عشت أكثر من شهر في العام الماضي 2023، بمدينة جنيف في سويسرا خلال انضمامي لزمالة الأقليات المنظمة من قبل مكتب المفوض السامي لحقوق الإنسان بالأمم المتحدة، تخللها زيارة لمقر البرلمان السويسري في مدينة برن، وزيارة أخرى إلى مقر مجلس أوروبا والبرلمان الأوروبي في مدينة ستراسبورج بفرنسا، وكانت فرصة جيدة للاطّلاع على الأنظمة المختلفة لتعامل الدول والهيئات الإقليمية والدولية مع مِلَفّ الأقليات ودمجهم داخل مجتمعاتهم، وكانت زيارة البرلمان السويسري ولقاء أحد أعضائه فرصة طيبة للتعرف على التنوع والتباين داخل المجتمع السويسري، وكيف يرى السويسريون أنفسهم.

يعيش في سويسرا أربع مجموعات لغوية، الغالبية للناطقين باللغة الألمانية، يليهم الناطقين باللغة الفرنسية، ثم مجموعة أقل من الناطقين باللغة الإيطالية، وأخيرًا بضعة آلاف من مجموعة الرومانش ولهم لغة وثقافة مختلفة، ومع ذلك هذه المكونات اللغوية الأربعة ممثلين في كل شيء سواء البرلمان أو الحكومة أو في وسائل الإعلام.

اللغات الرسمية الثلاث للبرلمان السويسري هي الألمانية والفرنسية والإيطالية، ويتحدث داخل البرلمان كل نائب بلغته وعلى الآخرين أن يفهمونه دون وجود تَرْجَمَة لأن من يتحدث الألمانية يستطيع سماع وفهم الفرنسية والإيطالية، والعكس بالنسبة للغات الأخرى، مثلما نفهم في مصر اللبنانيين حين يتحدثون بلهجتهم وهم يفهموننا حين نتحدث بلهجتنا المصرية.

ولأن كثيرين في مصر يرون إننا عربًا لأننا نتحدث باللغة العربية، فيأتي الرد إليهم من نائب البرلمان السويسري، الذي أوضح أن الشعب السويسري، يعتز ببلده، ولا يعتقد السويسري المتحدث بالألمانية في قرارة نفسه أنه ألماني أو يفكر في الوحدة مع ألمانيا أو النمسا المتحدثين بالألمانية مثله، ولا يرغب السويسري الناطق بالفرنسية الاتحاد بفرنسا أو بلجيكا، وهكذا المتحدث بالإيطالية، فكل منهم يرى نفسه سويسري وفقط واللغة هي الوسيلة التي يعبر بها كل مواطن عن نفسه.

لكن ما السبب الذي يبعد الشعب السويسري عن الاندماج مع شعوب أخرى؟ ببساطة الدستور والقوانين في سويسرا تطبق مبدأ المواطنة كما قال الكتاب، فكل مواطن سويسري أمامه دستور وقوانين تساوي بينهم جميعًا، لا تفرق بين مواطن وآخر، ولا تفضل الأغلبية الناطقين بالألمانية على الأقل عددًا من الناطقين بالفرنسية أو الإيطالية أو الرومانش، وهنا المواطنة هي الضامن لكل شخص منهم أن يعبر عن هويته الفرعية، فالوطن مظلة تتسع للجميع، وإن كان الشعب السويسري غير منفتح بشكل كبير على دخول وافدين من خارج سويسرا عليهم، حسب ما قال النائب، بالرغم من وجود مهاجرين من كافة دول العالم يسعون للعيش في سويسرا.

ولأني منشغل بموضوع الهُوِيَّة، وأرى أن مصر بها أزمة هُوِيَّة ضخمة واغتراب لأسباب كثيرة لن أخوض فيها حاليًا، ربما في مقال آخر،  حينما بدأت مشروع “بودكاست سلام” مع زميلتي هاجر عثمان وبدعم ” كانت أول حلقة بعنوان “مين هما المصريين؟”، وكان ضيفنا دكتور يسري مصطفى الذي وللمصادفة قال كلام مشابه للنائب بالبرلمان السويسري، ففي دولة المواطنة والقانون الحديثة، كل شخص يملك جنسية الدولة، ولديه بطاقة هُوِيَّة وطنية، له نفس الحقوق وعليه نفس الواجبات دون تمييز، بهذه الطريقة يمكن أن يعبر كل شخص عن هويته الفرعية أو الأصغر، فلن يهم إذا كنت ترى نفسك مسيحيًا أو مسلمًا، أو ملحدًا، عربيًا أو قبطيًا أو كميتيًا أو نوبيًا، أهلاويًا أم زملكاويًا، لأنه في الأساس أنت مواطن مصري.

ولكن لأننا لدينا أزمة في التحول إلى دولة مواطنة حقيقية تراعي كل مواطنيها، ولا تتخذ من هُوِيَّة فرعية واحدة، لتفرضها باعتبارها هُوِيَّة عامة لكل المصريين، وكأنه لا يوجد تنوع، فإننا نعاني من صراع الهويات الفرعية، ونرى صداه على مواقع التواصل الاجتماعي.

 

كيف تقيّم هذا المقال؟

← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←

المتوسط الحالي حسب تقييمات من القراء

كن أوّل من يقيّم هذا المقال

بما أن المقال أعجبك..

ربما اﻷفضل مشاركته مع دوائرك كي يحظى بانتشار أوسع

من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا

دعنا نعمل على تحسين ذلك

أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟

بيتر مجدي
[ + مقالات ]

باحث وكاتب صحفي ومتابع للشأن الكنسي وشئون الأقليات