المقال رقم 1 من 9 في سلسلة تاريخ الإخوان والسلطة

في مطلع القرن العشرين كان العالم الإسلامي لا يزال في عنفوان صدمة إسقاط الخلافة العثمانية الإسلامية على يد مصطفى عام 1924، الأمر الذي أدى إلى ردة فعل عكسية لدى الأمة الإسلامية التي اعتادت على وجود دولة الخليفة والخلافة، حتى لو كانت هي نفسها دولة الظلم والاستعباد، ففي حقيقة الأمر أن دولة الخليفة العثماني لم تكن إلا دولة استعمارية تعيش على الجزية المسلوبة من الدول التابعة لها، هي فقط مغلفة بإطار ديني، ونتيجة لأسقاط الخلافة العثمانية بدأت فكرة الخلافة تداعب أحلام الكثيرين في كل البقاع الإسلامية بعد إلغاءها في الآستانة، ليصبحوا هم الخليفة الجديد ليحلوا محل الخليفة المطاح به.

أكثر من داعبه هذا الحلم كان السلطان فؤاد الذي أصبح فيما بعد ال، الذي حاول أن يستخدم الأزهر بثقله العالمي الكبير لفرض نفسه خليفة للمسلمين، في نفس الوقت الذي حاول كثيرون الوصول لنفس المنصب مثل أمير الأفغان وأمير مكة وغيرهم، فأنفرط عقد المؤتمر الذي دُعي إليه لاختيار الخليفة الجديد دون أن يبدأ. سبب أخر لفشل تولى الملك فؤاد لمنصب خليفة المسلمين، هو مقاومة المستنيرين الذين خرجوا من عباءة الأزهر نفسه مثل الشيخ على عبد الرازق القاضي بمحكمة المنصورة الشرعية الذي ألف كتابه الأشهر “الإسلام وأصول الحكم” الذي صدر في 1925م، وقد أحدث الكتاب ضجة في مصر بسبب رفضه لفكرة الخلافة والدعوة إلى مدنية الدولة، وقد أدى هذا الكتاب إلى معارك سياسية ودينية كبيرة، حتى قامت هيئة كبار العلماء في الأزهر بمحاكمة وأخرجته من زمرة العلماء وفصلته من العمل كقاضي شرعي بناءًا على طلب الملك من الأزهر.

وتمت مصادرة الكتاب، لكي يضمن فؤاد استمرار خطته في عودة الخلافة، ووجهت الهيئة للشيخ على عبد الرازق سبع تهم تتهمه هو وكتابه بالضلال، وقامت معارك شرسة بين منافقي الملك الذين تباروا في الدفاع عنه واثبات حقه في تولى الخلافة وأشهرهم الإمام الأكبر محمد الخضر حسين في كتابه “نقض كتاب الإسلام وأصول الحكم” الذي صدر عام 1926، ومفتي الديار المصرية محمد بخيت المطيعي في كتابه “حقيقة الإسلام وأصول الحكم” الذي صدر في عام 1926 أيضًا من ناحية، وبين المستنيرين الذين دافعوا عن الكتاب، منهم الدكتور حيث كتب مقالًا شديد السخرية في جريدة السياسة يسخر من قرار فصل على عبد الرازق، واستقال عبد العزيز فهمي من وزارة الحقانية في وزارة زيور باشا في 13 مارس 1925 م احتجاجًا على الظلم، ووقف إلى جوار علي عبد الرازق، وكذلك دافع عباس محمود العقاد عن عبد الرازق في مقال في صحيفة البلاغ، وكتب سلامة موسى مقالًا في جريدة المقتطف دافع فيه عن حرية الفكر والإبداع ورفض الرقابة الفكرية من ناحية أخرى.

لم يكن الملك فؤاد وحده هو الذي يحلم أن يكون خليفة المسلمين، بل كان هناك من راوده نفس الحلم ورغب في المنصب ذاته، ، وربما كانت تلك الرغبة من أكبر العوامل التي دفعت بالمدرس الفتى حسن البنا لتأسيس جماعته آملًا في أن يعيد بها الخلافة المنهارة ويصبح هو خليفة المسلمين، وهكذا كان سقوط الخلافة سببًا في ظهور كل الحركات الإسلامية الراديكالية المعاصرة في العالم العربي.

ولد حسن البنا في 17 أكتوبر 1906 في مدينة المحمودية التابعة لمحافظة البحيرة إحدى محافظات مصر لأسرة بسيطة، فقد كان والده أحمد عبد الرحمن البنا مأذونًا وإمامًا لمسجدها، كما كان يعمل بتصليح وبيع الساعات، ولكن دخله من تلك المهنة لم يكن يفي احتياجات الأسرة بعد قدوم الأبناء وزيادة الأعباء، فزين له البعض أن يفتتح محل بقالة، ولكنها كانت تجربة فاشلة خسر فيها الشيخ كثيرًا ، وعندما فكر مرة أخرى في عمل إضافي اختار تجليد الكتب.

في تلك الأسرة الفقيرة وتلك الظروف السيئة نشأ حسن البنا، ويبدو أن مقومات الزعامة والقيادة كانت متوفرة لديه منذ الصغر، ربما لتعويض العوز أو الحاجة، ففي مدرسة الرشاد الإعدادية كان متميزًا بين زملائه ومرشحًا لمناصب القيادة بينهم، حتى أنه عندما تألفت جمعية الأخلاق الأدبية، وقع اختيار زملائه عليه ليكون رئيسًا لمجلس إدارة هذه الجمعية، غير أن تلك الجمعية المدرسية لم ترض فضول هذا الناشئ وزملائه المتحمسين، فأنشؤوا جمعية أخرى خارج نطاق مدرستهم سموها؛ جمعية منع المحرمات، وكان نشاطها مستمدًا من اسمها، وكانت طريقتهم في منع المحرمات هي إرسال خطابات تهديد لكل من تصل إلى الجمعية أخباره بأنه يرتكب الآثام ولا يحسن أداء العبادات كنوع من ممارسة الحسبة.

ثم تطورت الفكرة لاحقًا بعد أن التحق بمدرسة المعلمين بدمنهور فأنشأ الجمعية الحصافية الخيرية التي زاولت عملها في حقلين مهمين؛ الأول هو نشر الدعوة إلى الأخلاق الفاضلة ومقاومة المنكرات والمحرمات المنتشرة، والثاني هو مقاومة الإرساليات التبشيرية والتي رأى فيها البنا أنها اتخذت من مصر موطنًا تبشر فيه بـالمسيحية تحت ستار التطبيب وتعليم التطريز وإيواء الطلبة، مع أن الإرساليات التبشيرية المسيحية لم تكن تستهدف المسلمين أصلًا، بل كانت تستهدف المسيحين من الطائفة الأرثوذكسية الطائفة الأم في مصر لتحويلهم للطائفة الكاثوليكية.

بعد انتهائه من الدراسة في مدرسة المعلمين، انتقل البنا إلى القاهرة وانتسب إلى مدرسة دار العلوم العليا ثم اشترك في جمعية مكارم الأخلاق الإسلامية، وكانت الجمعية الوحيدة الموجودة بالقاهرة في ذلك الوقت، ويبدو أن فكرة تأسيس جماعة الإخوان قد تبلورت في رأسه أول ما تبلورت وهو طالب بدار العلوم، فقد كتب موضوعًا إنشائيًا كان عنوانه “ما هي آمالك في الحياة بعد أن تتخرج؟”، قال فيه:

إن أعظم آمالي بعد إتمام حياتي الدراسية؛ أمل خاص وأمل عام، فالخاص هو إسعاد أسرتي وقرابتي ما استطعت إلى ذلك سبيلًا، والعام هو أن أكون مرشدًا معلمًا أقضي سحابة النهار في تعليم الأبناء وأقضي ليلي في تعليم الآباء أهداف دينهم ومنابع سعادتهم، تارة بالخطابة والمحاورة، وأخرى بالتأليف والكتابة، وثالثة بالتجول والسياحة.

(حسن البنا)

وحصل البنا على دبلوم دار العلوم العليا سنة 1927 ولقب بـحسن الدرعمي نسبة لكلية دار العلوم، وعين معلمًا للخط العربي بمدرسة الإسماعيلية الابتدائية الأميرية في سبتمبر من نفس العام.

لم يكن إنشاء جماعة الإخوان المسلمين وليد اللحظة، بل سبقها ظهور جماعات وتيارات دينية كثيرة أشهرها جمعية الشبان المسلمين التي نشأت في نهاية 1927، والتي ساندها البنا عندما كان يعمل مندوبًا محليًا لمجلة الفتح الناطقة بلسان التجمعات الإسلامية المحافظة التي أشرف على تحريرها محى الدين الخطيب مدير المكتبة السلفية وأحد مؤسسي جمعية الشبان المسلمين، وهو نفسه الذي عمل وسيطًا مع الشيخ اللبناني الأصل وصاحب مجلة المنار بين الدولة السعودية الناشئة حديثًا في شبه الجزيرة العربية وبين حسن البنا لنشر الفكر الوهابي في مصر مقابل إمداده بالدعم اللازم المادي والمعنوي بدلًا من سفره للعمل في السعودية، إذ وجدوا أن وجوده في مصر أكثر إفادة للدولة الناشئة.

كانت الإسماعيلية بداية الانطلاقة الحقيقية لحسن البنا والميلاد الفعلي لجماعة الإخوان المسلمين، ففي مجتمع الإسماعيلية شرع البنا في نشر آرائه عن طريق التعليم والإرشاد والدعوة واستغلال كل الموارد والوسائل المتاحة في ذلك المجتمع لجذب الناس له ولدعوته، بدءًا من المسجد وانتهاءًا بالمقهى، كان أسلوب الدعوة على المقاهي مبتكرًا فهو لا ينتظر أن يأتي المستمعين إلى المسجد بل قرر أن يذهب هو اليهم، فأختار البنا ثلاث مقاه يتردد على كل منها مرتين أسبوعيًا ليعظ الناس التي ما تأتى إلى المساجد، واستطاع حسن البنا أن يجتذب إليه الناس ببساطته وتبسطه بدعوته وعظاته حتى عرفه الناس على انه الإمام المعلم، وساعده على ذلك طبيعة الإسماعيلية كبلدة صغيرة ترزح تحت نير الاستعمار البريطاني وتعج بالأجانب الذي كان المصريون ينفرون من تحررهم، كما استطاع البنا أن يحدد العوامل المؤثرة في هذا المجتمع والتي حددها بأربعة :العلماء ثم مشايخ الطرق ثم الأعيان ثم رواد الأندية.

وبفضل تأثير محاضرات البنا، حضر إليه ستة من عمال المعسكرات ممن تأثروا به وبدعوته من أهالي الإسماعيلية يوم الجمعة 23 مارس 1928 وهم حافظ عبد الحميد (نجار)، أحمد الحصري (حلاق)، فؤاد إبراهيم (مكوجي)، عبد الرحمن حسب الله (سائق)، إسماعيل عز (جنايني) وزكي المغربي (عجلاتي)، ليهنئون بأول أيام العيد الفطر ويعاهدون ابتداء من ذلك اليوم على العمل للإسلام والمسلمين، فقد وجدوا في الدين خلاصًا من الاحتلال البريطاني، فحدوثه في شأن الطريق العملي الذي يجب أن يسلكوه لنصرة الإسلام والعمل لخدمة المسلمين، وعرضوا عليه ما يملكون من مال بسيط، وأقسموا له على الطاعة والولاء. ويلاحظ أنهم جميعًا من بسطاء القوم ومن غير المتعلمين ممن تسهل قيادتهم بسهولة، وقال قائلهم “بم نسمى أنفسنا؟ وهل نكون جمعية أو ناديًا، أو طريقة أو نقابة حتى نأخذ الشكل الرسمي؟” ، فأجابه البنا؛ لا هذا ولا ذاك، دعونا من الشكليات ومن الرسميات، نحن إخوة في خدمة الإسلام، فنحن إذن .

وأوضح البنا لجماعته الوليدة انهم يحتاجون لأجيال ثلاثة لتنفيذ خططهم، الجيل الأول؛ يستمع، أي جيل التكوين، الجيل الثاني؛ يحارب، يقصد جيل التنفيذ، والجيل الثالث؛ ينتصر، يعنى أنه الذي يقطف ويجنى الثمار، وبحماس لا يهدأ بدأ البنا بإعداد الجيل الأول، وخلال عامين كان البنا قد أنشأ شعبًا للجماعة حول الإسماعيلية وبور سعيد والعريش، وخلال أربع أعوام من تأسيس الجماعة، كان البنا قد تمكن من تأسيس عدة فروع للجمعية على امتداد منطقة شرق الدلتا بالإضافة إلى السويس وأبو صير، حتى بلغ عدد فروع الجمعية عشرة.

وجاءت أولى التبرعات للكيان الوليد من شركة قناة السويس وهو مبلغ خمسمائة جنيه للمساهمة في إنشاء مسجد، لكن بعض المخلصين من أتباعه قد فزعوا بشأن جواز قبول تبرع من شركة استعمارية كشركة قناة السويس، وحول جواز بناء مقر للجماعة ومسجد بهذا المال، فيقرر الشيخ أن تلك الأموال لن يبنى بها المسجد لأنها “مال كفار” لكن يمكن أن يبنى بها مقر للجماعة، ويحكى البنا في مذكراته عن تلك الواقعة تحت عنوان “فقه أعوج” ما نصه:

وثارت ثائرة المغرضين حين علموا هذا النبأ، وانطلقت الإشاعات تملأ الجو، الإخوان المسلمون يبنون المساجد بمال الخواجات؟، وآزرتها الفتوى الباطلة ممن يعلم وممن لا يعلم، كيف تصح الصلاة في هذا المسجد وهو سيُبنَى بهذا المال؟ ، وأخذنا نقنع الجمهور بأن هذه خرافة، فهذا مالنا لا مال الخواجات، والقناة قناتنا، والبحر بحرنا، والأرض أرضنا، وهؤلاء غاصبون في غفلة من الزمن، وأراد الله أن يكون المسجد قد تمَّ والحمد لله، فلم توضع فيه أموال الخواجات، ووضعت في دار الإخوان المسلمين بالذات، وكان الله على كل شيء قديرًا، وبذلك سكنت الثائرة وانطفأت الفائرة، وهكذا يكون الفقه الأعوج، ولله في خلقه شؤون.

(حسن البنا)

بذلك أعتمد البنا مبدأ “اللا مبدأ” كمبدأ لجماعته، فهو يهاجم الاحتلال والإنجليز وشركة القناة في نفس الوقت الذي يقبل منهم التبرعات المادية.

كيف تقيّم هذا المقال؟

← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←

المتوسط الحالي حسب تقييمات من القراء

كن أوّل من يقيّم هذا المقال

بما أن المقال أعجبك..

ربما اﻷفضل مشاركته مع دوائرك كي يحظى بانتشار أوسع

من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا

دعنا نعمل على تحسين ذلك

أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟

جزء من سلسلة: تاريخ الإخوان والسلطة[الجزء التالي] 🠼 ما بين العنف والنفاق
بيشوي القمص
[ + مقالات ]

صدر للكاتب:
كتاب: ﻻ أحد يتعلّم من التاريخ ٢٠١٧
كتاب: ﻻ أحد يتعلّم من التاريخ [قيصر جديد] ٢٠١٨
كتاب: ﻻ أحد يتعلّم من التاريخ [صراع العروش] ٢٠٢٢
كتاب: ﻻ أحد يتعلّم من التاريخ [العملية ظافر] ٢٠٢٤