حيث تكون الكنيسة، يكون روح الله؛ وحيث يكون روح الله، تكون الكنيسة، ويكون ملء النعمة.

(القديس ، أسقف ليون، القرن الثاني الميلادي)

يعكف صديقي السكندري؛ د. جرجس كامل يوسف، على ترجمة جديدة لكتاب “كنيسة الروح القدس” للأب نيقولا آفانا سييف، من الكنيسة الأرثوذكسية الروسية، وقد أرسل لي مقتطف مما ورد بهذا الكتاب في تعريف الكنيسة:

إن اسمَ الكنيسةِ ذاته، الذي نجدُه منذ أقدمِ العصورِ لوجودها، يشيرُ ضمنًا إلى فكرةِ وجودِ جماعةٍ منظمةٍ من الناسِ؛ ليسوا رعاعًا أو حشدًا يتحدى أيَ نظامٍ أو هيكل. لم يكُن من الممكن أن يقبلَ العقلُ المسيحيُ مصطلحَ “كنيسة” لو كانت الحياة الكنسية للكنيسة الأولى تسترشدُ بالفوضى وغياب أية سلطة. لقد تم تحديدُ محتوياتِ هذا المصطلحِ بدقةٍ تامة، لدرجةِ استبعادِ أي غموضٍ فيما يتعلقُ بمعناه.

الكنيسة ekklêsia هي كنيسة لأنها جماعة شعبِ اللهِ في المسيح، وليست جماعة عشوائية أو تجمعَ مسيحيين اجتمعوا بالصدفة. ما يظهرُ الكنيسة كاجتماعٍ في المسيحِ هو الاجتماعُ الإفخارستي، لأن المسيحَ حاضرٌ فيه. الوصية الأخيرة التي أعطاها المسيحُ للرسلِ قبلَ آلامه اصنعوا هذا لذكري [1]. لا يمكنُ أن تشيرَ إلى تجمعاتٍ عشوائية لأتباعه، بل إلى شعبِ اللهِ الجديدِ الذي صنعَ معه العهدَ الجديد بدمِ ابنه.

(د. جرجس كامل يوسف، كنيسة الروح القدس)

وعندما عدت لمقدمة الكتاب -في ترجمة سابقة- وجدت الأب نيقولا يؤكد في تقديمه على أن:

إنّ أساس الكنيسة الوحيد هو الروح القدس، فالكنيسة جسم مواهبي، لا لأنها أخذت يومًا ما عطايا الروح القدس وحفظتها في أحشائها كما يُحفظ الكنز المخبَّأ، ولا لأن الكثيرين يأخذون منها موهبة، بل لأنها تحيا وتُفّعل بالروح، ولأنها مكان عمله. فلا حياة في الكنيسة ولا عمل داخلها ولا كهنوت إلاَّ بالروح، ومن دونه لا توجد كنيسة. فقد أنشأها الرب في العشاء السري ثم جعلها حقيقة لما أرسل روحه بمجد على تلاميذه في العنصرة، ومنذ ذلك الحين يسكن الروح في الكنيسة وتعيش الكنيسة بالروح. فـ “كنيسة الله في المسيح” هي كنيسة الروح القدس، كما في عصر الآباء كذلك اليوم.

(الأب نيقولا آفانا سييف، كنيسة الروح القدس، ترجمة د. جرجس كامل يوسف)

ويختتم الأب نيقولا مقدمته بفقرة قد تكون صادمة لكنها صادقة:

إننا نعيش في عصر صعب إلى أبعد حد، وإذا أراد أحد أن يطلق أيّ اتهام لحياتنا الكنسية فإنه لن يستطيع أن يبرئ نفسه، فكلنا مسؤولون. نحن نعلم أن ثمة عصورًا كعصرنا كانت فيه الكنيسة مشوشة، وكانت حروب وانشقاقات واتهامات متبادلة ووشايات وضغوطات، ولكن ثمة فارقًا بين ما كان حاصلًا وبين ما يحصل اليوم. فالحروب العقائدية كانت دائمًا أساس الاضطرابات التي يذكرها التاريخ، بينما في عصرنا تنتشر الأهواء البشرية في وضح النهار، ودون أن تخجل أو تتقنع بالنزاعات العقائدية. إن حياتنا الكنسية تسير في طريق مسدود.

(الأب نيقولا آفانا سييف، كنيسة الروح القدس، ترجمة د. جرجس كامل يوسف)

ويواصل الكاتب موضحًا:

ثمة مبادئ عرفناها منذ أمد بعيد تُنتهك اليوم ولا تقود إلا للعجز؛ فنحن ننظر للكنيسة كأنها منظمة خاضعة للأنظمة البشرية وخادمة للغايات البشرية، لأن الإرادة البشرية هي التي تسيطر عليها بالدرجة الأولى. وهذه الإرادة -الغريبة عنها- تحاول أن تجعل من كنيسة الله وسيلة للوصول إلى غايتها الخاصة.

(الأب نيقولا آفانا سييف، كنيسة الروح القدس، ترجمة د. جرجس كامل يوسف)

ويستطرد الكاتب:

إنّ المؤرخ، خاصة إذا كان مؤرخًا للكنيسة، لا يحيا خارج الزمن. ويجب أن يخدم عمله الكنيسة، إذا كان يعتبره مهمة كنسية، أفلا يجب عليه إذن أن يتذكر في مؤلفاته أن للكنيسة مبادئ خاصة:
• أنها ليست منظمة بشرية بل مقام إلهي،
• وأن الإرادة الإلهية لا الإرادة البشرية هي المؤثرة فيها بواسطة الروح القدس؛
• وأنها تحيا وتعمل بمواهب الروح التي يوزعها الله بغير حساب،
• وأننا نحن “مواطنون في السماء ومنها ننتظر مخلصنا الرب يسوع المسيح” [2].

أفلا يجب أن نتذكر، في رتابة حياتنا اليومية، أنه “حيث تكون الكنيسة يكون روح الله؛ وحيث يكون روح الله تكون الكنيسة، ويكون ملء النعمة.”؛ وأن الكنيسة هي كنيسة الروح القدس، وأنها رغم وجودها في الزمن تنتمي إلى “بداية الأيام الأخيرة”.

(الأب نيقولا آفانا سييف، كنيسة الروح القدس، ترجمة د. جرجس كامل يوسف)

ولعل القارئ يراجع كلمة القديس بطرس في يوم الخمسين واستعارته لنبوة يوئيل النبي [3].

دعونا نقترب من كنائس أفريقيا، وتحديدًا كنيسة شمال أفريقيا من ليبيا إلى المغرب وموريتانيا، ومن أهم ما يرتبط بها أنها انجبت قديسين عظماء ولاهوتيين نبغاء أمثال وس و و.

وفى عام 411 م انعقد (حاليًا مدينة قرطاج وتقع في الشمال الشرقي لتونس) وحضره نحو 547 أسقفًا (!!)

وقد سقطت قرطاجة في يد العرب عام 696م، الذين اجتاحوا إسبانيا عام 710م.

وقد طرح كتاب “أسباب زوال الكنيسة في أفريقيا الشمالية بعد الفتح العربي” تأليف الأب بولس دي سيزييه اليسوعي، تعريب الأب كميل حشيمة اليسوعي، وهو يردها إلى صراع المملكة الفاندالية في قرطاج (وكانوا من اتباع بدعة ) مع ، وجحد الكثيرون الإيمان، حتى زال عهد الفاندال بعد مضى نحو قرن (533م)، ولم يمض قرن أخر حتى احتل العرب شمال أفريقيا بدءًا من ليبيا في القرن السابع (643م.) ثم سقطت قرطاجنة (696م.) ليتم اجتياح إسبانيا (710م.).

يستعرض الكاتب عديد من الأسباب والصراعات بين القوى الدولية آنذاك ثم يقول:

يضاف إلى الأسباب السابقة أن المسيحيين في شمال أفريقيا كانوا ميالين إلى المشاحنات والتحزبات. فالقرن السادس كان مليئًا بالنزاعات الدينية الحادة، وقام أصحاب البدع بشق الصفوف، وراح الأفارقة -في شمال أفريقيا- وهم التواقون أبدًا إلى الثورة على السلطة المركزية يهاجمون الإمبراطور ويتهمونه بالهرطقة.

(الأب بولس دي سيزييه اليسوعي، أسباب زوال الكنيسة في أفريقيا الشمالية بعد الفتح العربي، ترجمة الأب كميل حشيمة اليسوعي)

فكان التفكك والصراع هو أفضل تمهيد للاجتياح العربي.

يتساءل الكاتب هل كان للبنية الكنسية دورها في اضمحلال المسيحية هناك؟ ويجيب:

مما لا شك فيه أن مطالعة الوثائق تظهر أهمية الدور الذي قام به الأساقفة والمكانة التي كانت لهم. فالانطباع السائد فيها هو أن الكنيسة هي الأساقفة ومؤسساتهم، وأن الجماعة هي الأسقف. لذلك كان الأساقفة هم المستهدفون من الفرق المنشقة على الكنيسة وقتها، وقتلوا أعدادا كبيرة من الأساقفة، حتى زوال دولة الفندال (533م.)

(الأب بولس دي سيزييه اليسوعي، أسباب زوال الكنيسة في أفريقيا الشمالية بعد الفتح العربي، ترجمة الأب كميل حشيمة اليسوعي)

يذكر الكاتب أن تلك الاضطرابات هبطت بالكنيسة إلى أدنى المستويات، ولما استقر العرب في شمال أفريقيا كانت الإيبارشيات لا تتعدى الأربعين (من اصل أربعمائة)، فهل يعود الخلل إلى تضخم التنظيم الأسقفي وطغيان التراتبية فيه، بحيث أنه لما زال زالت معه حيوية الكنيسة في شمال أفريقيا، وبقيت الجماعات المسيحية مستفردة لا تقوى على تأمين تضامن لابد منه؟ يواصل الكاتب:

ومع انعدام الأساقفة ما لبثت الكنيسة أن تفككت أوصالها وتقلص ظلها حتى لم يعد لها في البلاد مع بروز القرن الحادي عشر سوى أساقفة ثلاثة.!!

(الأب بولس دي سيزييه اليسوعي، أسباب زوال الكنيسة في أفريقيا الشمالية بعد الفتح العربي، ترجمة الأب كميل حشيمة اليسوعي)

ومع ذلك -بحسب الكاتب- تستمر المشاحنات بين الفرق المسيحية المتناحرة، ويبدو، كما يرصد الكاتب، أن كل تلك المنازعات قد امتصت آخر قوى الفكر والبحث في كنيسة أفريقيا الشمالية، ولم يعد لأمثال ترتليانوس وكبريانوس وأوغسطينوس من وجود، وقد هاجر المثقفون إلى صقلية وإيطاليا.

ويختتم الكاتب طرحه الذي تناول أسباب اضمحلال كنيسة شمال أفريقيا بقوله:

إن انكفاء الجماعات المسيحية -على ذاتها وعزلتها- لم يكن على الصعيد العددي بقدر ما كان على الصعيد الفكري والثقافي. فقد باتت تلك الجماعات غير قادرة على أن تجد في ذاتها المقومات الروحية والمادية الكفيلة بتأمين بقائها على قيد الحياة، كما أنها انعزلت انعزالًا تامًا عن المصادر الأوروبية والمشرقية، واستطاع الموحدون المتزمتون القضاء عليها بلا شديد عناء، فماتت بسبب ضعفها الناتج عن جوعها.

(الأب بولس دي سيزييه اليسوعي، أسباب زوال الكنيسة في أفريقيا الشمالية بعد الفتح العربي، ترجمة الأب كميل حشيمة اليسوعي)

عبر كتابين احسبهما مهمين في الإشكالية التي نتناولها، وهى محاولة الإجابة على السؤال المزعج هل يمكن لكنيسة أن تنتحر؟

فالأول يحلل الجانب اللاهوتي بشكل من الأشكال؛ ويشرح دور الروح القدس في تأسيس وبنيان الكنيسة برؤية أرثوذكسية، ويضبط تعريف الكنيسة وخطورة اعتبارها مؤسسة خاضعة للأنظمة البشرية وخادمة للغايات البشرية، لأن ذلك ينتهى بنا إلى كنيسة مشوشة، تفترسها حروب وانشقاقات واتهامات متبادلة ووشايات وضغوطات، بين الفرقاء داخلها.

والثاني، يحاول أن يجمع، عبر جهد شاق، الأسباب التي انتهت بكنيسة قدمت للمسيحية قديسين عظماء ولاهوتيين نبغاء أمثال ترتليانوس وكبريانوس وأوغسطينوس، آثروا الفكر المسيحي بشكل لا يمكن إغفاله، إلى الاندثار.

وأهمية هذا الكتاب أنه بقلم احد أفطاب الرهبنة اليسوعية والتابعة للكنيسة الكاثوليكية، عن كنيسة كانت تقع في نطاق ، واستطاع أن ينجو من فخاخ الاستقطاب والدفاع عن كنيسته بشكل قبلي، ليغسل يدها من مسئولية هذا الاضمحلال الذي لحق بتلك الكنيسة التاريخية.

دعونا نستكمل، في جزء ثالث وأخير، الإفصاح عن المخاطر التي يمكن أن تجرفنا إلى مصير مؤلم. لا نتمناه ولا نسلم به لكنيستنا.

هوامش ومصادر:
  1. كورنثوس الأولى 11: 24 [🡁]
  2. فيلبي 3 : 20 [🡁]
  3. أعمال الرسل 2 : 14-21 [🡁]

كيف تقيّم هذا المقال؟

← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←

المتوسط الحالي حسب تقييمات من القراء

كن أوّل من يقيّم هذا المقال

بما أن المقال أعجبك..

ربما اﻷفضل مشاركته مع دوائرك كي يحظى بانتشار أوسع

من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا

دعنا نعمل على تحسين ذلك

أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟

كمال زاخر
كاتب ومفكر قبطي في التيار العلماني المصري  [ + مقالات ]

صدر للكاتب:
كتاب: : صراعات وتحالفات ٢٠٠٩
كتاب: قراءة في واقعنا الكنسي ٢٠١٥
كتاب: الكنيسة.. صراع أم مخاض ميلاد ٢٠١٨