويختلف تمامًا عن السمة الخلاصية......