أخيرًا، أظهرت كرامة في ضبط جزء من حالة الانفلات الي، التي يمارسها مجموعة من الأساقفة والكهنة بلا حسيب ولا رقيب، ضاربين بقوانين الكنيسة -غير المفعلة- عُرْضَ الحائط، بعدما تمت محاسبة القس دوماديوس حبيب المشهور باسم “”، الذي شغل منصات التواصل الاجتماعي في مصر، طوال الأسبوعين الماضيين، عقب انتشار أخبار عن نيّته شراء بقرة لذبحها كأضحية في عيد الأضحى، مشاركةٌ منه لإخوانه في الوطن من المسلمين.

وعلى الرغم من أن هذا التصرف كان من شأنه أن يجعله رمزًا للوحدة الوطنية، إلا أن الرياح جرت بما لا تشتهي السفن، إذ لاقى هجومًا عنيفًا من المسيحيين والمسلمين على حدّ سواء. فالمسلمون أوضحوا أن الأضحية لها شروط دينية محددة لا تنطبق عليه، في حين رأى المسيحيون في تصرفاته نوعًا من أنواع المداهنة والتملق تجاه الأغلبية المسلمة على حساب إيمانه المسيحي. وقد بدأ بعض الشباب في تتبع قصته، وكُشف النقاب عن الكثير من المعلومات عنه خلال الأيام الماضية.

دوماديوس

لمعرفة قصة القس دوماديوس وكيف بدأت في فبراير 2013، حينما أحرق سكان مسلمون متطرفون كنيسة مارجرجس سرسنا بمحافظة الفيوم ومشاكله مع الأنبا إبرآم، ، وصولًا إلى بيان الكنيسة الأخير بالتبرؤ من أي نشاط له ووقفه عن أي نشاط رعوي وعودته إلى أحد الأديرة لمدة عام، وقد نُشر هنا في الشبكة تقرير مُفصّل يمكن العودة إليه (من هنا).

السؤال المُلح في قصة القس دوماديوس وغيره من “رجال الدين” المنفلتين الذين يفعلون ما يشاؤون دون حسيب أو رقيب: أين هي قوانين الكنيسة التي يتشدق بها الكثيرون، وخاصة المتشددون مدّعي حماية الإيمان، في محاسبة هؤلاء؟ ولماذا تظل غير مفعلة؟

دوماديوس لإجابة هذا السؤال أعود إلى اليوم التالي لإجراء -4 نوفمبر 2012- التي أسفرت عن اختيار الأنبا تواضروس، أسقف عام البحيرة، لرئاسة كرسي مار مرقس، فحالفني الحظ بمقابلة البابا الجديد حيث كان موجودًا ب بمدينة وادي النطرون، محافظة البحيرة، وأعلن آنذاك أنه يولي اهتمامًا كبيرًا بترتيب البيت الكنسي من الداخل، والانتقال بالكنيسة إلى المؤسسية، وكان نهجه فيما بعد هو تعديل اللوائح القديمة لتواكب تطورات العصر، وإضافة الجديد، وبالفعل تم تعديل بعض اللوائح في السنوات الأولى لحبريته، كلائحة ولم يكن التعديل على القدر المنشود.

نجح ال في تفكيك منظومة المجلس الإكليريكي الخاص بقضايا الزواج والطلاق والتي ظلت خاضعة لسيطرة ، مطران طنطا، حتى اندلعت ثورة أصحاب المشكلة عام 2011 في حبرية ال، والتي عُرفت إعلاميًا لاميًا بـ”موقعة الكلب”، بسبب محاولة تفريق المتظاهرين باستخدام كلاب حراسة كانت متواجدة وقتها، وقد تم تحويل المجلس المركزي إلى 6 مجالس إقليمية داخل مصر وخارجها، يترأس كل مجلس منها أسقف، ويضم في عضويته كهنة وقانونيين واستشاريين نفسيين، لمدة 3 سنوات قابلة للتجديد مرة واحدة، وبعدها يتم تغيير المجلس بالكامل.

بالرغْم من هذا النجاح، لكن مع مرور الوقت لم يحدث جديد بنقل الكنيسة إلى المؤسسية، خاصة بعد مقتل الأنبا إبيفانيوس، رئيس ، ولا يمارس البابا تواضروس سلطة مطلقة كسلفه البابا شنودة، الذي حكم الكنيسة كفرد أوحد لا ينازعه أحد، وكان يخافه كل الإكليروس من أساقفة وكهنة. (لا يسري هذا على السنوات السبع الأخيرة من حبريته بسبب اشتداد المرض وكبر السن) ويواجه البابا تواضروس مقاومة الحرس القديم من رجال البابا شنودة في ، الذين يريدون بقاء الوضع السابق / الحالي خلال حبرية البابا الراحل كما هو، حيث يمتلكون سلطة مطلقة لإدارة كل شيء في إيبارشياتهم، ولا يجرؤ أحد على محاسبتهم أو المراقبة عليهم ماليًا وإداريًا. ولنا في موسم الهجرة إلى أمريكا وكندا كل عام بعد نموذجًا، فبينما كنا نكتوي خلال الأسبوعين الماضيين بموجات حارة في مصر، كان عدد لا بأس به من الأساقفة يقضي وقتًا طيبًا في أمريكا الشمالية في طقس أخف وطأة في حرارته.

“في الهوا سوا” هو اسم لفيلم مصري قديم كوميدي، لكنه تعبير يشير إلى “إننا كمجموعة في نفس المركَب”. هذه العبارة، بالرغم من بساطتها، إلا أنها توضح أزمة الكنيسة وغياب المحاسبة والشفافية فيها. فالكنيسة تعني وفق الإنجيل “جماعة المؤمنين”، وتنقسم هذه الجماعة إلى جناحين: أولهم العلمانيون (الشعب)، وثانيهم الخدام / الإكليروس / الكهنة. ومنذ عهد رسل المسيح الذين كانت مهمتهم التبشير وخدمة الكلمة، ولكي يتفرغوا لها، أوكلوا الجانب الاجتماعي إلى الشمامسة، فاختار سبعة كان من رئيسهم إستفانوس، أول شهيد في المسيحية -لم يكن من الرسل وشهد للإيمان أمام قاتليه- للجانب الاجتماعي، أي خدمة الموائد.

لكن ما حدث في مؤخرًا هو تغول فئة على حساب الأخرى، وأصبحت هناك طبقية؛ فالإكليروس أصبحوا سادة على الشعب وليسوا خدامًا له -إلا فيما ندر من كهنة وأساقفة يعرفون دورهم جيدًا لكنهم قلة ويتم محاربته من الأغلبية- وداخل الإكليروس تغوَّل الرهبان على الكهنة المتزوجين، وأصبحوا فوقهم لأن منهم يتم اختيار الأساقفة الذين يقودون الكهنة، فكل راهب هو أسقف محتمل، وتم استبعاد العلمانيين / الشعب من المشاركة في إدارة الكنيسة، بإلغاء وهيئة الأوقاف القبطية، فلم يتم انتخابهم منذ أبريل 2011، وتم حصر اختيار الأساقفة من الرهبان فقط، مما يغلق الباب أمام المتبتلين من العلمانيين لشغل تلك المهمة، فلا يهم إذا كنت دارسًا أكاديميًا للاهوت والعلوم المختلفة المُتطلب توافرها لهذه الرتبة كما في الكنائس التقليدية الأخرى، سينظر لك نظرة دونية، ولكن من المهم أن تكون من الرهبان، حتى لو كنت غير متعلم أو لديك شهادة دبلوم كأحد الأساقفة في محافظة المنيا.

لذا فإن أزمة الكنيسة الحالية تكمن في تغوَّل الرهبنة على بقية مكوناتها، والحل يكمن في إعادة التوازن بين أجنحة الكنيسة من إكليروس وشعب، وإذا لم يتم ذلك، سيظل الوضع في تردٍ إلى أن نصل إلى نقطة اللا عودة، وعندها  لن يفيد الندم على انهيار كنيستنا العريقة، والأفضل لنا جميعًا أن يدعو البابا إلى نقاش على طريقة مجمع ال الثاني الذي انعقد بين عامي  1962 و1965، حيث راجعت خلاله جميع أمورها بمشاركة كل مكوناتها، كما شاركت الكنائس الأخرى في المجمع كمراقبين. إننا بحاجة إلى الحوار والإصلاح، ذلك أفضل من الوصول إلى طريق مسدود والانهيار، فهل من مستجيب لتلك الدعوة؟

كيف تقيّم هذا المقال؟

← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←

المتوسط الحالي حسب تقييمات من القراء

كن أوّل من يقيّم هذا المقال

بما أن المقال أعجبك..

ربما اﻷفضل مشاركته مع دوائرك كي يحظى بانتشار أوسع

من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا

دعنا نعمل على تحسين ذلك

أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟

بيتر مجدي
[ + مقالات ]

باحث وكاتب صحفي ومتابع للشأن الكنسي وشئون الأقليات