المقال رقم 2 من 4 في سلسلة الخبر كوسيلة معرفية

نحن حريصون على الثقة بالمؤشرات القويّة [التي تدفعنا لتصديق شهادات الآخرين] على الرغم من أنه أحيانًا نُخدَع بخصوص قوَّة المؤشرات لأن خبرتنا [في تقييم المصادر وشهاداتها] هي خبرة غير مُباشرة.

أن نتبنَّى موقفًا من الثقة فيمن نتخاطب معهم يعني أن نقبَل تعرُّضنا لدرجة من التهديد الذهني/المعرفي بأن نقبل أنا نُشاركهم عدد كبير من الفرضيَّات والتصوُّرات والنظريات التي تُطرح بغرضِ التَّخاطُب. نحن لا نثق في مُخاطبينا كيما يمدوننا بالمعرفة.

يحدُثُ أنّ نتحصَّل على المعرفة بالتّواصلِ، من خلال إدراج من نُخبَر به في سياق أفكارنا وأهدافنا المعرفية.

(جلوريا أوريجي، الثقة والسُمعة كآليّة ترشيح معرفيّة [1] )

“الثقة”؛ واحده من المعايير التي نستخدمها جميعًا في تقييم المصادر التي نستقي منها المعلومات. عادة تُناقش كتب الإبستمولوجيا الاجتماعية مسألة انتقال المعلومات بين الأفراد في الحاضِر أو الماضي القريب، لأنه في هذه الحالات يوجد مصادر أخرى نستطيع من خلالها تقيِّم إن كانت المعلومة التي انتقلت من خلال الخبر الشفوي بين الأفراد في المُجتمع سليمة ولا لأ.

لكن تخيّل لو كانت المعرفة مرتبطة بحدث بعيد في الماضي، حدث مش باقي منه حاجة غير كلام ناس عنُّه، هل نقدر في الحالة دي نقول إن “الثِّقة” في الأفراد تُنتج معرفه صحيحه مُبرره؟

الحقيقة إن بيتفق كتير من دارسي المعرفة الاجتماعية على وجود مساحة من المجهول تُسد بفرضيات مُسبقه عند مُتلقّي المعلومة، وفقًا للسياق الاجتماعي والاعتقادي اللي هو عايش فيه. يعني انت بتصدق لأن عندك الرّغبة والاستعداد والاعتقاد المُسبق اللي يخليك عايز تصدَّق مش لأن الدَّليل ضخم ولا يُقاوَم.

كلما تبتعد عن المصدر الذي تقيِّمه، كلما صارت ثقتك افتراضية أكتر، أو تعتمد في ثقتك في المصدر على ثقتك في حد تاني أقرب للمصدر، وهنا انت ممكن تقول إنك مُبَرَّر أو مسوَّغ في الثقة، لكن متقدرش تقول إن ما تتبناه هو “معرفة” سليمة، اللي عملته هو تتنازل عن حقَّك في تقييم المصدَر وتُحيل حُكمك لحُكم شخص تاني. وهي دي بالظبط النقطة اللي فيها الخطأ، لأن سلسلة التنازل عن الحُكم على المصدر لصالح آخرين من الجائز عقليًا وتجريبيًا أن يشوبها كل أنواع الخطأ، وبالتّالي مينفعش يصدر منها يقين معرفي، ممكن تسميه تسويغ لأنك شايف مُبرر للتصديق، لكن مش معرفة.

تجارب قياس احتمالية تصديق/ مرور الكذب

في إحصائية لطيفة نقلها جوزيف شيبر [2] عن إكمان وأوسيلفيان اللي في دراستهم عملوا حصر للدراسات والتجارب التي تحاول تُحصي قدرة الفرد على اكتشاف الكذب أو إن الطرف اللي بيكلمهم مُخادِع. في كل الدراسات الناس مكانتش دقيقة في تحديد الكذب، وكانت معدلاتهم بالكاد فوق ٦٠%، وقطاع منهم وصل ل ٥٠% (اللي هي الرقم العشوائي) وبعض المجموعات كانت معدلاتها أسوأ من ٥٠%.

والنتايج دي انطبقت على المتخصصين اللي وظايفهم مبنيه على قدرتهم في اكتشاف الكذب زي ضباط الجمارك (دراسة عملها كراوت وبو) والشرطة الفيدرالية (دراسة عملها ديباولو وفايفر) وضباط الشرطة (دراسه عملها كونكان).

يعني حضرتك سيادتك سعادتك لما بتاخد معلومه بناءًا على ثقتك في شخص، في احتمال يقارب الـ٥٠% إنه لو حاول يخدعك هايخدعك، حتى لو انت سبع البرومبة في مجال انت متدرب عليه. ولما بتاخد معلومة انتقلت من كذا شخص قبل ما توصلك، ف في كل مرة بيحصل فيها نقل للمعلومة يوجد قدر لا بأس به من الاحتمالية إن يكون في خِداع أو كدب أو على الأقل خلل أو خطأ.

مينفعش بعد كل دراسات علم النفس المعرفي، والإبستمولوجيا الاجتماعية تيجي تقولي أنا عايز أخد معلومات اللي قبلي باعتبارها لا يتخللها الشَك وباعتبارها تؤسس ليقين مُطلق، إنت كده ضدّ الدّليل التجريبي.

التخلي عن عبء الإثبات

في مقال بعنوان Assurance Views of Testimony [آراء عن ضمانات الشهادة] بيستخدم فيليب نيكل عبارة passing the buck في التعبير عن الناس اللي بتخلط ما بين دور الشهاده كمُسوِّغ للمعرفه وبين كونها دليل للمعرفه.

عبارة passing the buck في الأصل معانا إنك تلوم حد على حاجة كان المفروض انت اللي تعملها. والمقصود هنا لو قولتلي معلومة وأنا سألتك عن الدليل، المفروض تديني الدليل بما أنك استخدمت المعلومة، لكن اللي ممكن يحصل إنك بدل ما تديني دليل على المعلومة ترمي عبء الإثبات على حد تاني -أو على الشهادة- ف تقولي أنا سمعت المعلومة من فلان.

في الحالة دي انت بترمي عبء المسئولية والإثبات على فلان، وفي نفس الوقت بترتكب مُغالطه لما بتدّعي إن معرفتك صحيحة في حين إنك معندكش دليل عليها، كل اللي عندك هو مُبرِّر للتصديق وهو إنك بتثق في فلان.

طب افرض أنا مش بثق في فلان؟ افرض انت بتثق فيه بناءًا على أسباب مرتبطه بالعاطفة أو الأيديولوجيا وانت شايفها كافيه للتصديق، بس أنا معنديش نفس الروابط العاطفية والأيديولوجية مع فلان وبالتّالي مش هاصدّق كلامه بدون دليل، وفي نفس الوقت انت معندكش دليل ورميت المسئولية على فلان.

في الحالة دي الموضوع أصبح فيه معلومة عمالة تلف بين الناس ولم تنتهي إلى دليل، ولكن فقط إلى رغبة الناس في إنها تصدَّق على عُهدة فلان.

في كتاب Eye and Brain [عينٌ وعقلٌ] للطبيب النفسي ريتشارد جريجوري،  يحكي جريجوري عن حالة لمريض مكانش بيشوف، وعمل جراحه في عينيه، وبيقول إنه كان محظوظ إنّه يدرس الحاله دي first hand، يعني عاين الحالة بشكل مباشر ويُعتبر هو شاهد عيان عليها. وبيحكي لما الجراح كشف الضمادات عن عين المريض لأول مره بعد العملية مكانش شايف أشكال مُحدده لأي حاجه حتى وش الجراح مكانش شايفه، كان سامع صوته، لكن كل حاجه ضبابية. وبيستكمل إن بعد كده خلال أيام قليلة بدأ نظره يتحسن ويقدر يستخدم نظره بشكل عملي، ف بقى يقدر يمشي من غير ما يحتاج يسند على حاجة تدله على الطريق، وبقى يقدر يشوف الوقت في الساعة الكبيرة اللي في المستشفى بدل ساعة الجيب اللي كان بيستخدمها باللمس، وبقى يقدر يقف في الشباك يتفرج على العربيات. وبيقول إن المريض كان سعيد جدًا بالتحسن السريع في حالته وبيحكي إنهم خدوه بندن بعد كده وفرجوه على كل المعالم اللي عمره ما شافها [3].

لحد هنا القصة مفيهاش أي شيء مميز أو غريب. لكن اللي بيعلق عليه كودي في كتاب Testimony: A Philosophical Study [الشهادة: دراسة فلسفية] هو إنه لما راجع الكتاب الأول اللي نشره جريجوري مع باحث تاني إسمه والاس، اكتشف إن جريجوري مكانش موجود في أول سبع أسابيع بعد العملية، وإنه وصل متأخر، وكل اللي حكاه باعتباره “شاهد عيان” عليه هو معلومات مجمعها من الناس اللي في المستشفى.

الفكرة هنا مش إن جريجوري كداب، أو إنه بينسب لنفسه مشاهدة حاجه مشافهاش، ولكن جريجوري كان يثق في اللي شافو الحالة، لدرجة إن قربه من التفاصيل بالشكل ده مخليه مؤهل يتحقق من التفاصيل ويسردها باعتباره شاهد عيان، حتى لو كان بيسرد حاجات مكانش موجود فيها في المكان أساسًا. المعيار اللي جريجوري استخدمه هنا هو ثقته الشخصية في سردية الأشخاص اللي كانوا موجودين في أول سبع أسابيع بعد العملية.

هنا جريجوري راجل مُدرَّب وباحث أكاديمي، ومع ذلك خلط ما بين تصديقه للي سمعه، وبين كونه شاهد عليه. وكمان المُشكلة بانت أكتر بسبب إن جريجوري نفسه كاتب كتاب تاني بيحكي فيه التفاصيل، وبالتالي مقارنة النصوص وضّحت المشكلة. طب لو جريجوري دي كان حد عايش من ألف سنه، ومكتبش غير كتاب واحد بيحكي فيه رؤيته لحدث ما، هل نقدر نجزم بإن كلام جريجوري معناه إنه شاف فعلًا زي ما قال في كتاب “عينٌ وعقلٌ”؟ لأ منقدرش، مهما كان بيوصف تفاصيل واضحة، ومهما كان بيأكد إنه شاف، متقدرش تاخد الشهادة بتاعته باعتبارها حقائق، لأن مفيش شيء يساعدك تفحص الشهادة دي وتقيسها عليه.

بالمناسبه، كتاب “الشهادة: دراسة فلسفية” بتاع كودي هدفه يوصل لعكس النتيجة اللي أنا بقولها لك، يعني هو عايز يثبت إن الشهادات موثوقة، بس المشكلة إن كل الأمثلة اللي بيستخدمها لحد دلوقتي معاصره أو من الماضي القريب جدًا، اللي هو أساسًا في عليه مُعطيات كتير أوي تساعدك تفحص الشهادات. وهابقى أكتب مقال آخر عن الجدلية بتاعت كودي لو كان فيها حاجه تصلح لدراسة الماضي البعيد.

هوامش ومصادر:
  1. Gloria Origgi, Trust and Reputation as Filtering Mechanisms of Knowledge, in The Routledge Handbook of Social Epistemology, 2020, p.82, 83-84 [🡁]
  2. Joseph H. Shieber, Socially Distributed Cognition and the Epistemology of Testimony [🡁]
  3. C. A. J. Coady, Testimony: A Philosophical Study, 1995, p.9-10 [🡁]

كيف تقيّم هذا المقال؟

← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←

المتوسط الحالي حسب تقييمات من القراء

كن أوّل من يقيّم هذا المقال

بما أن المقال أعجبك..

ربما اﻷفضل مشاركته مع دوائرك كي يحظى بانتشار أوسع

من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا

دعنا نعمل على تحسين ذلك

أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟

جزء من سلسلة: الخبر كوسيلة معرفية[الجزء السابق] 🠼 التعلم بالخبر[الجزء التالي] 🠼 قضايا أفسدها شهود العيان
جون إدوارد
[ + مقالات ]