- التعلم بالخبر
- دور الثقة في الخبر
- ☑ قضايا أفسدها شهود العيان
- دقة النقل الشفاهي
اثنتان من أهم وسائل إضفاء الموثوقيّة على الادعاءات في العالم القديم -وحتى اليوم- هما:
– حجّة شهود العيان (فلان رأى أو سمع كذا، وفلان موثوق، إذا كذا حدث).
– وحُجّة التَسَلسُل الروائي (فلان قال لفلان، وفلان قال لفلان، وكلهم مشهود لهم بالأمانة، إذن المعلومة يقينًا انتقلت بشكل سليم).
في هذا المقال سنتحدث عن شهود العيان، وإشكاليات الاعتماد عليهم من منظور علم النفس والأدب والتاريخ.
في عام 1975، تم خطف روبرت هينسون، المدير المساعد لفرع من فروع متجر كولينز، حيث وضعه الخاطفان (كانا اثنين) في سيارة دودج بيضاء اللون، وذهبا به إلى الفرع لكي يفتح لهم الخزنة. وعندما أخبرهم أنه لا يعرف أرقام الخزنة، تركوه ليرحل بعد أن سرقوا الأموال التي كانت في جيبه (35 دولارًا).
عندما اُختُطف هينسون في السيارة، رأى وجوه الخاطفين للحظة قبل أن يغطوا وجوههم. وبعد أن تركوه، ذهب هينسون وأبلغ الشرطة وقال لهم إن أحد الخاطفين كان يبدو من أصل إسباني وإن أحدهم كان يشبه شخص تقدم لوظيفة في شركته مؤخرًا. وبناءً على هذه التفاصيل، رسمت الشرطة صورة مركبة للمشتبه به ونشرتها. وبعد ثلاثة أيام، تم القبض على شقيقين كانا يقودان سيارة دودج بيضاء، وهما لوني سوير (18 عامًا) وساندي سوير (20 عامًا).
في المحكمة، قال هينسون إن لوني وساندي هما اللذان خطفاه بالفعل، وأنهما هدداه بالسلاح. وبالرغم من أن لوني وساندي قدما دليلًا على تواجدهما في أماكن أخرى وقت الحادثة، إلا أنهما تمت إدانتهما بالفعل، وحُكم عليهما بالسجن لمدة 28 – 32 عامًا للوني و32 – 40 عامًا لساندي، حيث كان عليه جريمة سابقة أدت إلى حكم مشدد. وبعد محاكمتهما، أخبر لوني وساندي أهلهما بضرورة الطعن على هذا الحكم لأنهما لم يرتكبا أي جريمة.
ظل الأهل متابعين لهذا الموضوع، واستعانوا بمحققين لكي يحاولوا اكتشاف الحقيقة. وبعد فترة، قال أحد المسجونين في السجن الذي كان فيه لوني وساندي إن هناك شخصًا يدعى روبرت توماس كان أحد الذين خطفوا هينسون. قرر أحد المحققين تتبع هذه المعلومة، ووجد استمارة باسم توماس كان قد ملأها للتقدم لوظيفة في متجر كولينز، كما وجد أيضًا أحد معارف توماس لديه سيارة دودج بيضاء. وفي عام 1977، تمت إعادة محاكمة الأخوين وحكم ببراءتهما في يوم 7 يناير.
لوني وساندي كانا محظوظين أكثر من المتهمين في جريمة القتل التي حدثت يوم 15 أبريل 1920. في ذلك اليوم، كانت آني نيكولز واقفة عند النافذة تأخذ قسطًا من الراحة من أعمال المنزل. وفجأة ظهر رجلان، أحدهما أمين خزنة في مصنع يحمل حقيبة نقود والآخر حارسه. وفجأة، أخرج أحد الرجلين اللذين كانا يسندان على السياج في الشارع مسدسًا وقتل الحارس. كما قُتل أمين الخزنة وهو يحاول حماية الحقيبة التي كان يحملها. كانت آني نيكولز تتابع المشهد من النافذة، وفجأة جاءت سيارة أخذت الرجلين الذين ارتكبا الجريمة، وأخذا النقود ولاذا بالفرار.
آني وبقية الشهود لم يستطيعوا إعطاء الشرطة أي تفاصيل عن الذي ارتكب الجريمة. قال أحدهم إنه كان أسمر، لكن شاهدًا آخر قال إنه كان أشقر جدًا وربما كان سويديًا أو فنلنديًا. وقال شاهد ثالث إن السائق كان لديه شارب، لكنه غير أقواله لاحقًا وقال إنه لم يكن لديه شارب وكان حليق الذقن جيدًا.
بعد بضعة أسابيع، تم القبض على نيكولا ساكو (صانع أحذية) وبارتولوميو فانزيتي (صياد سمك) واتُهِما بالقتل والسرقة. كان كلاهما يحملان سلاحًا بالفعل، وكان ساكو يحمل نفس نوع السلاح الذي استُخدم في الجريمة. لكن لم يكن لدى أي منهما سجل إجرامي.
على الرغم من أن الشهود لم يروا أي تفاصيل عن مرتكبي الجريمة وكان كل كلامهم متناقضًا، وصرح أحدهم أنه لم يرى جيدًا، إلا أنه أثناء المحاكمة، شهد خمسة شهود بأن ساكو كان أحد الجناة. كما صرح أربعة شهود بأن فانزيتي كان واقفًا بالقرب من مكان الجريمة، على الرغم من أن أحد الشهود قال لصديق له أنه اختبأ بمجرد أن رأى المسدس وأنه لن يتعرف على الجناة لو رآهم مرة أخرى. وبالرغم من ادعاء الشهود بأنهم لم يروا جيدًا، إلا أن جميع المترددين تحولوا إلى أشخاص واثقين تمامًا من شهاداتهم واتهموا ساكو وفانزيتي.
بالرغم من أن ساكو وفانزيتي قدما دليلًا على أنهما كانا في أماكن أخرى وقت الجريمة (كان ساكو في القنصلية الإيطالية وكان يحمل صورة عائلية لتجديد جواز سفره، وتذكره الموظف لأن الموقف كان غريبًا ومضحكًا، وكان فانزيتي يصطاد في منطقة بليموث وتاجر تذكره هناك)، إلا أنه لم يؤخذ بشهادة هذين الشاهدين واعتُبرت شهادة شهود الإثبات أقوى، وحُكم عليهما بالإعدام ونُفذ الحكم في 23 أغسطس 1927.
هذه المواقف مهمة لأنها تبين أن شهود العيان ليسوا مجرد أشخاص يرون حقائق وينقلونها بشكل مجرد ومباشر غير قابل للخطأ. حتى وإن كان شهود العيان موجودين ويجري التحقيق معهم لسنوات، تظل المعلومات التي يقولونها تتغير، وتظل شهادتهم تتناقض، ويظلون يقولون كلامًا جديدًا لم يقولوه في وقت التحقيق القريب من الحدث. يتحول عدم اليقين إلى يقين، وتتغير مواصفات الأشخاص، وتزداد المعلومات تفاصيلها بشكل أكبر مع الوقت. هذا ما تؤكده دراسات الذاكرة وعلم النفس وعلم الأعصاب، وبالإضافة إلى ذلك توجد إشكاليات أخرى مثل الذكريات الوهمية أو الذكريات الخاطئة.
الشهادة للمُعجزة
في كُتيب صغير عن المُعجزات، يناقش ديفيد هيوم دور الشهادات أو الأخبار التي يتناقلها الناس في إثبات الأحداث، ويُطبِّق ذلك تحديدًا على الأخبار التي تتضمن أحداثًا مُعجزيّة أو خارقة للطبيعة. ومن الأفكار اللطيفة جدًا التي طرحها في هذا الكتاب أننا نثق في الأخبار التي يتناقلها الناس عندما لا يكون لديهم دوافع للكذب، وعندما يكون عددهم كبيرًا، وعندما تكون شهاداتهم مُتّسقة. وهذه الثقة لدينا بسبب “العادة”. أي إننا بالمُلاحظة تعودنا أن هذا العدد لا يكذب، وهذا وذاك لا يكذبان لأنهما لا يملكان مصلحة في ذلك، جرت العادة على هذا.
فأضاف هيوم لهذا الجزء جانبًا آخر، وهو أن تعريفنا للمعجزة هو أنها شيء يخالف العادة. فمثلًا لو مات شخص في سن صغير فلا يُقال أن ذلك حدث معجز، لأنه شيء لا يخالف المعتاد والملحوظ. لكن لو وضعت حديدًا في الماء ولم يغرَق حينئذٍ تقول إن في شيء “مش عادي” أو “مخالف للملاحظة”. ولكن عندما يأتي شخص ويقول لك إنه ذهب إلى المسطح المائي الذي يبعد عن بيتك كيلومترين ووضع حديدًا هناك والحديد لم يغرَق، والشخص هذا أنت تثق فيه بناءً على العادة، إلا أنك تثق أيضًا بأن الحديد لا يطفو على الماء بناءً على العادة، فهنالك تناقض بين شيئين كلاهما مبني على الملاحظة والعادة، إما أن فلانًا الذي ليس من عادته أن يكذب قد كذب أو توهم أو اختلط عليه الحديد بمادة أخرى، أو أن طبيعة الحديد قد تغيرت وأصبح يطفو على الماء.
السؤال المهم هنا: لو لم يكن لديك القدرة على التحقق من الأمر بنفسك، ماذا يجعلك تغلّب العادة السائدة بأن فلانًا لا يكذب على العادة السائدة بأن الحديد لا يطفو؟
ضع في اعتبارك وأنت تُجيب أن حصر الموضوع في كذب فلان هو تجاهل لاحتمالات أخرى كثيرة ممكنة تجعله يقول معلومة خاطئة -بحسن نيّة- وهو نفسه لا يدري، مثل أن يكون لديه شيء غير الحديد يطفو عادة واختلط عليه الأمر. ولكن حتى يكون السؤال أوضح، فلنحصر الاحتمال في الكذب فقط. ماذا يجعلك تقول إن العادة السائدة بأن الحديد لا يطفو هي التي كُسرت وليس العادة السائدة بأن فلانًا الذي تعرفه يكذب؟
لنفترض أن جميع المؤرخين الذي درسوا إنجلترا اتفقوا على أنه في يناير من عام ١٦٠٠ ماتت الملكة إليزابيث، وأنه قُبيل وبعد موتها قد عاينها الأطباء والعاملين بالبلاط، كما هو الحال مع من هم في نفس مكانتها. ولنفترض أنه تم الاعتراف بمن تسلَّم الحكم بعدها وأُعلن حاكمًا في البرلمان، وأنه بعد دفن الملكة إليزابيث بشهر، ظهرت ثانية، وتولَّت مقاليد الحُكمِ، وحكمت إنجلترا لثلاثة سنوات. ينبغي أن أعترف أني سأكون مُتفاجئًا لحدوث تِلك الظروف الغريبة الكثيرة، ولكني لن أميل مطلقًا لتصديق حَدَث معجزيّ كهذا. لن أشَكِّكَ في موتها المزعوم، ولا في الأحداث التي تبعته. يُمكن فقط أن أفترض أن موتها كان مفتعلًا، وأنه بالتأكيد لم ولن يكن حقيقيًا. يُمكن أن تُجادِل سُدىً أنه من الصَّعب بل من المُستحيل أن تخدَع العالم بأكمله في أمر بتِلك الفداحة. وأنه مع حكمة وحُسنِ حكم هذا الملكة المعروفة فما الميزة القليلة أو ربما المُنعدمة التي يُمكن أن تتحصَّل عليها من خدعة رخيصة كهذه، كل هذا يُمكن أن يُدهشني، ولكني مازلت سأجيب أن احتيال وغباء النّاس ظاهرة مُنتشرة، وأنه من الأفضل أن أُصدِّق أن أشد الأحداث غرابة يُمكنها أن تَنشأ من تَواطئهم على أن أُقِرَّ بأن قوانين الطَّبيعة قد اختلّت.(ديفيد هيوم، مقالة عن المعجزات، ١٨٤٠ [1] )
كيف تقيّم هذا المقال؟
← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←
المتوسط الحالي حسب تقييمات من القراء
كن أوّل من يقيّم هذا المقال
من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا
دعنا نعمل على تحسين ذلك
أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟