المقال رقم 3 من 9 في سلسلة تاريخ الإخوان والسلطة

في عام 1937 اتسعت الهوة بين الملك الصغير والوفد بفضل على ماهر الذي لم ينجح فقط في استمالة الملك بعيدًا عن الوفد، وإنما نجح في صنع خلاف قوى بين فاروق من ناحية وبين النحاس والوفديين جميعًا من ناحية أخرى، وعندما طالب مصطفى النحاس بالحد من نفوذ الملك غير الدستورية على مؤسسات الدولة، حاول فاروق إقالة وزارة ، فخرجت جماهير الشعب تهتف؛ الشعب مع النحاس، فخرجت جموع الإخوان في المقابل تهتف؛ الله مع الملك في نفاق فج وانتهازية بلاد حدود، واضعين مصالحهم فوق كل اعتبار.

وأخذ باشا يشجع نوادي وجمعيات الشباب، وكان الهدف انتظام الأجيال القادمة تحت راية الملكية الوطنية المتطرفة، وكراهية الأجانب، والمفهوم التقليدي للإسلام في مواجهة التيارات ال وحزب الوفد خصوصًا، نظرًا لنفوذ لأقباط داخل الحزب، حيث كان باشا سكرتيرًا عامًا للوفد، ويبرق السفير البريطاني، اللورد كيلرن، إلى لندن مؤكدًا هذا الأمر قائلًا:

عمل على ماهر باشا بنشاط من وراء الكواليس لتأكيد سياسته الخاصة بالحركات المعادية للأجانب من خلال التنظيمات الإسلامية مثل جمعية الشبان المسلمين وحركة وجماعة وعدد آخر من الجمعيات الإسلامية الأقل شهرة والتى تمارس نشاطها في الخفاء.

(اللورد كيلرن، مذكرات اللورد كيلرن)

وأظهرت بعض التحقيقات الحديثة وجود علاقات ل بالألمان في بداية ، حيث قام البنا باستخدام كاريزماته القيادية في عام 1939 بتنظيم مظاهرات تندد بالبريطانيين وترحب بالألمان والإيطاليين، وذلك مقابل مبالغ مالية تقاضها البنا من الألمان، وكشفت وثيقة بتاريخ 18 أغسطس 1939 تم الكشف عنها في مكتب الدعاية النازية بمصر، ونُشرت بجريدة الأهرام بتاريخ 30 ديسمبر 2006، جاء فيها:

لقد أرسلت البعثة إلى حسن البنا مرة أخرى ذات المبلغ بذات الطريقة لكن الإخوان المسلمون طلبوا مزيدًا من المال رغم أنى سلمتهم مبلغ الألفي جنيه التي وصلت باسمهم من ألمانيا، والتي وعدناهم بها.

وفي نفس العام، وبعد ورود أخبار وصور عن رحلة الأسرة المالكة في أوربا وأمريكا، وعن تصرفات رأى الشعب أنها لا تليق بملكة زوجة ملك وأم ملك، خرج المصريون يهتفون لفاروق؛ ويكا يا ويكا، هات أمك من أمريكا تنديدًا بالسلوك المستهتر للأسرة المالكة، كان حسن البنا يكتب تحت عنوان؛ حامي المصحف الذي يبايعه الجميع، وعلى استعداد للموت بين يديه جنودًا للمصحف، وأن الله قد اختاره واصطفاه ملكًا ليثبت المعنى وينشر الدعوة، ويكمل البنا نفاقه مشيرًا إلى فاروق:

إلى أنه إذا كان قد ضم القرآن إلى قلبه ومزج به روحه، فإنه لا يخدم نفسه في الدنيا والآخرة فحسب ولكنه بذلك يضمن لمصر حسن التوجيه، ويحول بينها وبين العناد، ويقيمها على أفضل المناهج، ويسلك بها أقرب الطرق إلى كل خير، وهو في الوقت نفسه يضمن ولاء أربعمائة مليون من المسلمين في آفاق الأرض، وتشرئب أعناقهم وتهفوا أرواحهم إلى الملك الفاضل الذي يبايعهم على أن يكون حامي للمصحف، فيبايعونه على أن يموتوا بين يديه جنودًا للمصحف، وأكبر الظن أن الأمنية الفاضلة ستصير حقيقة ماثلة، وأن الله قد اختار لهذه الهداية العامة الفاروق، فعلى بركة الله يا جلالة الملك ومن ورائك أخلص جنودك.

(حسن البنا، النذير)

ويكمل البنا حديثه فيذكر أنه في أثناء رحلة فاروق للصعيد أخرج أحد المرافقين له فصًا أثريا وقال: إنه الذي يجلب له الحظ والخير، وأخرج آخر مفتاحًا وادعى نفس الادعاء، فما كان من فاروق إلاّ أن أخرج مصحفًا، وقال: إن هذا هو مفتاح كل خير عندي، وبعد ذلك الموقف بعام واحد، وفي 1938، ينافق حسن البنا مليكه في مقال بعنوان: الفاروق يحيي سنة الخلفاء الراشدين، وذلك على إثر خطبته في رمضان، التي حملت بين طياتها الترضية للجماعة فيما يختص بالسعي لخير مصر والأمم الإسلامية.

جاء زواج الملك سنة 1938 ليحدث ما يعكر صفو العلاقات بين جماعة الإخوان والملك، فقد عكفت الجماعة عن المشاركة في حفل الزواج لما حدث به من اختلاط ورقص وخمور في وقت كانوا ينادونه فيه بأمير المؤمنين، وانتقدت مجلة الإخوان المسلمون المفاسد التي جرت في حفل زفاف الملك، لكنها ألقت اللوم في ذلك على لأنه لا يحض الملك والحكومة على التزام الإسلام، وطالبته بالحرص على اللقب وحض الملك والحكومة على تطبيق شريعة الإسلام تحت عناوين؛ هدية الإخوان المسلمين إلى عرش مصر… إلى الأستاذ الأكبر، أهكذا تكون إمارة المؤمنين؟ وعادت الجماعة وأكدت عدم تخليها عن تأييد الملك والسعي معه لتحقيق أمنية الخلافة، وأعلنت صحيفتهم إنهم يهبونه الروح، ونشرت جريدة الإخوان في هذه الفترة عدة مقالات لكتاب تابعين للملك، وقد لقب أحدهم نفسه بـ المحرر العربي بالديوان الملكي الإسلامي

واستمرارًا لسياسة المغازلة بين حسن البنا والقصر، قام البنا بحشد فرق جوالة الجماعة، وهو على رأسهم بالطبع، في عرض عسكري لتأدية التحية للملك في أثناء أداءه لصلاة الجمعة في مسجد سيدي جابر بالإسكندرية، تقربًا من الملك وإظهارًا لقوة الإخوان للشعب، وفي ذكرى عيد الجلوس الملكي، رددوا يمين الولاء لفاروق في ميدان عابدين؛ نمنحك ولاءنا على كتاب الله وسنة رسوله، ويلاحق الإخوان تحركات فاروق فحين يتقرر عودته إلى القاهرة، يصدر مكتب الإرشاد العام أمره إلى جميع الفروع في الأقاليم ليصطف الأعضاء بأعلامهم وجوالتهم على المحطات التي يقف فيها القطار الملكي، لأداء فروض الولاء والاحتفاء بالطلعة المحبوبة.

ويكتب حسن البنا تحت عنوان ملك يدعو وشعب يجيب.. إلى جلالة الملك الصالح فاروق الأول من الإخوان المسلمين، ويرفع إليه صورة من المظاهر التي لا تتفق مع الإسلام من بؤر الخمور ودور الفجور وصالات الرقص وأندية السباق والقمار والمرأة السافرة المتبرجة، وكيف أن حدود الله معطلة، ويطلب البنا من فاروق أن يصدر أمرًا ملكيًا بألا يكون في مصر المسلمة إلا ما يتفق مع الإسلام.

فإنه مائة ألف شاب مؤمن تقي من شباب الإخوان المسلمين في كل ناحية من نواحي القطر ومن ورائهم هذا الشعب، كلهم يعملون في جد وهدوء ونظام يترقبون هذه الساعة… إن الجنود على تمام الأهبة، وإن الكتائب معبأه وقد طال بها أمد الانتظار.

(حسن البنا، النذير)

كان انتقال البنا إلى القاهرة إيذانًا بدخول الجماعة مرحلة جديدة من حيث عدد المنتمين إليها، ومواردها المادية، وشهرتها وشعبيتها ومريديها.

قد يبدو أن السياسة لم تكن من اهتمامات حسن البنا في السابق، حيث إن الجماعة قد نشأت كجماعة دعوية فقط، لكن الحقيقة كانت شيئًا آخر، فبريق السياسة قد أعمى البنا منذ اليوم الأول، بالرغم من نصح معلميه له بالابتعاد عن تعاطى السياسة لأن السياسة تفسد الدين والدين يفسد السياسة، لكن البنا ومنذ قيام حركته ظلت إحدى عينيه على الدين والأخرى على السياسة، وربما كان ذلك العامل هو الذي دفعه إلى أن يكون الوحيد من بين مؤسسي الحركات الدينية، الذي ظل يرتدى البدلة الإفرنجية والطربوش حتى يوم مماته، وبمجرد أن أشتد عود الجماعة وأصبحت ذات صيت وشأن في القطر المصري، زين له خياله إمكانية دخول المعترك السياسي من أنجح وأسهل أبوابه وهو باب النفاق والانتهازية، وبالرغم من إعلان البنا في السابق أن جماعته ليست حزبًا سياسيًا ولن تكون، فإن ذلك لم يمنعه هو وأتباعه من الضلوع في السياسة، والمشاركة في الانتخابات البرلمانية عندما تحين الفرصة كما سيأتي لاحقًا، وهنا يبرز الفارق بين جميع الحركات الإسلامية التي سبقت حركة الإخوان، وبين الإخوان المسلمين أنفسهم، فجميع الحركات الإسلامية في هذا الوقت اقتصرت على الدين ولكن جماعة الإخوان وحدها اشتغلت بالسياسة منذ اللحظة الأولي لنشأتها حتى غطت الطبيعة السياسية للجماعة على نشاطها الديني.

كان الشيخ حسن البنا حريصًا على اظهار جماعته كجماعة دعوية تعمل بأسلوب الحكمة والموعظة الحسنة، إلا أنه في مايو 1938، ومع ظهور العدد الأول من مجلة الإخوان الرسمية الأسبوعية؛ النذير، وبالتزامن مع بلوغ شعب الجماعة 300 شعبة، خرج البنا عن طمأنته السابقة للأحزاب بأن الجماعة ليست طرفًا سياسيًا، وأعلن عن التحول من دعوة الكلام وحده، إلى دعوة الكلام المصحوب بالنضال والأعمال، وشدد أن الجماعة ستخاصم جميع الأحزاب والزعماء خصومة لا سلم فيها ولا هوادة معها، وجاءت حجة تبني الإخوان للعمل السياسي بحجة تنافر الأحزاب مصرحًا بأنه في حالة تخلف قادة الشعب عن تولي الأمور فأنه سيتقدم ليقود الشعب.

وطرح البنا أول مرة الشعار الإخواني الشهير؛ الإسلام دين ودولة.. ومصحف وسيف، وفي ذلك العدد من النذير كان عنوان المقال الرئيس الذي كتبه البنا ووقعها بتوقيعه وصفته كمرشد عام للجماعة هو؛ خطوتنا الثانية إلى الأمام دائمًا، الدعوة الخاصة بعد الدعوة العامة.. أيها الإخوان تجهزوا، في هذا المقال قال البنا نصًا:

إن دعوة الإخوان بدأت منذ عشر سنين، وكانت مصر يوم أن نبتت هذه الدعوة المجددة لا تملك من أمر نفسها قليلًا ولا كثيرًا، يحكمها الغاصبون، أصبح للإخوان دار في كل مكان، والآن قد حان وقت العمل، وآن أوان الجد، ولم يعد هناك مجال للإبطاء، فإن الخطط تُوضع، والمناهج تُطبّق، سننتقل من حيز دعوة العامة إلى حيز دعوة الخاصة، أيضًا ومن دعوة الكلام وحده، إلى دعوة الكلام المصحوب بالنضال والأعمال، وسنتوجه من المسؤولين من قادة البلد وسندعوهم إلى منهاجنا، إلى الآن أيها الإخوان لم تخاصموا حزبًا وهيئة، كما أنكم لم تنضموا إليهم، ولقد تقول الناس عليكم، فمن قائل إنكم وفديون نحّاسيون، ومن قائل إنكم سعديون ماهريون، ومن قائل أنكم أحرار دستوريون، ومن قائل أنكم بالحزب الوطني متصلون، ومن قائل أنكم إلى مصر الفتاة تنتسبون، إنكم من كل ذلك بريئون.

(حسن البنا، النذير)

وحدد برنامجه فقال؛ كان موقفكم أيها الإخوان سليبًا فيما مضى، أما اليوم في هذه الخطوة الجديدة فستخاصمون هؤلاء جميعًا، في الحكم وخارجه، خصومه شديدة، ولكن الإخوان الذين أعلنوا أنهم يخاصمون الأحزاب كلها استثنوا الملك بالطبع، فقال البنا في ختام مقاله:

إن لنا في جلالة الملك المُسلم -أيّده الله- أملًا محققًا، وفي الشعب المصري الذي صقلته الحوادث ونبهته التجارب ومعه الشعوب الإسلامية المتآخية بعقيدة الإسلام، نظرا صادقاً.

(حسن البنا، النذير)

ثم أتى المؤتمر العام الخامس للجماعة في يناير 1939، وهو الأهم والأضخم في تاريخ الجماعة، الذي تزامن مع مرور عشرة سنوات على إنشاء الجماعة، وهو الذي أعلن فيه البنا تبنى الإخوان للعمل السياسي وإعادة تنظيم الجماعة وأوضح نصًا أن جماعة الإخوان المسلمين دعوة سلفية، وطريقة سنية، وحقيقة ، ومنظمة سياسية، وجماعة رياضية، ورابطة علمية ثقافية، وشركة اقتصادية، وفكرة اجتماعية

وتأرجحت علاقة الإخوان بالتيارات والأحزاب السياسية بين وفاق وشقاق وفقًا للمصلحة، كما اتبع الإخوان سياسة الإقصاء والمحاربة لمختلف التيارات طمعًا في انفرادهم بالساحة السياسية، فقام الإخوان باتهام مصر الفتاة بالتناقض وأدانوا تغيير انتماءاتهم الفكرية، دون الالتفاف إلى تناقضهم هم ذاتهم، حيث تبني حزب مصر الفتاة برنامج سياسي ذو طابع إسلامي رافعًا شعار؛ مصر فوق الجميع، فأتهمهم الإخوان بتقليد الفاشية والنازية لأنهم -أي النازيين- أول من رفعوا شعار “ألمانيا فوق الجميع” مستنكرين عليهم ولائهم لمصر، مطالبين إياهم بتغيير الشعار ليكون؛ الإسلام فوق الجميع

كيف تقيّم هذا المقال؟

← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←

المتوسط الحالي حسب تقييمات من القراء

كن أوّل من يقيّم هذا المقال

بما أن المقال أعجبك..

ربما اﻷفضل مشاركته مع دوائرك كي يحظى بانتشار أوسع

من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا

دعنا نعمل على تحسين ذلك

أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟

جزء من سلسلة: تاريخ الإخوان والسلطة[الجزء السابق] 🠼 ما بين العنف والنفاق[الجزء التالي] 🠼 نشأة النظام الخاص
بيشوي القمص
[ + مقالات ]

صدر للكاتب:
كتاب: ﻻ أحد يتعلّم من التاريخ ٢٠١٧
كتاب: ﻻ أحد يتعلّم من التاريخ [قيصر جديد] ٢٠١٨
كتاب: ﻻ أحد يتعلّم من التاريخ [صراع العروش] ٢٠٢٢
كتاب: ﻻ أحد يتعلّم من التاريخ [العملية ظافر] ٢٠٢٤