المقال رقم 1 من 4 في سلسلة الخبر كوسيلة معرفية

إن المؤرخ الذي يتّبع منظورًا إمبريقيًا [قابل للتجريب بالحواس] صارمًا مُلزَمٌ برفض إمكانية معرفة الحقيقية التي من شأنه بحثها. المعرفة الوحيدة التي هو مؤهلٌ لادعاءها هي معرفة ما في داخل مصادرهِ نفسها؛ معرفة المُعطيات

هذه المُعطيات غالبًا ما تكون أخبارًا عن أحداثٍ مضت، ولكن أيضًا توجَد مُعطيات غير لفظية [كالآثار] وهي أيضًا مفيدة

المعطيات أو الأخبار عن أحداث الماضي هي ما يختَبِره المؤرِّخ، لا أحداث الماضي ذاتها. تِلك هي “الحقائق” الملموسة التي منها يُحاول أن يُعيد بناء صورة عن أحداث الماضي. هذه الصورة تنعكس في سرديته المكتوبة والتي يرويها عن الحدث الماضي

الصُّورة أو السَّردية عن حدث ما في الماضي تُحاكَم بكونها مُتوافقة مع أو مُحتملة بدرجة قريبة أو بعيدة بالمُقارنة بالمُعطيات. المُعطيات يجب، بالطبع، أن تُغَربَل بقواعد منهجية مُتّفق عليها، وسيسعى المؤرِّخ للاعتماد على المُعطيات ذات أفضل موثوقية منهجية

من المفترض كون بعد الأخبار عن الماضي أكثر صحّة من غيرها، وأن بعضها صحيح والبعض خاطئ. ولكن، هذه الصحة أو الخطأ لا يُمكن تحديدها إمبريقيًا [بالحواس] إذ لا يُمكن للمؤرِّخ أن يختبرَ الحدث. لذا فمن الضروري إيجاد معايير منهجية يُمكن بها تقييم فائدة المُعطيات في بناء صور وسرديات مُتَّسقة مع الحدث الماضي، أو يُمكننا القول أنه بها [أي بالمعايير المنهجية] يُمكننا أن نحدِّدَ مَدى الحقيقية [في مُقابل [أو بدلًا من] الحقيقة المبرهنة إمبريقيًا] التي يمكن أن ننسبها للأخبار [التي وصلتنا عن] الماضي.

(برنارد جي وايس، معرفة الماضي: نظرية التواتر عند الغزالي [1] )

 

التعلًّم بالخبر؛ هو واحد من المصادر الأساسية التي نتعلِّم بها جميعًا من مرحلة الطفولة وحتى المراحل المتقدمة في حياتنا ومعرفتنا بأي مجال. الـ”خبر” هو ببساطه إن شخص (لنسميه “ب”) يعرَف شيئ من شخص (لنسميه “أ”) يعرف الشيء ده.

وهنا لازم يتحقق شرطين؛
– لازم يكون “أ” يعرف الحاجة دي،
– ولازم “ب” يكون بيثق في “أ”، عشان ياخد منه المعلومة.

السلسلة دي من الإخبار ممكن تكون أطول من كده، بحيث واحد يقول لواحد، والواحد ده يقول لشخص تاني، والتاني يقول للتالت، وهكذا.
لكن لازم السلسلة دي تنتهي للعارف الأول [مصدر أوّلي]، يعني لازم يكون في شخص “حصل عنده معرفه” بالشيء اللي بيتكلّم عنه،
ومينفعش يكون مصدره إن حد تاني قال له، لأن كده هنبقى قدام تسلسل لا نهائي من الأخبار، وهذا لا يثبُت به معرفة.

خليني أوضحلك الفكرة بمثال قالوه بيتر جراهام وزخاري باشمان:

تخيل مثلًا إنك دخلت تشتري حاجه ومش معاك فلوس، فا جه حد ودفع لك.
هنا في مديونية (وهي مقابل للمعرفة الصحيحة)، أنت الشخص اللي عليك المديونية، يعني أنت مُطالب بمعرفة، لكنها مش عندك، فا يجي حد ويتبرَّع هو بكونه مصدر لمعرفتك.

بس تخيَّل لو اللي ها يدفع لك ده، هو نفسه ها يستلف من حد تاني عشان يدفع لك.
هنا المديونية أتسددت من عليك، لكن مازال في شخص مديون، وعليه مبلغ مش مدفوع،
يعني في شخص قدِّم لك معرفة، لكن هو نفسه معندوش المعرفة دي وبياخدها على عهدة حد تاني.

وبالتّالي عشان يكون عندك معرفه سليمة، لازم المعرفة دي تنتهي لشخص وصل للمعرفة بواحد من مصادرها الأوليَّة زي إنه شاهد وعاين الحدث بنفسه، مش مجرد متلقي للمعرفة من مصدر غير معروف أو بينشُر معرفة غير قابلة للتحقُّق منها بمصادر المعرفة الأوليّة.

في المثال اللي فات في تمييز مُهم، من الضروري نفهم الفرق بين المعرفة knowledge ومُسوِّغ المعرفة justification of knowledge.

في المثال اللي فوق؛ أنت مكنتش تعرف معلومة مُعيَّنة، فا رحت خدت المعلومة دي من شخص تاني.
لو أنت تثق في الشخص ده، ومعندكش سبب للاعتقاد في خطأ المعلومة؛ هاتصدقها،
بالتالي في الحالة دي عندك مُسوِّغ للتصديق أو عندك justified belief [اعتقاد ذو تبرير]،
بس ده يختلف تمامًا عن كون المعلومه اللي أنت خدتها منه صحيحه فعلًا أو لأ.

يعني ممكن يكون عندك مُبِّرر سليم للتصديق بس اللي صدقته أخطأ في المعلومة أو كذب. بالتّالي مش كُلّ شيء تظُن إنه مُبرَّر بالضَّرورة يوصل لمعرفة سليمة.

عشان كده الفيلسوف روبرت أودي بيقول إن شهادة الأخبار [testimony] والذاكرة [memory]، بيتطلَّبوا الرجوع للحواس في تأكيدهم.

يعني مثلًا (وده حصل فعلًا) لو أنا عندي ذاكرة [متذكّر] إني رحت الشغل، وأخدت معايا التابليت بتاعي، وإني خلصت شغل ولميت حاجتي وشيلت قلم التابليت في الشنطة، وفاكر كل ده كويس جدًا، بس لما رحت البيت ملقيتش القلم في الشنطة، هنا وجود الذاكرة -حتى لو كانت واضحة عندي- مش معناه إنها حقيقيَّه، المعيار هنا إني أروح الشغل تاني يوم، وأدور عليه [تجريب بالحواس]، ولو لقيته على مكتبي ساعتها أعرف إن الذاكرة دي ذاكرة كاذبة، لكن لو لقيت القلم في الشنطة تبقى الذاكرة سليمه.

الشهادة أو الخبر بنفس المنطق؛ لازم يرجعوا في الآخر للحواس كتأكيد ليهم.

بالنسبة بقى لعملية الإخبار نفسها، الشخص الذي يتلقَّى الخبر لازم يشوف الشخص الذي يقدم المعلومة باعتباره صادق عشان يصدَّقه، زي مثلًا لما بتسمع معلومة من حد من أصحابك وبشكل تلقائي بتصدَّقه، هنا بتصدقه على عُهدة معرفتك السابقة به. النوع ده من المعرفة اسمه inferential knowledge [معرفة الاستدلال]، المعرفة دي مبنية على مقدمات ونتائج، بحيث تكون المقدمات في الصورة التالية:

(1) أنا أعرف فلان من زمان، وبثق فيه، لأنّه مكدبش علىّ قبل كده،
(2) فلان قال كذا،
(3) إذن “كذا” صحيح، لأن مفيش سبب يخليني أشك في عدم صدقة هذه المرة.

ده يوريك ليه الخبر مش من المُسوِّغات المعرفيَّة الأوليَّة، لأنه يتخلَّله مقدمات ونتائج واستدلالات، لو واحده منها اختلت بتختل النتيجة النهائية.

طب في هنا مُشكله تانية وكبيرة، وهي إن المعرفة الناتجة عن الخبر معرفه خاصَّة، يعني عشان تصدَّق الشخص اللي بتسمعه لازم تكون أساسًا مُهيَّأ لتصديقه، لو شخص تاني معندوش سبب للتصديق أو عنده سبب للشك في الرواية، من الطبيعي إنه هايتوقَّف قُدّام السؤال وهايرفض التصديق بصحة المعلومة.

وبالتّالي، الخبر يتطلَّب استعدادًا مُسبقًا للتَّصديق، لو معندكش الاستعداد المُسبَق مش هاتشوف التسويغ الناتج من المعرفة؛ سليم.

هاتقولي طيب في حالات تأتيك المعلومة من عدد من الأشخاص اللي ميعرفوش بعض، ومفيش بينهم مساحة تلاقي تخلي الخبر ينشأ بالكذب ما بينهم خصوصًا لما ترجع المعلومة اللي بينقلوها للحواس. ها أقولك صحيح، ده نوع مُنتشر جدًا من المعرفة، ولو قدرت تتوثَّق من تحقُّقه بيكون بدرجة كبيرة سليم، ولكن.. لازم هنا نميِّز ما بين معرفة الشيء والمعرفة عن الشيء.

يعني مثلًا لو شاهدت دخان خارج من شارع، وناس تصرخ بصوت عالي، فأنت هنا شاهدت الدخان وليس سبب الدخان (مشفتش نار)، وبالتَّالي لو عشر أشخاص شهود على وجود حريق في بيت بناءًا على رؤية الدخان فده مش بالضّرورة صحيح، قد يكون الدخان ملوش علاقة بالصراخ، ومثلًا حد حرق أي حاجة (قمامة مثلًا) أو قد يكون ناتج عن حريق في عربية على جانب الشارع وليس حريق في البيوت، أو إن ناس بتصوَّر مشهد في مسلسل أو فيلم. يعني لازم تميِّز بين نقل الشخص لمعلومة وبين نقل الشخص لاستنتاج مبني على المعلومة، وأوقات يتطلَّب هذا استجواب الشهود عشان تميِّز بين اللي يعرفوه واللي استنتجوه واللي سمعوه من ناس تانية وأخبروا بيه بدون رجوعهم للحواس كمصدر أوّلي، يعني ما يسردون وهم مسوغين في تصديقه ليس تأصيلًا حقيقيًا لمعرفة صحيحة.

وخلي بالك إن ده مش متاح في التعامُل مع “كل” أخبار التاريخ.. مهما عملت من منهجيَّات في التعاطي مع الشهادات التاريخيَّة، ومع فقدانك أهم وسيلتين للتحُّقق من الشهادات وهما؛ الحِس المُباشر، واستجواب الشهود، ستظل المعرفة المبنية على الشهادة مرهونة بطبيعة الشهود وبرغبتك أو استعدادك لتصديقهم. لكن من هم خارج دائرتك في الثقة وليس عنده مبررات لتصديق شهودك، حتى وإن سلِّم لك بأنّك مُسوِّغ في تصديقهم، فلن يسلم بأنّ معرفتك معرفة صحيحة، لأنه لا توجد وسيلة للتحُّقق من الخبر الذي تم في الماضي.

ممكن نبقى نتكلِّم في مشكلة الـ”استقراء” في مقال آخر، لكنها باختصار بتقول إن مش معنى إن في شيء مُتكرِّر إنك تقدر تستنتج إنه مش هايتغيَّر. أو مش معنى إنك تعرف واحد مكدبش عليك قبل كده، إنه مش هيكدب عليه في وقت تاني، ومش معنى إنه لم يختلق أو يتوهَّم شيء قبل كده، إنه مش هيختلق أو يتوهَّم بعدين.

في موضوع الشهادات المتعددة؛ يقول في مقال بعنوان Criteria of Authenticity [معايير الأصالة] إن تعدد المصادر وسيله لا غنى عنها بالنسبة للمؤرِّخ، ولكنها لا تكفي لتحقيق “اليقين” بنفسها، لأن وجود مصادر متعددة وقديمة لمعلومة معناه إن المعلومة قديمة لكن مش معناه إن المعلومة صحيحة.

وأيضًا يضرب مثال في مناقشة الشهادات المتعددة فيقول ما معناه؛ تخيل مثلًا لو عندنا شخص مؤثِّر اسمه X، وكان قُريِّب زمنيًا ومكانيًا من شخص مُهم اسمه Y، وهو محل البحث التاريخي، الشخص المؤثِّر X ده ممكن يتكلِّم وينسب أقوال ل Y، والناس تنقل عن Y على لسان X، ويجيلك شهادات مُتعدده عن حاجات قالها Y وتوصلك كمؤرِّخ بعد قرون وكلها أساسًا مصدرها X كشخص مؤثر. هنا أنت أمام شهادات مُتعددة، لكن مش بالضَّرورة تقدر تقول إنها راجعة لـY، تقدر بس تقول إنها ظهرت بشكل مُبكِّر، لكن مصدرها إيه؟ وهل هو X وﻻ Y؟ ده سؤال متقدرش المصادر المُتعددة تجاوبه، ولا تقدر تستخدم المعيار ده في مُعالجة والوقوف على مصدَر الأخبار والأقوال.

وهنا نرجع تاني للفرق ما بين التسويغ والمعرفة. المؤرِّخ في بحث الأسئلة القديمة ميقدرش يوصل لمعرفه يقينيَّة صحيحة، ولكن يقدر يبني صورة مُسوَّغة بأدواته مبنية على المعطيات المتاحة. يعني تخيَّل لو في حدث كتب عنه 20 مصدر، منهم 10 يكتبون من منظور، و10 يكتبون من منظور مضاد أو منافس، ثم ضاع من المصادر دي 17، منهم الـ 10  من ذوي منظور مضاد، كده إتبقالك 3 مصادر، ممكن تقدر تبني عليهم صوره كمؤرِّخ، وهاتكون مُسوَّغ في التصوُّر اللي بتبنيه، لأن دي المعطيات المتبقية، لكن متقدرش تقول إن “انتشار الخبر” أو “البناء التاريخي” اللي عملته بيوصَّل لليقين، أو إنه مساوي للإدراك بالحس، أو إنه يصل لمعرفة كاملة. أقصى ما يُمكن تحقيقه هو تسويغ بناءًا على المُتاح.

هوامش ومصادر:
  1. Bernard Weiss (1985, p.82), Knowledge of the Past: The Theory of “Tawâtur” According to Ghazâlî. Studia Islamica, No. 61, 1985, pp.81-105 [🡁]

كيف تقيّم هذا المقال؟

← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←

المتوسط الحالي حسب تقييمات من القراء

كن أوّل من يقيّم هذا المقال

بما أن المقال أعجبك..

ربما اﻷفضل مشاركته مع دوائرك كي يحظى بانتشار أوسع

من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا

دعنا نعمل على تحسين ذلك

أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟

جزء من سلسلة: الخبر كوسيلة معرفية[الجزء التالي] 🠼 دور الثقة في الخبر
جون إدوارد
[ + مقالات ]